الأستاذ محمود محمد طه والمثقفون (1) … بقلم: عبدالله الفكي البشير
Abdalla El Bashir [abdallaelbashir@gmail.com]
في عام 1968م أهدى الأستاذ محمود محمد طه (1909م-1985م) كتابه: زعيم جبهة الميثاق الإسلامي في ميزان: 1. الثقافة الغربية 2. الإسلام، إلى الشعب السوداني، قائلاً: (إلى الشعب السوداني: الذي لا تنقصه الأصالة، وإنما تنقصه المعلومات الوافية.. وقد تضافرت شتى العوامل لتحجبه عنها).
يهدف هذا البحث إلى التقصى في أبعاد موقف المثقفين من الأستاذ محمود محمد طه، عبر مقارنة القرائن والتتبع التاريخي والتنقيب في المصادر والمراجع، والتحليل للنصوص والمعطيات. ويسعى إلى إجلاء الظروف والملابسات التي تحكمت في بداية سيناريو المأساة، والعوامل التي تضافرت في حدوث قمتها، التي تمثلت في إعدام الأستاذ محمود صبيحة الجمعة 18 يناير 1985م، في سجن كوبر بالخرطوم بحري. يزعم هذا البحث أن مأساة الأستاذ محمود بدأت مع أنداده من طلائع المتعلمين، حينما ترسم هو طريق المواجهة والمناطحة والمصادمة للقوى الاستعمارية ولمراكز السلطة في المجتمع الدينية والتقليدية، ودعى أنداده إلى السير من أجل تحقيق الاستقلال الحقيقي وإحداث التغيير، إلا أنهم آثروا طريق المهادنة والتسوية والتصالح والتحالف مع القوى التقليدية والاستعمارية. سار الأستاذ محمود في طريق المواجهة والمصادمة بجسارته وشدة مراس فبدأت حروب المكائد والدسائس ضده، كما تبع ذلك نمو اتجاه الحسد نحوه. ويزعم هذا البحث أيضاً، أن جهود تضليل الرأي العام في الموقف من الأستاذ محمود، ومساعي تغييبه عن الذاكرة الجمعية، بدأت مع طلائع المتعلمين أيضاً، ومن شواهد ذلك إغفال جلهم لذكر الأستاذ محمود في مذكراتهم وسيرهم الذاتية، ومن ثم أخذ التضليل والتغييب طريقه إلى صحائف المؤرخين السودانيين، وإلى الأرشيف القومي السوداني، وإلى الأكاديميا السودانية. ويزعم هذا البحث أيضاً، أن بداية العداء المنظم ضد الأستاذ محمود، وشرارة الحرب الأولى ضد مشروعه، لم تنطلق من تفكير ورسم محلي بقدر ما كانت نتاج للنفوذ السياسي الخارجي، خاصة النفوذ المصري الذي اعتمد في أدواته على حلفائه المحليين من طلائع المتعلمين، ومباركة الطائفية عبر صمتها، فكانت محكمة الردة عام 1968م. ويزعم هذا البحث كذلك، أن اللبنة العدائية ضد الأستاذ محمود التي وضعها النفوذ السياسي المصري عبر أدواته وحلفائه من طلائع المتعلمين، هي التي أسست للمواقف العدائية اللاحقة من مختلف الأطراف الإسلامية في السودان، ومن بين هذه الأطراف الحركة الإسلامية السودانية. لقد جاءت الحركة الإسلامية متأخرة إلى حلبة الصراع مع الأستاذ محمود، وكانت قد باركت لبنة العداء المنظم ضده بالصمت، ثم ما لبثت ولأسباب عديدة أن دخلت حلبة الصراع لاحقاً بعداء شديد للأستاذ محمود ولمشروعه.
التزاماً بضرورات المنهج ربما توجب عليّ أولاً تعريف كلمة "مثقف". هناك الكثير من التعريفات للمثقف، يرى الأستاذ محمود في كتابه: الثورة الثقافية، 1972م، أن معنى الثقافة في اللغة العربية يرتبط بالتقويم. فتثقيف قناة الرمح يعني لغةً تقويم اعوجاجها. ولذلك فهو يرى أن المثقف ثقافة حقيقة هو الذي يجسد وحدة الفكر والقول والعمل، ويعني ذلك المعرفة المرتبطة بالاستقامة. هناك من يرى أن المثقف هو من تتوفر فيه المعرفة وعمق بعضها، وإنتاج المعرفة، والمساهمة في مجمل الحركة الاجتماعية. وعرّف د. نصر حامد أبو زيد في كتابه: الخطاب والتأويل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2000م، ص 15) المثقف بأنه: هو الإنسان المنخرط –بطريقة أو بأخرى- في عملية إنتاج الوعي. وعنى الأستاذ كمال الجزولي في كتابه: إنتليجنسيا نبات الظل، باب في نقد الذات الجمعي، مدارك للطباعة والنشر، الخرطوم، 2008م، ص 107 بالانتلجينسيا، الفئة الاجتماعيَّة السودانيَّة التي تمتهن أو تختص بالعمل الذهني من مداخله التعليميَّة (الحديثة).
يتهيكل هذا البحث مبدئياً على عدد من المحاور، قابلة للزياة، وبعضها قابل للتوسع، ذلك لأن هذا الموضوع عندي هو مشروع بحث مستمر ومفتوح. فبعد المدخل والتعريف بالأستاذ محمود والحديث عنه تأتي المحاور التالية:
1. الأستاذ محمود في مذكرات معاصريه
2. الأستاذ محمود والالتزام الأخلاقي للمبدعين:
الروائي الطيب صالح
العلامة عبدالله الطيب
3. الأستاذ محمود في موسوعات الأعلام وكتب التراجم السودانية
4. الأستاذ محمود في الإرشيف القومي السوداني
5. الأستاذ محمود والمؤرخون السودانيون
6. الأستاذ محمود والمفكرون الإسلاميون: محمد أبو القاسم حاج حمد (نموذجاً)
7. كلمة حق تقال:
الدكتور منصور خالد
الدكتور فرانسيس دينق
وآخرون
8. انتحال ونهب Plagiarization أفكار الأستاذ محمود (رصد أولى).
9. الأستاذ محمود والمثقفون الإسفيريون أو المثقفون الرقميون أو الجدد (رصد أولى).
10. خاتمة
يمثل البحث في مأساة الأستاذ محمود محمد طه (1909م-1985م)، استجابة لمتطلبات العصر، التي تحتم بالضرورة التفحص في مكونات الواقع الفكرية والثقافية، والنقد للعقل الثقافي السائد والغربلة للمفاهيم. ويمثل أيضاً، رغبة حقة في الإنتماء للمستقبل، عبر إجراء المراجعات، وتصحيح المسارات، خاصة بعد بودار الصحو من الغيبوبة المعرفية، ومؤشرات الوعي للأجيال الجديدة بعد طول آماد من التضليل لشعوب السودان وتغيبها عن الحقائق. ويمثل كذلك، إعلاناً شجاعاً عن بداية فجر جديد قوامه المكاشفة والشفافية والتفحص والتأسيس لثقافة الإعتراف والإعتذار. ويمثل أيضاً، بحثاً في تأريخ السودان وفي مدى العلمية والأمانة في كتابته وفي تعليمه. يقول البروفسير محمد عمر بشير (1926م-1993م) في كتابه: مشروع الدولة السودانية الديمقراطية: قضايا وإشكاليات البناء الوطني، جامعة أم درمان الأهلية، 2005م، (ص 8-9): (إن التاريخ في كل المجتمعات التعددية بما فيها السودان لحقه تزوير كثير، والأجيال الحالية في السودان لا تعترف بأزمتها بالصورة الحقيقية، والمدارس لا تعلم هذا التاريخ بطريقة علمية وإيجابية. إن هنالك من يطمس هذا التاريخ وما فيه من سلبيات لتحسين صورة الماضي وهنالك من يزور التاريخ بهدف الدفاع عن عقيدة، وكثيرون من الذين كتبوا في تاريخ السودان السياسي تجاهلوا تاريخ المجموعات وتاريخ الطوائف الدينية وكانت النتيجة هذه الصورة المشوهة في كثير من الأحوال لهذا التاريخ).
في هذا المشهد، يصبح البحث في مأساة الأستاذ محمود، نقداً وبحثاً في الأزمة السودانية، بكل تجلياتها: نشأة الدولة السودانية الحديثة، ومساراتها، بما انطوت عليه من أخطاء في عناصر النشأة والتكوين، سواء كان ذلك بسبب التدخلات الأجنبية، أو بما ترسمته من مسارات حددها القادة الأوائل من طلائع المتعلمين، بعد خروج المستعمر عام 1956م، واللاحقين من بعدهم. فالقادة الأوائل هم أيضاً، كانوا تحت القبضة الأجنبية، وكان جلهم أداة للنفوذ الأجنبي. يقول البروفسير محمد عمر بشير في كتابه آنف الذكر (ص 12): (لقد تكون السودان الحالي نتيجة لإدارة خارجية وبدافع المصالح الأجنبية وتكرس هذا التكوين في اتفاقية الحكم الثنائي عام 1898م، واتفاقية 1936م، وفي اتفاقية عام 1953م، وفي إعلان الاستقلال عام 1956م. لقد اكتسبت الدولة الشرعية السياسية نتيجة للاتفاقيات وليس نتيجة للاختيار والرغبة، ونتيجة لسياسات وممارسات الحكم الأجنبي فقد ولدت هشة). والبحث في مأساة الأستاذ محمود هو كذلك بحث في حركة التغيير الاجتماعي وجمودها، وبحث في العقل الثقافي السائد في السودان، والحاجة إلى تحريره من قيود الجهل وقوى الإستلاب. لقد تشكل العقل الثقافي السائد في ظل انفصال عن حقب حضارية سودانية عظيمة، وفي لحظة غيبوية معرفية –لاتزال- تجاه الثقافات المحلية، وفي ظل اضطراب في المزاج الفكري والديني، كان نتيجة لإنقلابات ثقافية وفكرية أحدثتها القوى الاستعمارية الأجنبية، وتمددت على إثرها قوى وطنية لاحقاً. إن تحرير العقل الثقافي يتبعه بالضرورة تحرير الوعي بالذاتية السودانية، خاصة لدى المثقفين وقادة السودان ومحددي مساره، الذين ورثوا من طلائع المتعلمين الكثير من العلل والقوالب التقليدية في الفكر والسياسة. وهو بحث كذلك في حالة العداء السافر والواضح في السودان تجاه التميز والتمايز والخروج عن التشابه، وتجاه المبادرات المحلية الخلاقة، والأطروحات الإبتكارية في رسم السيناريوهات والمخارج التحررية والتنموية. وهو بحث أيضاً في أزمة الفكر الإسلامي، وتأمل في الميراث الفكري السوداني. وبحث أيضاً، في أزمة القيادات، والنموذج القيادي، وفي أزمة الحكم بما يجب أن يكون عليه من عدل ومساواة وحرية. وهو بحث كذلك في ما يسميه الفنان الدكتور عبدالله أحمد البشير (بولا) بـ (البنى الأساسية لانتهاكات حقوق الإنسان في السودان)، والتي يعني بها (البنى الذهنية المفاهيمية الاجتماعية والثقافية والنفسية والسياسية القائمة في مجتمعنا). (عبدالله أحمد البشير (بولا)، "شجرة نسب الغول في مشكل الهوية الثقافية وحقوق الإنسان في السودان: أطروحة في كون الغول لم يهبط علينا من السماء"، مجلة مسارات جديدة، إعلام لواء السودان، أسمرا، العدد1، أغسطس 1998م، ص 46.
ولد الأستاذ محمود بمدينة رفاعة في نهاية العقد الأول من القرن العشرين. كان السودان وقتئذ تحت الحكم الثنائي الإنجليزي/ المصري بموجب إتفاقية الحكم الثنائي المبرمة في 19 يناير 1899م، بعد أن قضى على الثورة المهدية عام 1898م، التي كانت بقيادة الثائر الوطني الإمام محمد أحمد بن عبدالله المهدي (1844م-1885م). توفيت والدة الأستاذ محمود –فاطمة بنت محمود- عام 1915م، فعاش وأخوته تحت رعاية والدهم، وعملوا معه بالزراعة، فى قرية الهجيليج بالقرب من رفاعة. ثم انتقل الاستاذ محمود وأخوته للعيش بمنزل عمتهم برفاعة، بعد أن توفي والده عام 1920م تقريباً.
بدأ الاستاذ محمود تعليمه بالدراسة في الخلوة، ثم التحق بالمدارس النظامية، فتلقى تعليمه الاوّلى والمتوسط بمدينة رفاعة. بعد اتمامه لدراسته الوسطى برفاعة انتقل في عام 1932م إلى الخرطوم. شهدت الخرطوم، في بواكير القرن العشرين، أثناء فترة الحكم الثنائي الإنجليزي/ المصري قيام مؤسسات التعليم الحديث: كلية تدريب المعلمين والقضاة بأم درمان عام 1900م، ومدرسة الصناعة بأم درمان، وكلية غردون التذكارية عام 1902م، والمدرسة الحربية (مدرسة الخرطوم الحربية) عام 1905م، ومدرسة كتشنر الطبية عام 1924م. والمعهد العلمي بأم درمان الذي أنشئ على غرار الأزهر عام 1912م. التحق الأستاذ محمود بقسم هندسة المساحة بكلية غُردون التذكارية، وتخرج فيه عام 1936م، وهو العام الذي شهد توقيع اتفاقية عام 1936م بين بريطانيا ومصر، والتي اتاحت توافد المصريين على السودان.
كان أنداد الأستاذ محمود من طلائع المتعلمين يعانون حتى نهاية العقد الثالث من القرن العشرين من آثار إجراءات الإدارة البريطانية عقب ثورة عام 1924م. لقد أحكمت الإدارة البريطانية بعد إخماد الثورة الطوق عليهم بإجراءات مكثفة وسياسات متعسفة. نتج عنها إنشاء المتعلمين لجماعات القراءة في الأحياء والجمعيات الأدبية بأندية الخريجين والموظفين. ومارسوا من خلالها نشاطاتهم الأدبية والاجتماعية. كانت هناك "جمعية أبوروف" و"جماعة الهاشماب" (أولاد الموردة)/ مدرسة الفجر لاحقاً، و"جمعية ود مدني الأدبية"، و"جماعة الأشقاء"، وغيرها. ساهمت تلك الجماعات والجمعيات في التعلُم الذاتي؛ إلا أنها أسست بالإضافة لنظام التعليم الذي أنشأه البريطانيون، إلى نشأة المزاج الصفوي، وضعف التفاعل مع الواقع. أيضاً، أدى انزواء المثقفين في تلك الجماعات والجمعيات إلى تعميق الارتباط بمصر، فكرياً وسياسياً، والتأثر بمثقفيها، من خلال متابعة أعضائها للإصدارات المصرية من كتب ومجلات. كما أدت أيضاً، إلى التمسك بالتراث العربي، باعتباره يمثل عملاً لمقاومة الاتجاه الاستعماري لهدم اللغة العربية وآدابها في السودان. مع بداية الثلاثينات خرج المتعلمون إلى الشارع العام وشهدت مجلتا "النهضة السودانية"، و"الفجر"، كتاباتهم وقد عبر بعضها عن تطلعاته وأشواقه، وموقفه من القيادات الدينية والطائفية. عزز زيادة نشاط المتعلمين ومشاركتهم في الحياة العامة مجئ سير ستيوارت سايمز في عام 1934م حاكماً عاماً للسودان، ولحق به سير دوقلاس نيوبولد سكرتيراً إدارياً عام 1939م، وهما من الداعمين للتعامل مع المتعلمين. كانت سياسة سير ستيورات الليبرالية كما يقول الدكتور صفوت فانوس في دراسته: "دور بريطانيا في قيام وتطور الأحزاب السياسية في السودان (2)" ترجمة: بدرالدين حامد الهاشمي، صحيفة الأحداث، 21 مايو 2010م، العدد 1068: (تمتاز بكثير من التسامح والمهادنة مع الخريجين السودانيين. ولعل مرد ذلك هو الخشية من تأثير الألمان والايطاليين المتزايد في أفريقيا، وكذلك توقيع اتفاقية عام 1936م بين بريطانيا ومصر، والتي أزاحت العوائق أمام تدفق المصريين نحو السودان. كان البريطانيون يخشون إن هم لم يبدوا استجابة لمطالب المتعلمين السودانيين، أن يلجأ هؤلاء للمصرين القادمين، وأن يتحدوا معهم ضدهم. لكل ذلك تم السماح بقيام مؤتمر الخريجين في عام 1938م).
دخل الأستاذ محمود الشارع العام والخدمة المدنية بعد تخرجه مهندسًا برئاسة مصلحة السكك الحديدية، بمدينة عطبرة. ومنذ الوهلة الأولى أظهر الأستاذ محمود انحيازًا واضحاً الى الطبقة الكادحة من العمال وصغار الموظفين، كما أثرى الحركة الثقافية والسياسية بالمدينة من خلال نشاط نادى الخريجين، فضاقت السلطات الاستعمارية بنشاطه ذرعًا، فتم نقله الى مدينة كسلا فى شرق السودان فى العام 1937م، غير أنّ الاستاذ محمود تقدم باستقالته من العمل في عام 1941م، وأختار أن يعمل فى قطاع العمل الحر كمهندس ومقاول، بعيداً عن العمل تحت امرة السلطة الاستعمارية. في ذلك الوقت كانت الإدارة البريطانية قد دفعت بغير المتعلمين لتقدم الصفوف وتولي القيادة. وصاحب هذا، تمكُن الطائفية ورسوخها، ونجاح قياداتها في احتواء الجيل الحديث، واستقطابه، وإجهاض مبادراته، وتكبيله بالرؤية الطائفية لمسارات الاستقلال، فانتهت بوادر المواجهة والمجاهدة من أجل انتزاع القيادة الشعبية من الزعماء الدينيين، وتمت التسوية بين المتعلمين والطائفية، وتبع ذلك تحويل المواجهة بين المتعلمين والقيادات الدينية من ثقافة سائدة لدى الجيل الحديث، إلى عمل تقوم به قلة قليلة، نُبذت هذه القلة فيما بعد وحيكت حولها المؤامرات، وكان على رأس القلة التي استمرت في المواجهة، وحيكت من حولها المؤامرات الأستاذ محمود.
استقال الأستاذ محمود من وظيفته مع نذر الحرب العالمية 1939م-1945م، وبداية تنظيم "مؤتمر الخريجين" لدوراته، الذي تطور عمله إلى مرحلة المواجهة والمصادمة، حيث خرجت من دورته الخامسة مذكرة الخريجين عام 1942م التي طالبت الإدارة البريطانية بحق تقرير المصير بعد الحرب. ولكن سرعان ما برز انقسام الخريجين، وصراعاتهم، ودخل النفوذ الطائفي والديني الذي تسرب في وسط المثقفين منذ اضراب الطلبة –طلبة كلية غردون- في أكتوبر عام 1931م. امتص النفوذ الطائفي مبادرات المثقفين، وظهرت الخلافات بين المثقفين منذ تكوين "مؤتمر الخريجين" عام 1938م، وحيكت المؤامرات، فاصبحت "مؤتمر الخريجين" مسرحاً للصراع بين التجمعات والطوائف الدينية، وسرت روح التنافس الطائفي المحموم في المؤتمر، ورويداً رويداً غاب دوره وفقد قيمته كمبادرة من المثقفين، تسعى لتحرير البلاد والنهوض بها. ومع منتصف أربعينيات القرن الماضي، والحرب العالمية تضع أوزارها عام 1945م، بدأ مهرجان تكوين الأحزاب السودانية، فظهر حزب "الاشقاء" عام 1944م، وحزب "الأمة" عام 1945، الذي تعود جذوره إلى ما قبل ذلك التاريخ، وحول "الاشقاء" و"الأمة" تبلورت الحركة السياسية الوحدوية والاستقلالية.
حضر الأستاذ محمود في مهرجان تكوين الأحزاب السودانية معلناً فى يوم الجمعة 26 أكتوبر 1945م عن إنشاء الحزب الجمهوري، بصحبة ثلة من رفاقه هم: أمين مصطفى التنى، عبد القادر المرضى، منصور عبد الحميد، محمود المغربى، واسماعيل محمد بخيت حبّة، حيث اقترح التسمية أمين مصطفى التّنى، اشارة لمطالبتهم بقيام جمهورية سودانية مستقلة عن دولتى الحكم الثنائى، وقد أُختير الأستاذ محمود رئيساً للحزب، وعبد القادر المرضى سكرتيراً له. وقد كان الحزب الجمهورى هو الحزب السياسى الوحيد وقتها المطالب بالحكم الجمهورى، وفى المطالبة بالاستقلال التام، فى الوقت الذى كانت فيه الحركة الوطنية السودانية، بقسميها الذين يقودهما حزبا الاتحادى والامة لا يناديان الا بالاتحاد مع مصر (الاتحاديون) أو بالاستقلال فى تحالف مع التاج البريطانى (الامة).
نلتقي يوم الخميس القادم
ملاحظة: كان مصدر بعض المعلومات التي تتعلق بميلاد ونشأة الأستاذ محمود ونشاطاته وكتاباته هو موقع الفكرة الجمهورية على الإنترنت: http://www.alfikra.org