الأصل الأفريقي للحضارة : خرافـة أم حقيقـة ؟ (8) .. ترجمة / محمد السـيد علي

 


 

 




الفصل السادس

الجنس المصري كما رأه وتناوله علماء الأنثربولوجيا



بما أنّ هذه المشكلة أنثربولوجية بالأساس فإننا نتوقع من علماء الأنثربولوجيا حلها بحقائق إيجابية وقاطعة . إن الطبيعة التعسفية للمعايير المستخدمة لن تنتج عنها إستنتاجات مقبولة وتطرح في المقابل الكثيرمن (التعقيدات البحثية) التي تجعلنا نتعجب أحيانا لعدم تجاوزها تماما ليكون الحل أسهل . مع أنّ الإستنتاجات التي خرجت بها الدراسات الإنثربولوجية غير واقعية ، إلا أنها مع ذلك شهدت بشكل ساحق بوجود الجنس الأسود منذ أقدم عصور ما قبل التاريخ إلى عهد الأسرات الحاكمة . إنه من المستحيل الإستشهاد بكل الإستنتاجات هنا ، غير أنّ الدكتور / إيميل ماسولار قام بتلخيصها في الفصل العاشر من مؤلفه (ما قبل التاريخ وما قبل ظهور الكتابة في مصر – معهد الأتنولوجيا – باريس – 1949) . هنا بعض الإستنتاجات (ص 402 – 403) :


(( تعتقد الآنسة فاوست أن جماجم (نقاده) متجانسة بما يكفي للحديث عن (جنس نقاده). مع إرتفاع الجمجمة ، إرتفاع الأذنين ، طول وعرض الوجه ، إرتفاع الأنف ، معالم الرأس والوجه فإن هذا الجنس يكشف عن ملامح متشابهة مع الزنوج وأيضا مع عرض الأنف ، علو محجر العين ، طول الحنك ، مؤشر الأنف فإنه يظهر ملامح متشابهة مع الجرمان . ربما يشبه نقادة ما قبل عهد الأسرات الزنوج في بعض الملامح وربما يشبهوا البيض في ملامح أخرى )) . إن الملامح العامة للزنوج وجنس النقاده المصري قبل عهد الأسرات الحاكمة ، هي ملامح أساسية بالمقارنة بتلك التي يشتركون فيها مع الجرمان . إذا كان علينا أن نحكم بمؤشر الأنف بالنسبة لسلالتين سوداوين : الإثيوبيين والدارافيديين ، فإننا علينا كذلك أن نقدم ملامح متشابهة مع الجرمان . بجعلنا معلقين بين هذين الطرفين : الجنس الأسود والجنس الجرماني ، فإن المقاييس تشير إلى مرونة المعايير المستخدمة . دعنا نقتبس واحدا من هذه المعايير :


(( لقد سعى (تونسون) و (راندال) لتحليل أهمية العامل شبه الزنجي في سلسلة الجماجم الـ (أمره) ، (أبيدوس) والـ (هو) بشكل أكثر دقة . لقد قسموا الجماجم إلى ثلاثة مجموعات : (1) جماجم شبه زنجية : ( لها مؤشر وجه أقل من 54 ومؤشر أنف فوق الـ     50 أي ذات وجه عريض ومنخفض وأنف واسعة ) . (2) جماجم ليست شبه زنجية : ( لها مؤشر وجه أكثر من 54 ومؤشر أنف تحت الـ 50 ، أي ذات وجه طويل ورقيق وأنف ضيقة ) (3) جماجم وسيطة ( وهذه تنتمي إليها واحدة من المجموعتين الأوليتيين
من خلال مؤشر وجهها وإلى المجموعة الأخرى من خلال مؤشر أنفها ، إضافة إلى أؤلئك الذين في الوسط بين المجموعتين ) . في الحقب القديمة لما قبل عهد الأسرات فإن نسبة شبه الزنوج كانت 24% بين الرجال و 19% بين النساء ، أما في الحقبة المتأخرة لما قبل عهد الأسرات فقد كانوا 25%  و 28% على التوالي )) .


من جهته إعترض (كيث) على شرعية المعيار الذي إستخدمه كل من (تومسون) و (راندال) للفصل بين الجمجمة الزنجية وشبه الزنجية وهو يرى أنه إذا قدر فحص أي سلسلة من جماجم الإنكليز اليوم بنفس المعيار لوجد أن 30% منها تعود لجماجم شبه زنجية . في المقابل يمكننا القول أنه إذا طبق نفس المعيار على (140) مليون زنجي في أفريقيا السوداء اليوم لوجد أن (100) مليون منهم على أقل تقدير (بيضا) وفقا لذلك المقياس . علاوة على ذلك فإن الفرق بين الجماجم شبه الزنجية ، غير شبه الزنجية والجماجم الوسيطة غير واضح . في الواقع فإن شبه الزنجي ليس مكافئا للأبيض مثلما هو الوسيط . من جهته واصل (فالكينبيرجر) دراسة أنثربولوجية في دراسة جديثة إرتكزت على 1.787 جمجمة لذكور إلى أوائل عهد ما قبل الأسرات حتى اليوم وقد إستطاع تمييز أربعة مجموعات رئيسية (نفس المصدر ص 421) . لقد جرى توزيع جماجم ماقبل عصر الأسرات بين المجموعات الأربعة على النحو التالي : ((36 % شبه زنجية ، 33% من البحر المتوسط  ، 11% ماكرو – مانونيين ، 20% لا ينتمون إلى هذه الفئات الثلاثة ولكن ينتسبون إما إلى الماكرو – مانونيين (النوع أيه سي) أو شبه الزنوج (النوع بي سي) . تبدو نسبة شبه الزنوج أعلى بشكل واضح من تلك التي وضعها كل من (تومسون) و (راندال) والتي مع ذلك وجدها (كيث) مفرطة في الزيادة . هل كانت إحصائيات (فالكينبيرجر) واقعية ؟ إننا لا نملك أن نقرر ذلك . إذا كانت هذه الإحصائيات دقيقة فإن سكان ما قبل عهد الأسرات كانوا يتألفون من ثلاثة عناصر عرقية مختلفة وليس من جنس نقي كما ذهب إلى ذلك (إيليوت سميث) وهم على النحو التالي : أكثر من الثلث شبه زنجي ، ثلث من البحر المتوسط ، عشر من الكرو – مانونيين وخمس من مزيج من هؤلاء بشكل أكبر أو أقل (نفس المصدر ص 422) .


بالرغم من الإختلافات في هذه الإستنتاجات فإنها تشهد بالأساس الزنجي للشعب المصري في عهد ما قبل الأسرات وهي لا تنسجم مع الفكرة القائلة بأنّ السود  لم يتسللوا إلى مصر إلى وقت متأخر ، بل العكس إذ تثبت الحقائق  أن الجنس الأسود كان مهيمنا منذ بداية التاريخ المصري وجتى نهايته ، خاصة حينما أضيف بأن كلمة (متوسطيين – نسبة للبحر المتوسط ) ليست كلمة مرادفة للجنس الأبيض . عوضا عن ذلك ربما تمت الإشارة إلى عبارة (إيليوت سميث) ( الجنس الأسمر أو المتوسطي)  : (( لقد جعل إيليوت سميث هؤلاء المصريين القدامى فرع  مما يسمى بالجنس الأسمر الذي ليس سوى جنس البحر المتوسط أو الجنس الأوروبي الأفريقي حسب تعريف سيرجي )) – نفس المصدر 418 . إن نعت (أسمر) هنا يتعلق بلون البشرة وهي توريه  تشير إلى الزنجي فقط . لذا فمن الواضح أن كامل الجنس المصري كان زنجيا مع تسلل لقبائل بيضاء بدوية خلال الفترة العمرية .


من جهة أخرى تكشف دراسة لـ (بتري) عن الجنس المصري عن إمكانية واسعة لتصنيف سوف يدهش القاريء بالتأكيد : (( لقد نشر (بتري) دراسة عن الأجناس في مصر في عصور ما قبل الأسرات والأسرات الأولى ، أخذا تصوراته فقط في الحسبان . إضافة إلى الإكتناز فقد ميّز ستة أنواع مختلفة : النوع النسري سمة الجنس الليبي الأبيض البشرة ، النوع ذو اللحية المجدولة وينتسب إلى سلالة الغزاة الذين ربما جاءوا من شواطيء البحر الأحمر ، النوع ذو الأنف المدببة والذين جاءوا بلا شك من الصحراء العربية ، النوع  ذو الأنف المائل الآتي من مصر الوسطى ، النوع ذو اللحية الملتصقة والمتقدمة إلى الأمام وينتسب إلى مصر السفلى  ، النوع ذو الحاجز الأنفي المستقيم وهذا النوع ينتسب إلى مصر العليا . من واقع هذه التصورات فإنه يمكن الحكم بأنه كانت هناك سبعة أنواع عرقية في مصر خلال الحقب التاريخية التي درست . في الصفحات التالية سوف نرى دراسة للجماجم تصادق بالكاد على هذه الإستنتاجات )) – نفس المصدر ص 391 .


إن التصنيف يظهر لنا كيف أن العبث وعدم الجدية كانت هي المعايير التي أستخدمت لوصف الجنس المصري . في الواقع كنت قد عزمت على القيام بفحص مجهري لكثافة المسامات  للآدمة الخارجية للمومياءات ، غير أن محدودية عيناتها  لم تمكن من تقديم إستنتاج صحيح ، يستند على نطاق يشمل كامل سكان مصر . على أي حال يمكننا أن نفهم بأن الأنثربولوجيا قد فشلت في إثبات وجود أي جنس مصري أبيض ، أما إذا كان هناك أي شيء أخر فهو إثبات للعكس . بالرغم من ذلك ومع أن المشكلة قد كبتت في الكتب المدرسية الحالية ، إلا أنه في معظم الأحوال كان يتم التأكيد على أن المصريين  كانوا بيضا ولذلك فإن الأشخاص العاديين أخذوا الإنطباع بأن هذا التأكيد يفترض أن يكون قد قام على دراسات راسخة أجريت سابقا وهو أمر غير صحيح كما رأينا . إن هذا هو السبب في أن عقول كثير من الأجيال جرى تعميتها . (( في الجنوب عند المربع الشمال الغربي يقع العالم الأفريقي الأسود المحتشد ، تفصله عن الجنس الأبيض صحراء يتعذر إجتيازها والتي تشكل جزء كبيرا من الأراضي الجنوبية المنبسطة . لذا ولكونهم معزولين وغير مهيئين بفعل الحياة الإستوائية لأي تدخل فعال بين البيض ، فإن الشعوب الزنجية وشبه الزنجية ظلت بدون تأثيرعلى تطور حضارتهم الباكرة . من هذا يمكننا أن نستبعد الجنسين الخارجيين معا – المنغوليين في الشرق وشبه الزنوج في الجنوب – من أي مشاركة في أصول الحضارة أو تطور لاحق لها )) .


إن هذا نموذج للإفادات الحالية في الكتب المدرسية . إن الطبيعة الإستبدادية لـ (بريستيد) لا يعادله سوى غياب أي أساس يرتكز عليه ، حيث وقع المؤلف في تناقضاته زاعما من جهة أنّ الصحراء كانت على الدوام تمثل حاجزا بين الزنوج ونهر النيل ، فيما أورد من جهة أخرى أن هذا الوادي كان طريقهم الوحيد إلى الشمال . إن إلقاء نظرة على خريطة أفريقيا تبين أنه يمكن للمرء أن يصل إلى وادي النيل من أي مكان في القارة دون المرور بالصحراء . يستمد (بريستيد) أفكاره من مفهوم خاطيء يتعلق بإعمار القارة سكانيا . بدلا من الإعتقاد بأن السود قد تواجدوا في كافة القارة وعمدوا إلى الركون في مجموعات صغيرة بينما كانت الحضارة المصرية تتقدم ، فإن قدرا كبيرا من الأدلة يجعلنا نميل للإعتقاد بأن السود قد عاشوا في هذا الوادي بداية قبل أن ينتشروا في كل الإتجاهات في هجرات متتالية . لقد شهدت بذلك أيضا البيانات الأنثربولوجية التي أستشهد بها سابقا ، مما يشير إلى وجود الزنوج في وادي النيل منذ أقدم عصور ما قبل التاريخ . كما أنّ الطبيعة الزنجية للحضارة المصرية – كما أعترف بها اليوم – تستبعد أي إحتمال لأن تكون هذه الحضارة حكرا على الجنس الأبيض . هناك العديد من الكتاب إلتفوا حول هذه المعضلة بالحديث عن البيض ذوي البشرة الحمراء أو البيض ذوي البشرة السوداء . إن ذلك لا يبدو متناقضا بالنسبة إليهم لإعتقادهم بأنه لا وجود لأي إمكانية لأن تكون الجضارة سوداء . (( بالنسبة للأغاريق فإن إفريقيا هي ليبيا . إن هذا التعبير غير دقيق أصلا لأن الكثير من الشعوب عاشت هنا ، بجانب ما يسمى بالليبيين الذين شكلوا قسما من البيض في الحدود الشمالية أو عند البحر الأبيض المتوسط إن شئت وهم بذلك يتميزون عن عدد كبير من البيض الذين لهم بشرة سمراء أو حمراء - المصريون )) .


في كتاب مدرسي للصف الثامن قرأنا (( إن الأسود يميز بلون بشرته – هناك بيضا ببشرة سوداء – أكثر من أن يميز بملامجه : الشفاه الغليظة ، الأنف المفلطحة ، الخ ..)) بهذه التعريفات المماثلة يمكن للمرء أن يجعل الجنس المصري أبيضا وهذا أنصع برهان على سواده . إن موقف (بريستيد) في مشكلة الجنس المصري هو ذاته الذي تبناه علماء الآثار المصريون المعاصرون الذين أطلعوا على الموضوع بشكل أفضل ممن سبقوهم غير أنهم ببساطة تفادوا الموضوع  بتقديم القليل من الأفادات التي بدت كما لو أنها مدعومة ببيانات علمية سابقة . إنه إحتيال فكري . هنا ينتهي الجزء النقدي من هذا القسم . في الفصول الأولى كنّا قد ناقشنا العديد من الأطروحات التي تتعلق بأصل الجنس المصري . إن كل واجدة من هذه الأطروحات تنتمي إلى واحدة من الأنواع الموجزة أعلاه . لقد إخترتها ليس لأنها مقدمة من مرجع ما أوغيره ولكن لأنها قدمت بكثير من التفاصيل التي تمكننا من عرض التناقضات التي لا يمكن تجاوزها . بالتالي فإن هذه المراجعة مكتملة تماما . إن الصورة الكاملة التي أظهرت الفشل العام لأؤلئك الذين حاولوا الوصول لأهدافهم ، لم تحتوي على أدنى عنصر قابل لإقناع القاريء . إننا ننتقل الآن إلى الجزء البناء من هذا الكتاب وتقديم الحقائق المختلفة التي تثبت الأصل الزنجي لقدماء المصريين .


الفصل السابع
الحجج التي تؤيد زنجية منشأ الحضارة


* الطوطمية (عبادة الوثن) : في كتابه ( من القبيلة إلى الإمبراطورية ) شدّد (موريه) على الطبيعة المرتبطة بعبادة الوثن للمجتمع المصري . لقد جرى الإعتراض على أطروحته لاحقا كما لو أنّ نتائج فادحة ستنجم عنها حتما . كأمر واقعي فإن (فريزر) كان حاسما في منشأ الطوطمية ، فقد أصر على أنه وجدها فقط لدى السكان الملونين . في الواقع فإنه ليس هناك سبيل لقبول فرضيته إذا ما إرتجي أحد إثبات المنشأ الأبيض للحضارة المصرية . لذا فإن على المرء أن ينكر الطوطمية المصرية بينما عليه أن يتعقب آثارها لدى ما يسمى بالسكان الملونين مثل البربر والطوارق . إن الحماسة التي صبغت البحث في هاتين المجموعيتن – إن كان البحث ناجحا – تثبت إنه لم يعد هناك أي شك بشأن الطوطمية المصرية ، فيما فشلت محاولة خلعها على أخرين : لم يكتشف أرنولد فان قينيب ( 1873 -  1957) من جهته أي طوطمية لدى البربر . لقد إنحرف الجدل في النهاية ليؤول إلى تجريد فلسفي : حيث تحولت البيانات العرقية الجغرافية المتماسكة إلى مادة للتفكير ، إلى مشكلة في المنطق ، إلى تأمل محض ، ليصبح  ذلك مربكا بالتضمين . من غير الخوض في الفلسفة فإنه من غير الممكن إنكار صفة (المحرمات) العائدة لحيوانات ونباتات معينة في مصر والتي تماثل تلك الطوطمية الموجودة على إمتداد أفريقيا السوداء . بالمقارنة فإن هذه (المحرمات) كانت تعتبر غريبة بالنسبة للأغاريق والهنود الأوربيين الذين ليست لديهم معرفة بالطوطمية . عليه فإن الأغريق كانوا يسخرون من التبجيل الزائد من قبل المصريين لحيوانات ونباتات معينة  .


بعد مراحل معينة من التطور الإجتماعي الذي ربما هو أقل من مستوى التطور إضافة إلى الإختلاط الذي حدث لسكان مصر ، فإن زواج الأقارب والطوطمية لم يصبحا أمرا إستثنائيا بل تواجدا معا . لذا فإنه اليوم في أفريقيا السوداء فإن بعض الأزواج والزوجات يحملن نفس الإسم الطوطمي : نيدياي ، ديوب ، فال ، الخ .. واليوم لا يمكن أن يخطر على بالهم أن هذه الممارسة كانت من المحرمات . لذا فإن كلا الزوج والزوجة كانا يدركان  تماما بأنهم أجزاء حيوية من جوهر ذات الطوطم ، بمثل ما يدركان مشاركتهما نفس جوهر الحيوان وإنتسابهم إلى ذات القبيلة ، بالقدر الذي يذّكرهم بهذه الحقيقة في الغالب. بناء عليه فإن فكرة (فان قينيب) القائمة على أن المصريين  كانوا غالبا ما يتزوجوا أقاربهم الأقرب خاصة أخواتهم وهي فكرة لا يمكن أن تكون طوطمية ، قد رفضت هنا بشكل قاطع . إن الزواج بالأخت مستمد من سمة ثقافية أخرى في العالم الأسود (النظام الأمومي) سوف تناقش لاحقا .


حينما كان زواج الأباعد ساريا ، نشأ أخيرا نوع من العلاقات بين العشائر التي تعقد الزواج بين عشيرة وأخرى ( إثنين ، ثلاثة ، أربعة أو يزيد) . إن تذكر تلك العلاقة يمكن أن تفسر اليوم بالـ (خال) مثلا وهي علاقة عشائرية إفتراضية في مجتمع (الوولف) تبيح السخرية المتبادلة . بالرغم من الدراسات التي حاولت التوسع في فكرة الطوطمية ، إلا أنه يمكن القول –  مع فريزر – أنها كانت غائبة  في الشعوب البيضاء ، مع أنها ظهرت جلية في القبائل البيضاء الأخيرة التي إجتاحت أوروبا في القرن الرابع . لقد كانت هذه الشعوب في مرحلة (العشيرة – القبيلة) حينما غلّفت الطوطمية كل ممارسات الحياة وأصبح حضورها واضحا على كل مستويات التنظيم الإجتماعي . لم يكن هناك شيء في حياة تلك القبائل يعكس العلاقة البيولوجية بين الإنسان والحيوان سواء بالمغنى الفردي أو الجماعي . بالمقارنة فإنه لا يمكن إنكار أن الفرعون شارك في جوهر الحيوان (الصقر) مثلما نفعل نحن اليوم في أفريقيا السوداء .


الختان : لقد مارس المصريون الختان في عصور ما قبل التاريخ وقد إنتقلت هذه الممارسة إلى العالم السامي عموما (يهودا وعربا) ، خاصة بالنسبة لأؤلئك الذين سماهم (هيرودتس) سوريين . لإظهار أن الكولخيسيين كانوا مصريين ، يستشهد (هيرودتس) بهاتين الدلالتين : (( إن حدسي الخاص كان مؤسسا ، أولا على الحقيقة التي مفادها أنهم سود البشرة ولهم شعر أصوف . ثانيا أن الكولخسيين ، المصريين ، الأثيوبيين هي الشعوب الوحيدة التي مارست الختان منذ عصور قديمة ويعترف الفينيقيون وسوريو فلسطين بأنهم تعلموا الختان من المصريين ، كما أن السوريين الذين سكنوا حول أنهار (ترميدون) و(بانينوس) وجيرانهم الماكرونيين يقولون بأنهم قد تبنوا هذا العادة من الكولخيسيين منذ وقت قريب . اليوم فإن هذه الأمم هي فقط التي تمارس الختان ومن الواضح أن جميعهم يقلد المصريين )) . بإتفاق كل الأراء المنطقية فإنني أطلق كلمة زنجي على كل إنسان ذو بشرة سوداء ، خاصة من له شعر مجعد .  إن كل من يقبل هذا التعريف سوف يدرك أن الختان ذو منشأ مصري وإثيوبي – مثلما رأى ذلك هيرودتس – وأن المصريين والإثيوبيين لم يكونوا سوى زنوجا سكنوا أقاليم مختلفة . عليه : يمكننا فهم ممارسة الساميين عادة الختان بالرغم من الحقيقة التي مفادها أنّ تقاليدهم لم تقدم تبريرا شرعيا لها . إن ضعف البراهين في سفر التكوين تبدو نمطية : طلب الرب من (إبرام) ولاحقا (موسى) أن يختتنا إشارة إلى العهد معه ، بدون تفسير أن الختان المحتسب من وجهة نظر التقليد اليهودي ، يمكن أن تؤدي إلى فكرة التحالف . إن ذلك كله أكثر مدعاة للإهتمام لإنه قد زعم أن (إبرام) إختتن وهو في التسعين من عمره . في مصر تزوج (إبرام) هاجر إم (إسماعيل) وهي إمرأة سوداء و (إسماعيل) وهو جد العرب الفرع السامي الثاني بحسب الكتاب المقدس . لقد عرف عن (إسماعيل) أنه الجد التاريخي للنبي (محمد) . (موسى) كذلك تزوج إمرأة من (مدين) وفيما يتصل بزواجه طلب منه الرب أن يختتن . ما يجب ملاحظته في هذا القصص الأسطورية هي فكرة أن الختان دخل بين الساميين أولا نتيجة للإتصال بالعالم الأسود وهو أمر يتطابق مع شهادة (هيرودتس) .


إنه في عالم السود فقط يمكننا أن نجد أن للختان تفسير يتكامل مع التفسير العام لعلم  نشأة الكون ، خاصة مفهومه عند (الدوجون – شعب يعيش في غرب أفريقيا) كما أورد ذلك (مارسيل جرياول) ، ففي كتابه (إله المياه) يذّكرنا بأن البتر لا بد أن يترافق مع الختان . في العمليتين يزال شيء أنثوي من الرجل ويزال شيء ذكوري من الأنثى . يقصد بهذه العملية بحسب العقلية القديمة إلى تعزيز الطبيعة الغالبة لجنس واحد عند شخص معين . وفقا لمفهوم علم الكون عند (الدوجون) فإن المولود الجديد هو خنثوي إلى حد معين مثل الإله الأول . طالما جرى الإحتفاظ  بالغلفة والبظر التي هي دلالات الجنس المقابل للجنس الظاهر ، فإن الذكورة والأنوثة يكون لهما نفس القوة . لذا من غير الصحيح إعتبار المختون إمرأة ، أي مثل الفتاة التي لم تجر لها عملية البتر، مما يعني أنه ذكر وأنثى معا . إذا إستمر هذا التردد في حسم جنسه ، فإنه (إنها) لن يكون لديه إهتمام بالإنجاب . إذن هذه أسباب مختلفة للختان والبتر : الحاجة لتحليص الطفل من قوة شريرة.


لكي يكون هذا التفسير للختان صحيحا فإن الخنثوية المفترضة في الإله والتي هي السبب التقليدي لهذه الممارسة في المجتمع الأفريقي ، يجب أن تكون موجودة كذلك في المجتمع المصري . عندها يمكننا فقط التبرير في تعريف الدواعي الطقسية للختان بين المصريين وفي باقي أفريقيا السـوداء . في الواقع فإن (شامبليون) الأصغر كتب في رسائله إلى (شامبليون – فيجاك) عن الخنثوية الإلهية لـ (آمون) ، الإله الأعلى للسودان المروي ومصر (( آمون هو نقطة الإنطلاق والنقطة المركزية التي تتوحد فيها كل الخلاصات الإلهية . إن (آمون رع) هو الكائن الأصلي الأسمى ولأبيه الذي يعرف بزوج أمه ، قسمه الأنثوي المضمن في جوهره الخاص الذي هو ذكر وأنثى )) . في المقابل فإن النيل كان يمثل بشخصية أنثوية . لقد كان (آمون) كذلك إله كل أفريقيا السوداء . يمكن القول أن (آمون) قد إرتبط بفكرة الرطوبة في كل من السودان المروي ، أفريقيا السوداء ، مصر وصفته في كل هذه البلاد هي الكبش . لذا وفي كتابه (إله المياه) وحينما كتب (مارسيل جرياول) عن (آما) إله (الدوجون) فإن هذا الإله ظهر في شكل الإله – الكبش مع ثمرة يقطين (قرع) بين قرنيه . في مفهوم نشأة الكون لدى (الدوجون – السودان الفرنسي) فإن (آمون) يهبط من السماء على قوس قزح كرمز للمطر والرطوبة .
مع أنّ بعض السود تخلوا عن الختان من خلال نسيان عاداتهم أو لأسباب مختلفة أخرى ومع أن هناك إتجاه متزايد في أفريقيا السوداء نحو التبرؤ من البتر الختاني ومع أن الختان عملية مختلفة من الناحية الفنية بالنسبة للمصريين والساميين ، إلا أنه لم يغيّر  من أساس المشكلة . لكي يكون التعريف مكتملا والحجة مقنعة ، فإن البتر يفترض أن يكون موجودا في مصر كذلك . لقد أخبرنا (سترابو) بذلك : (( لقد إهتم المصريون بشكل خاص بتربية أبنائهم وختان أولادهم وحتى فتياتهم وهي عادة مشتركة مع الشعب اليهودي الذي إنبثق أصلا من مصر كما لاحظنا حينما ناقشنا ذلك الموضوع )) – الكتاب (17) – الفصل (1) – الفقرة (29) .


الملكية :
يعتبر مفهوم الملكية أحد المؤشرات الأكثر إثارة للتشابه  في التفكير بين مصر وباقي أفريقيا السوداء . لندع جانبا تلك المباديء العامة مثل الطبيعة المقدسة للملكية والتشديد على سمة نموذجية بسبب غرابتها والمتمثلة في القتل الطقسي للملوك . في مصر لم يكن للملك أن يعتلي العرش إلا إذا كان في صحة جيدة ، غير أنه يقتل عندما تتراجع قوته ، لكن سرعان ما لجأت الملكية إلى وسائل عديدة لتفادي ذلك . كان الملك متحمسا للمحافظة على إمتيازات منصبه مع المعاناة بأقل قدر ممكن من المضايقة . لذا فقد أصبح الملك قادرا على تحويل الحكم المميت ليصبح حكما رمزيا بحيث أصبح القتل الطقسي  للملك يتم رمزيا حينما يشيخ في العمر ،  فبعد إجراء الإختبار الرمزي الذي يعرف بـ (مهرجان السيد) يعتبر ذات الملك (المتجدد الشباب)  برأي شعبه مؤهلا مرة أخرى للإضطلاع بمهامه . بناء عليه فإن (مهرجان السيد) كان إحتفالا بتجديد شباب الملك : لقد أصبح الموت الطقسي وتجديد شباب الحاكم مترادفين ، بحيث يجريان في ذات الإحتفال . (شارل سيلقمان – مصر وأفريقيا الزنجية : دراسة في الملكية الإلهية – لندن – روتليدج – 1934) .


لقد إفترض كذلك أن يكون الملك الشخص المبجل الذي يكافيء التفوق أن يكون ذو قوة أو طاقة عظيمة في الحياة وحينما تتهاوى تلك القوة إلى حد أدتى معين فإن ذلك سيكون مخاطرة لشعبه إن إستمر في الحكم . إن هذا المفهوم الحيوي هو الأساس لكل الممالك التقليدية الأفريقية ، أعني كل الممالك غير المغتصبة . أحيانا يعمل ذلك المفهوم بشكل مختلف ففي السنغال مثلا فإن الملك لا يستطيع أن يحكم إذا ما تلقى جراحا في معركة ففي هذه الحالة  يحل محله أخر حتى يتعالج ، بحيث يكون ذلك الشخص أخيه من ناحية الأب  وأمه  من عامة الناس ، مثل (لات – سكوبيه) الذي أبتدر سلالة حاكمة تعرف بأسرة (جيدج) في حوالي عام  1697 . إن ممارسة إستبدال الملك متى ما تدهورت قوته ، ممارسة مستمدة بشكل جلي من معتقدات حيوية موجودة على إمتداد القارة السـوداء . وفقا لهذه المعتقدات فإن خصوبة التربة ، وفرة الغلال ، صحة الشعب وقطعان الماشية ، التسلسل الطبيعي للأجداث وكل ظواهر الحياة ، مرتبطة بشكل وثيق بإمكانية القوة الحيوية للحاكم .


مفهوم نشأة الكون :
تتشابه المفاهيم الزنجية - أفريقية ومصرية -  والمتعلقة بنشأة الكون بشكل وثيق ، بحيث تبدو في الغالب متكاملة . لفهم مفاهيم مصرية معينة ، لابد من الإشارة إلى العالم الأسود كما جرى التوثيق لذلك من خلال ما سميناه بالملكية . في الحالة الأخيرة يكفي قراءة دراسة الأب تيمبلز (فلسفة البانتو) – نشر مترجما في مطبوعة الوجود الأفريقي عام 1959) والتي قدم فيها تحليلا مرتبا للحيوية الزنجية والتي تخدم – وفقا  لتيميلز – كأساس للتصرفات اليومية للبانتو . لقد شدد العديد من المؤلفين على هذا التشابة في الأعراف ، العادات ، التقاليد والتفكير بما يكفي . ربما يستغرق الأمر أكثر من مدى العمر لتعداد كل التشابهات بين مصر والعالم الأسود من تطابقهما . لقد شدّد (بول ماسون – أورسيل) على الطابع الزنجي للفلسفة المصرية :
(( بقبولها – أي الفلسفة المصرية – فإن العقلانية التي أنجبت سقراط ، أرسطو ، إقليدس ، أرخميدس ، تطابقت مع العقلية الزنجية التي فهمهما عالم الآثار المصري كخلفية لتهذيبات الحضارة التي أدهشته . بالتجاسر بتفسير ما يفترض أن يكون -  الجانب الزنجي من العقل المصري – فإنه يمكننا إستخدامه لتفسير ماهو أكثر من سمة ثقافية واحدة )) .


إنّ هذه الهوية المصرية والثقافة الزنجية ، أو الأصح هذه الهوية ذات البنية الفكرية كما رأى ذلك ماسون – أورسيل ، تجعل العقلية الزنجية السمة الأساسية للفلسفة المصرية . إن وحدة الثقافة المصرية والزنجية لم ترد بشكل أكثر وضوحا . بسبب هذه الشخصية الجوهرية للعبقرية ، الثقافة ، الجنس ، فإنه يمكن لكل الزنوج اليوم أن ينسبوا بشكل شرعي ثقافتهم إلى مصر القديمة وأن يبنوا ثقافة جديدة على هذا الأساس . إنّ الإتصال الفعال والحديث مع تاريخ مصر القديم سوف يمكّن السود من أن يكتشفوا يوما بعد يوم وبشكل متزايد العلاقة الحميمة التي كانت قائمة بين كل السود في القارة ووادي النيل الأم . من خلال هذا الإتصال الحميم فإن الإنسان الأسود سوف يقتنع بأنّ كل هذه المعابد ، الأعمدة ، الأهرامات ، المدرجات ، النقوش البارزة ، الرياضيات ، الطب وكل هذه العلوم هي في الواقع من صنع أسلافه وأن له الحق بل الواجب أن يطالب بإرثه هذا .
(( من الآن فصاعدا وفي هذا النوع من من البحث ذو الأهمية البالغة  لبحث الفكر ، بدأنا ندرك أن جزء كبيرا من القارة السوداء ، قد أسقط  بتأثيره  في أتجاهات متعددة على مناطق عرف عنها الإنعزال الكبير كالصحارى والغابات - عكس ما أفترض عنها سابقا بأن أهلها همجيون وغير مهذبون – وهو تأثير جاء عبر النيل ومرّ عبر ليبيا ، بلاد النوبة ، إثيوبيا )) .


فيما يتعلق بعملية تجسيد  أوكتاد وإينيد ( الأسلاف المبجلين الثامن أو التاسع ) لدى الدوجون وأوكتاد وإينيد المصري فمن الضروري إعادة طرح كامل صفحات كتاب (إله المياه) لـ (جرياول) . في كلا الحالتين فإن الأزواج الأربعة جاءوا من الإله الأصلي فهم موجدي الخلق والحضارة . إن ذلك يوحي بكيفية أن غدا الرقم ثمانية أساس للنظام العددي للدوجون وبالتالي أصبح (80) معادلا لـ (100) و (800) معادلا لـ (1000) . إن ذلك يساعدنا أيضا في أن نفهم كيف أن عبادة الأسلاف أصبحت أساسا لمفهوم نشأة الكون في أفريقيا السوداء كما في مصر . بينما إنفصل الأسلاف الأكثر بعدا بطريقة ما مثل بخار ليصلوا إلى السموات ، فإن الأقربون الذين لم تطمس ذكراهم شكلوا عائلة  هي بمثابة نصف الآلهة . مع قدوم الدورات التاريخية وحينما لم يعد الحرص في تسجيل الأحداث يتيح تسجيل الأحداث المبهمة ، فإن عملية التآليه أصبحت محصورة نوعا ما . لقد إستمرت عبادة الأسلاف ، غير أنها منذ ذلك الوقت ظلت شخصيات تاريخية بشكل أكثر أو أقل .


من جهة أخرى يمكننا كذلك التشديد على التشابة بين الإله الثعبان للدوجون والإله الثعبان في البانثيون المصري فكلاهما يرقص في الظلام . في الواقع فإن (أميلينو) أشار إلى الإله الثعبان بأنه يدعى (الذي يرقص في الظلمات)  وهو بذلك يشير إلى الثعبان الذي ورد على نقش لتابوت في متحف مرسيليا ، نقش يصاحبه تصوير لمقبرة أوزيريس ( دراسة الديانة المصرية – ص 41) . في بانثيون (الدوجون) نجد أن السلف السابع الذي تحول إلى ثعبان ، قد قتل بواسطة رجاله ودفنت رأسه تحت وسادة الحداد . من هذا القبر نهض السلف – الثعبان ليرقص تحت الأرض (أي في الظلام) متحركا نحو مقبرة الرجل الأقدم سنا لإلتهامه . يمكننا التشديد على هذه السمة كإشارة محتملة لطقس أكل الإنسان ، مثل ذلك الطقس الذي وجد  في مصر في البداية والذي ربما أستمد من المباديء الحيوية للأساس الذي شكّل المجتمع الزنجي . بإستيعاب جوهر الطقوس الأخرى فإن المرء يكتسب قوتها الحيوية وهذا يزيد من مناعته ضد القوة التدميرية في الكون . بذات الرمزية يمكننا أن نقارن الإله إبن آوى المرتكب لزنا المحارم في بانثيون (الدوجون) بالذي يقابله لدى المصريين ، فهو حارس البركة التي يفترض أن يتطهر  فيها الموتى . أخيرا فإنه يمكن القول بأن  الأهمية التي تخلع على علامات البروج الفلكية في مفهوم نشأة الكون لدى (الدوجون) تستحق الإهتمام . حينما يدرك المرء أن الدوجون يعرفون نجم (الشعرى) فإنه سوف يتذكر أن التقويم المصري كان قائما على الطلوع الشمسي لذلك النجم .


التنظيم الإجتماعي :
تتطابق الحياة الإجتماعية الأفريقية مع نظيرتها المصرية بشكل دقيق . في مصر كان نظام الطبقات على النحو التالي : الفلاحون – العمال المهرة – الكهنة ، المحاربين وموظفي الحكومة – الملك . أما في باقي أفريقيا السـوداء فهو على النحو التالي :
الفلاحون – الحرفيون أو العمال المهرة – المحاربون والكهنة – الملك .

النظام الأمومي :
يعتبر النظام الأمومي هو عماد التنظيم الإجتماعي في مصر وكامل أفريقيا السوداء . بالمقارنة  لا يوجد هناك أبدا  أي دليل على وجود نظام أمومي في حوض البحر المتوسط في العصر الحجري القديم . لدعم هذه الإفادة فإننا حاجة فقط لأن نستشهد بحجج مؤلف خصص (437) صفحة في محاولة عديمة الجدوى لتبييض أفريقيا السـوداء : (( كان توارث العرش في كانو – نيجيريا – يتم على أساس النظام الأمومي وهو إرث مستمد من حوض البحر المتوسط في العصر الحجري القديم – حتى عصر هيمنة الفولاني . لقد أخبرنا بأن ملكة دوارا كان لها ثور يركب وهذا يذكرنا بعادات الجارامانت القدماء – الليبيين – وهكذا فإننا نتواجه مرة أخرى بأفريقيا البيضاء القديمة بنظامها الأمومي وهو النظام الذي يتصل بشكل وثيق بشعوب كردفان – السودان – والنوبة بما في ذلك التيدا والطوارق ، بالإضافة إلى ملوك السودان الغربي  )) – بومان – نفس المرجع – ص 313 .


سوف نلاحظ أن هذه الإفادات التي تتساوى فيها جديتها مع غموضها ، نابعة من حقيقة واحدة غير هامة وهي أن ملكة دوارا ركبت ثورا ، فيما عمل (بومان) على تبييض حتى ملوك السودان الغربي ، متوافقا مع الطريقة النازية المعروفة التي تفسر وجود  أي حضارة أفريقية بوجود نشاط  لجنس أبيض أو لذريته ، حتى إذا كان علينا أن نقر بأن هناك سودا (بيضا) أو بيضا ذوي (حمرة داكنة) مدرجين تحت المصطلح التقليدي (حاميون) كانوا موجودين . إذا كان النظام الأمومي قد ورث من بعض شعوب حوض المتوسط في العصر القديم لأستمر طوال العهود الفارسية ، الإغريقية ، الرومانية ، المسيحية وأستمر حتى يومنا هذا في أفريقيا السـوداء ، غير أنه ليس كذلك وبشكل واضح . للإستشهاد فإن (كريوس) عيّن مقدما إبنه الأكبر (قمبيز) الذي قتل شقيقة الأصغر لإبعاده عن التنافس على الحكم . في اليونان كانت الخلافة في الحكم تتم عن طريق الإنتساب الأبوي كما في (روما) . في الواقع فأنه لا يوجد في اليونان أبدا تقليد يتعلق بالنظام الأمومي وبإستثناء الحكم الذي لم يدم طويلا  للأسكندر فإن البلاد لم تتوحد أبدا . إن ملوك العصر البطولي الذين تحدث عنهم (هوميروس) كانوا فقط حكاما لمدن ، زعماء قرى ، مثل (أوليس) . كانت الخصومات بين تلك القرى ذات طابع طفولي إذ كانت الحجارة تلقى على سكان القرى المجاورة بينما هم يعبرون تلك القرى . في أفضل العهود كانت تلك المدن الإغريقية  تحكم بواسطة مغامرين وتجار طامحين إستولوا على السلطة عن طريق المكيدة . الإسكندر مثلا كان أجنبيا من (مقدونيا) .


في المقابل فقد لوحظ غياب الملكات في التاريخ الإغريقي ، الروماني أو الفارسي ، أما الإمبراطورية البيزنطية فيجب أن ينظر إليها كحالة منفصلة معقدة. بالمقارنة فإنه خلال تلك الحقب التاريخية البعيدة كان للملكاتّ وجود في أفريقيا السوداء بشكل متكرر . حينما إكتسب العالم الهندو – أوروبي من القوة العسكرية ما يكفي لقهر الدول القديمة التي عملت على تحضّره ، واجهتهم مقاومة شرسة لا تعرف الإستسلام لملكة جسّد كفاحها الفخر القومي لشعب كان حتى يومها يحكم الأخرين . هذه الملكة هي (كانديس) ملكة السودان المروي التي أثارت إعجاب القدماء بتوليها قيادة قواتها في مواجهة القوات الرومانية بقيادة القيصر أغسطس . إن فقدانها لعينها في المعركة  فقط  يعزز من المدى  الذي وصلت إليه شجاعتها ، جرأتها وإزدرائها للموت للدرجة التي إنتزعت فيه الإعجاب من متعصب وطني مثل (سترابو) الذي قال عنها (( إن لهذه الملكة شجاعة تفوق جنسها )) .




msaidway@gmail.com
/////////

 

آراء