الأوضاع الإثيوبية المتقلبة 

 


 

 

إلي حد بعيد، تشبه قصتنا مع إثيوبيا حكاية عطيل (أوثيلو) مع دزدامونا بطلة مسرحية/تراجيدية Othello التي سطرها شكسبير عام 1604م؛ وعطيل جنرال مفتول العضلات ذو منعة وبسطة في الجسم، وكان قائداً لجيش البندقية  Venice في حربها ضد الإمبراطورية العثمانية حول جزيرة قبرص؛ وهو أسمر من أصول عربية / إفريقية يقال له  المغربي  Moor؛ ودزدامونا يافعة بيضاء بلورية فاتنة تنتمي لنبلاء البندقية، عشقت عطيل رغم فارق السن وهربت معه eloped وتزوجته ضد رغبة أبويها؛ غير أن الشك المرضي عبث برأس عطيل ومزق حياتيهما، وجعله في نهاية الأمر ينشب أصابعه الغلاظ في عنق محبوبته ويخنقها حتي فارقت الحياة؛ ولكنه سرعان ما اكتشف خطله وبراءة دزدامونا - بعد فوات الأوان - فقتل نفسه.

ولقد بدأنا بالإعجاب المفرط والتبتل في شخصية أبي أحمد المنحدر من إثنية الأرومو المسلمة – المتحالفة مع الأمهرا "أرستقراطيي" إثيوبيا؛ وما فتئنا نحجّ لأديس أبا با حيث المودة والرحمة والظرافة واللطافة والانبساط والحديث الهامس والجو الساحر طول العام؛ ولفترة طويلة جداً تعاملنا مع الشقيقة إثيوبيا بحسن الظن وبالثقة المبالغ فيها، ولم يدر بخلدنا أن الحكومة الإثيوبية كانت تستدرجنا منذ عام 2011، منذ أن بدأت الإعداد لتشييد سد النهضة، مروراً باتفاقية المبادئ عام 2015، حتي تستكمل بناءه وتفرغ من التعبئة الثانية في يوليو هذا العام، ثم تتعفرت و(تسل ضنبها)، وتستأسد علينا بعد أن وضعتنا أمام الأمر الواقع، وتطرح أجندة كانت تخفيها تحت الأكمة، وتقول بأنها لن توقّع أي اتفاقية لتبادل المعلومات الخاصة بالتشغيل اليومي للسد، أو أي اتفاقية سلامة خاصة بالسد وبالحق في التقاضي إذا حدث ما لم تحمد عقباه، أي اتفاقية تحدد الآلية والجهة التي سوف يلجأ لها السودان ومصر شاكين إذا حدثت كارثة لا قدر الله بهذا السد المشكلة، كما تفعل كل الدول المتشاطئة بنهر واحد، إذا أقامت إحداها منشأةً عليه.

ولقد أخذ السودان ومصر يستنجدان بمنظمة الوحدة الإفريقية وبالاتحاد الأووبي  ثم بمجلس الأمن، وعادا أدراجهما لهذه المؤسسة الإفريقية المشكوك في أمرها وغير المحايدة إزاء مسألة السد الحساسة؛ ثم دخلت الجزائر علي الخط بغرض تحريك المياه الآسنة، ودفع منظمة الوحدة الإفريقية نحو موقف أكثر موضوعية وحيادية، وليس فقط نصرة أخيك الإثيوبي ظالماً أو مظلوما. وفي هذه الأثناء، تمضي إثيوبيا بالتخزين في الوقت الخاطئ، وبالتصعيد في التعبئة غير عابئة بمخاوف وتحفظات ومطالبات السودان ومصر.

والذي يبعث علي الحيرة أن إثيوبيا تمر بحرب أهلية ضروس، وبتمزق غير مسبوق في نسيجها الإثني المعقد، ومع ذلك تتصرف إزاء جارتيها السودان ومصر كأن شيئاً لم يكن، وكأنها تستند علي نظام مستقر وتنطلق من رؤية قومية موحدة، متحدية لكل من جاورها من الأمم والدول رغم الظرف الدقيق والحرج الذي تمر به. والسودان بالتحديد هو أول المتضررين من الشروخ والنزاعات الإثيوبية الداخلية، ويشهد علي ذلك تدفق ملايين اللاجئين من الإثنيات المقهورة نحو شرق السودان، وتحديداً ولاية القضارف التي وجدت بين ظهرانيها عبر الشهور المنصرمة مئات آلاف النازحين من إثنية التقراي الذين أقسم أبي أحمد أن يبيدهم عن بكرة أبيهم. وفي الحقيقة، وبما أن المكر السيء يحيق بأهله، فقد وقع أبي أحمد ورهطه الأمهرا المتعنطزون في شر أعمالهم، إذ وجدوا المقاتلين التقراي ذوي شكيمة وشراسة وذكاء حاد، ورأينا كيف هزموا وأسروا كتيبة إثيوبية إتحادية كاملة، وأتوا بهم مذمومين مدحورين مطأطئين لرؤوسهم من الذلة والانكسار والخجل والخسران.

وكما أربك الشك حسابات أوثيلو، يذهب الكثير من الصقور، خاصة المصريون، دون روية إلي خيار العنف حلا لمشكلة سد النهضة، أي تدميره بالكامل قبل أن يستكمل تخزين الأربعة وسبعين مليار متراً مكعباً الموعودة. وهذا اتجاه مقامر خطير ربما يقود لمثل حماقة أوثيلو التي سرعان ما اكتشف خطأها، وندم حيث لا ينفع الندم. ولقد شهدنا دلالات لهذا المنحي العدواني في التدريبات المشتركة بين سلاح الجو المصري والسوداني قبل بضعة شهور؛ ولقد كانت تلك المناورة في حقيقة أمرها فحصاً لإمكانيات ومقدرات مطار مروي كنقطة في منتصف المسافة بين جنوب مصر وسد النهضة، لتزويد الطائرات المقاتلة بالوقود. وهنالك إتجاه وسط العسكريين المصريين - يتم تسريبه عمداَ أو سهواَ - بالنية  لضرب سد النهضة بالصواريخ المحمولة بطائرات السوخوي أو المنطلقة من قاعدة ما بالسودان متفق عليها مع العسكريين السودانيين. ولقد جاءت التهديدات واضحة وضوح الشمس في خطب السيسي أمام التجمعات العسكرية المصرية في الأسابيع الماضية.

غير أن العنف لن يستولد إلا عنفاً مضادا، وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم؛ وهي عادة إفريقية متخلفة كثيرة التكرار علي الرغم من أنها تستمر لسنين عديدة بلا جدوي، كما حدث بين إثيوبيا وإرتريا طوال التسعينات، وما حدث بين النوير والدينكا بجنوب السودان بعد انفصاله عام 2011، وكما ظل يحدث في ليبيا وغرب إفريقيا بلا طائل ولا نهاية. والكل يدرك أن السودان وإثيوبيا من الهشاشة بمكان، وليس في مقدورهما خوض حرب بسبب سد النهضة غير معروف نتائجها ومآلاتها، ويصعب التكهن بالآثار السالبة للتدخل المتوقع من الطرف الثالث، أي جمهورية مصر العربية. وغير معروف إذا كانت اللعبة كلها مكيدة خديوية تهدف في نهاية التحليل لوضع يد الحكومة المصرية علي منابع النيل، تماماً كما حاول محمد علي باشا عام 1822م، (الذي نجح بالفعل في استعمار السودان لستين سنة، ولكنه خرج كسيفاً بواسطة الثورة المهدية عام 1885م).

وبينما يري المسؤولون السودانيون (ويتجاوب معهم الخبراء والوطنيون كافة) أن سد النهضة يشكل خطراً وجودياً يهدد حياة عشرين مليون سوداني، إلا أن الحرب أو الحل عن طريق الصواريخ المصرية لن يجدي فتيلا.

فهنالك العديد من أوراق الضغط التي ستؤتي أكلها بدون شك:

1. ثمة ثلاثة مليون إثيوبي عاطل بالعاصمة المثلثة بدون أوراق ثبوتية أو تأشيرة إقامة؛ ولو تم ترحيل هذه الملايين للمدن الإثيوبية الحدودية فإن النظام الإثيوبي سيرعوي، فهو يدرك أن المسألة أعمق بكثير؛ فهنالك ملايين أخري ببورتسودان وكسلا والقضارف وغير ذلك من الأمصار السودانية، ولو بدأت الهجرة العكسية لهذه الكتل البشرية الشعثاء تجاه إثيوبيا فإن هشاشتها ستصل نقطة الانهيار breaking point

2. وهناك تجارة بينية في المواد التموينية وضروريات الحياة لا يستطيع ألشعب الإثيوبي أن يتحمل توقفها ليوم واحد، كما أن موانئ السودان هي من أهم المنافذ الضرورية لإثيوبيا المنغلقة علي يابستها land locked. وهذا صنبور يمكن قفله.

3. ويستطيع السودان أن يسلط الضوء علي ما تناهي إليه من آثار الإبادة الجماعية التي يتعرض لها شعب التقراي، وهو ملايين اللاجئين الذين يحتشدون الآن بالمعسكرات المتاخمة لمدينة القضارف؛ بل تستطيع الدبلوماسية والإعلام السوداني أن يبتدروا حملة لسحب جائزة نوبل للسلام من ابي أحمد بسبب الفظائع التي ظل يرتكبها في حق التقراي طوال العام المنصرم.

4. ويمكن وقف جميع السفريات من والي اثيوبيا، برا وجوا.


وهكذا.....


         غير أن الإجراءات الصارمة من هذا القبيل تتطلب وحدة إرادة ووحدة صف سوداني، وتتطلب ترميماً وتنقيحاً وتكريباً لوحدة القوي الثورية السودانية التى نفذت ثورة ديسمبر العملاقة وأوجدت وضعاً انتقالياً محكوماً بالوثيقة الدستورية. وإذا تعامل السودانيون مع قضاياهم الحساسة مثل مشكلة مياه النيل من منطلق الروح الثورية التي عمت السودان  عبر السنتين السالفتين، فإنهم سيصنعون المعجزات، مثلما فعلوا عندما أطاحوا بأقوي حكومة إسلاموية في الشرق الأوسط، (من حيث القوي الداخلية والإقليمية والعالمية الواقفة معها)، وهو ما لم يسبقه شبيه في تاريخ المنطقة. وتنطلق هذه الروح الديسمبرية من شعارات الثورة: حرية سلام وعدالة، حيث أننا نسعي نحو تحقيق غاياتنا بالطرق السلمية المنصفة لكل الأطراف، في أجواء الحرية والشفافية؛ فنحن لا نكن عداءًا لأشقائنا الإثيوبيين ولا لغيرهم من جيراننا، إذ أن كلنا دول نامية تسعي في سبيل الرزق الحلال والتقدم الاقتصادي والاستمتاع بالحرية والحكم الراشد. وما زال المجال رحباً للتحاور مع الإخوة الإثيوبيين بالأساليب السلمية المتحضرة، ولتبصيرهم بمغبة الأنانية والغدر والجهل بالتارخ وبالمواثيق الدولية والظلم والتعدي علي حقوق الأخرين، خاصة إذا كان الآخرون هؤلاء هم الشعب السوداني الذي لا يرضي الضيم ولا يقبل الاستحقار ولا يطأطئ رأسه لكائن من كان إلي يوم القيامة.

       ولا شك أن الحلول التفاوضية المباشرة بيننا وبين الإخوة الإثيوبيين هي الأكثر جدوي، فالإخوة الأفارقة ممثلين في الاتحاد الإفريقي ليس لديهم رصيد مشجع من الحلول للمشكلات البينية التي ظلت مستعرة بكافة أرجاء القارة منذ سنين طويلة؛ فلنقوي جبهتنا الداخلية ونمتنها، وليتنا نضع في قيادة وزارة الداخلية والقوات المسلحة والأجهزة الأمنية العناصر الوطنية الثورية المستوعبة لروح ديسمبر، والمدركة لتفاصيل حقوقنا المائية، ولضرورة التعايش السلمي الودود مع جيراننا، مع الاحترام المتبادل لحقوق كل منا التي تنص عليها وتحميها الإتفاقيات الدولية والقانون الدولي والتراث الإنساني الراسخ المتعلق بالتعايش السلمي بين الدول المتجاورة والمتشاطئة.


ويقول المثل (لن يضيع حق وراءه مطالب). ولن تضيع حقوقنا في مياه النيل لو انطبقت السماء مع الأرض. ولكننا نود أن نحافظ علي هذه الحقوق بطريقة تحفظها وتحترم حقوق الطرف الآخر، بالتشاور وبالمنهج العلمي وبالتنسيق والتفاهم الإنساني وبالتي هي أحسن. نسأل الله التوفيق،  ونسأله أن يجعل العواقب سليمة.


fdil.abbas@gmail.com

 

آراء