الإخوان المسلمين والديمقراطية
alshiglini@gmail.com
الإخوان المسلمين و الديمقراطية
عادت أغاني العرس رجع نواح.. ونعيت بين معالم الأفراح
كفّنت في ليل الزفاف بثوبه .. ودفنت عند تبلج الإصباح
شيّعت من هلع بعبّرة ضاحك.. في كل ناحية وسكرة صاح
ضجّت عليك مآذن ومنابر.. وبكت عليك ممالك ونواح
الهند والهة ومصر حزينة.. تبكي عليك بمدمع سحَّاح
والشام تسأل والعراق وفارس أمحا من الأرض الخلافة ماح
أحمد شوقي
(1)
الإخوان المسلمين ،من ضيق الأفق إلى ضيق التعبير، ليس كما قال " النفري" (كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة). فهم وراء تضييق ما كان واسعاً، لأن البراح في العلم والمعرفة، هم محرومون منه. أذهانهم أرض جرداء، لن تصلح للزراعة والإنبات. يلفظون كلمة ( قطعاً ) بمناسبة وبغير مناسبة. يحبون ( القطع) في الرأي وفي اجتثاث الآخرين وأفكارهم، ويظنون أن منطقهم يظل معيباً، حتى يُردفونه بالقطع!. والقطع لا يحفّز العقل ليدعوه للتفكير، وتلك ميّزة دائهم . وكلما تحدثنا عن الديمقراطية صنيعة البشر، يقولون لنا الشورى. لا يعرفون إلى اليوم كيف يطبقون هذه الشورى.ومثل ذلك شعارهم ( الشريعة هي الحلّ).
*
هؤلاء يحبون القطيعة مع التاريخ. والقطيعة مع الأعراف، والقطيعة مع العلم وهي أشد أنواع القطيعة مرارة. فهؤلاء القوم لا يقرءون، بل يكرهون منْ يقرأ، لأن تفكيرهم مُبرمج على الطاعة ، ولديهم تقديس للقيادة، يفوق ما نحسبه. يقولون عن قيادتهم هم العلماء وأهل الحلّ والعقد، وقولهم كتابٌ كأنه منزل من السماء، وفتواهم تستوجب الطاعة. فهم يفكرون عن العوام المنتمين للتنظيم. وعملهم الدائب تجاه أحلامهم أن الخلافة الإسلامية سوف تعمّ العالم من جديد،وهم طلائع بُنات مجدها !، مع أنه ليس لديهم من علوم العصر أو وسائله أي شيء!. ويكفينا فشلهم طوال ثلاثين عاماً من التجريب في السودان، وما يسمى برزق اليوم. وحلمهم أضحى مُستحيلاً، لأن حال دولة الخلافة وتكوينها، غير قابل للإعادة. وهو خلل منهجي. والصحابة الأخيار اشتجروا والنبي لم يُدفن بعد، فتنتهم السلطة وهي بدعة ابتدعوها ليقيموا دولة، لم يكن لها شيء في نص القرآن. فمن قبلها الدولة اليونانية أخذت مداها، وبلغت شيخوختها فانهارت، وحلّت محلها الامبراطورية الرومانية، التي بلغت شبابها ثم شيخوختها ، ثم انهارت أيضاً.
(2)
جاءت الامبراطورية الإسلامية، وكان طابعها الغزو، وسلاحها الجهاد والاستيلاء على ريع الآخرين. وليس أدّل على ذلك أن الدعوة التي تزع بالسلطان ما لا تزع بالقرآن صارت حكمتهم للسعي للسلطة. لم يختلف الأمر إن كانت تلبس ثوب الدين والقداسة أم غيره. ومعارك الخلافة والتوريث بدأت منذ الخليفة " معاوية بن أبي سفيان ". كان للدولة أن تزدهر بما تكدسه من ريع الآخرين غصبا.
*
وفي أوج القوة الإسلامية تولي "هارون الرشيد" الحكم في الخلافة العباسية. وبدأ عصر زاه ارتقت فيه العلوم وسمت الفنون والآداب وعم الرخاء ربوع الدولة الإسلامية. وأنشـأ ما يعرف ببيت الحكمة في بغداد وزوّدها بأعداد كبيرة من الكتب والمؤلفات من مختلف بقاع الأرض. وكانت تضم غرفا عديدة تمتد بينها أروقة طويلة. وخصصت بعضها للكتب وبعضها للمحاضرات، وبعضها الآخر للنّاسخين والمترجّمين والمجلّدين. أصبحت بغداد قبلة طلاب العلم من جميع البلدان. وكانت المساجد الجامعة تحتضن دروسهم وحلقاتهم العلمية التي كان كثيرا منها أشبه بالمدارس العليا من حيث غزارة العلم ودقة التخصص وحرية الرأي و المناقشة و ثراء الجدل والحوار. كما جذبت المدينة الأطباء و المهندسين وسائر الصناع و كان الرشيد نفسه يميل إلي أهل الأدب و الفقه و العلم حتي ذاع صيت الرشيد وأرسلت بلاد الهند و الصين وأوروبا رسلها إلي بلاطه تخطب وده وتطلب صداقته.
(3)
جاء الخليفة" المأمون" بعد معركة نشبت بينه وبين أخيه الأمين ،وهو حالة نادرة من أحوال الخلفاء . تتلمذ "المأمون" على شيوخ اللغة في عصره كسيبويه واليزدي ويحي بن مبارك. وقيل عن المأمون: لو لمْ يكن خليفة لصار أحد علماء عصره.
وقيل إن العالِم الفلكّي "يحي بن منصور" والعالِم المشهور "محمد بن موسى الخوارزمي" كانا من المشرفين على خزانة بيت الحكّمة أيام حُكم المأمون.
للمأمون و ملك الروم مراسلات، وقد طلب في واحد منها مختارات من العلوم القديمة المُدّخر كُتبها ببلاد الروم. وعندما سنحت الفرصة، أرسل طائفة من علماء عصره فأخذوا ما وجدوه، وتمّ نقله إلى العربية. أحضر المأمون "حنين بن إسحاق"، وأمره بنقل ما يقدر عليه من كُتب الحكماء اليونانيين إلى العربية، وإصلاح ما ينقله غيره.
(4)
تلك التي أوردنا سابقاً كانت حالة نادرة من أحوال خلفاء الامبراطوريات الإسلامية، ولا أظن الإخوان المسلمين يستمسكون بها مرجعاً، بل عيونهم إلى الخلافة الراشدة وخلفاؤها الأربع، الذين اغتيل ثلاثة منهم، وثالثهم الخليفة عثمان الذي لم يتم دفنه إلا بعد يومين من اغتياله!.
*
طوال تاريخ الامبراطورية الإسلامية، مرت بذات الأحوال التي مرت بها الامبراطوريات على مر التاريخ. فجاء يوم شيخوختها، وانهارت وتقلصت في زمن الامبراطورية العثمانية، وصارت دولة تركيا بعد الحرب العالمية الأولى بحدودها المعروفة الآن، والتي أعلنت نهاية الخلافة عام 1924م. وفي تاريخنا القريب كانت الامبراطورية البريطانية التي لا تغرب عنها الشمس، ولكنها آخر المطاف غرُبت، وهي حال كل الامبراطوريات من قبل: تبدأ مرحلة طفولتها ثم شبابها وأخيراً مرحلة الشيخوخة ثم الانهيار.
*
ماذا نفعل مع منْ يريدون العودة إلى خلافة الامبراطورية الإسلامية؟
لن يعود الماضي بممالكه من جديد، لأن عقارب الساعة لا تسير إلى الخلف. فقد تطور العلم وزخائره التي لا تتحملها عقول الإخوان المسلمين. فقد انهارت معظم السلطات القهرية وممالكها، وبسطت النظم الديمقراطية سيطرتها في العالم. والديمقراطية نهج إنساني،و في طريقها إلى إصلاح ماكينتها، فكلما يمر زمان، وتطوف على الأقوام والثقافات، إلا وأصلحت من شأنها لتناسب البيئة الثقافية لشعوب العالم في عالمنا المتنوع. والذين ينقلون تجارب الآخرين بدون فكر، لن يصلوا إلا إلى حوائط تسد عليهم الطريق إلى الحُكم الرشيد. لن يقود الإخوان المسلمين السودان وحدهم، مع إزرائهم المختلفين عنهم سياسياً وعزلهم وملاحقتهم بالاعتقال أو التشريد أو القتل. ولن يفيد أن تسمي الآخرين بالكفرة أو المنافقين، بينما يستأسد أعضاء التنظيم بالتمكين والفساد من تجنيب وفقه تحلل للذين يسرقون المال العام، مع إبقاء المناصب لغير المؤهلين. لقد هدم التنظيم كل نوافذ التصدير، أكره المزارعين على الزراعة بثقل الضرائب ، وهدم مشروع القرن العشرين الزراعي وسكك حديدية بلغت 5500 كيلومتر، تجوب أرض السودان.
(5)
توجد عدة أشكال من الديمقراطية. ولكن هناك شكلان أساسيان، وكلاهما يهتم بكيفية تحقيق إرادة مجموع المواطنين المؤهلين لتلك الممارسة. أحدى نماذج الديمقراطية هي الديمقراطية المباشرة، التى يتمتع فيها كل المواطنين المؤهلين بالمشاركة المباشرة والفعّالة في صنع القرار في تشكيل الحكومة. في معظم الديمقراطيات الحديثة، يظل مجموع المواطنين المؤهلين هم السلطة السيادية في صنع القرار، ولكن تمارس السلطة السياسية بشكل غير مباشر من خلال ممثلين منتخبين، وهذا ما يسمى بالديمقراطية التمثيلية. نشأ مفهوم الديمقراطية التمثيلية إلى حد كبير من الأفكار والمؤسسات التي وضعت خلال العصور الأوروبية الوسطى، وعصر الاصلاح، وعصر التنوير، والثورات الأمريكية والفرنسية.
(6)
نحن في السودان، تشبثنا بديمقراطية " وست منستر"، مع تعديل طفيف. ولم نجهد أذهاننا أبعد من وثيقة تقرير المصير التي صنعها المستعمر عام 1953. فالسودان مستودع الثقافات المتنوعة والمتباينة. وتطور المجتمعات غير المتناسب في وطننا، فالتباين بين قومياتها وأعراقها، وثقافاتها ولغاتها، تكاد لا تلتقي على مسبحة تجمعها. وذلك داء لن يتم الشفاء منه إلا بوثيقة علمية يأخذها أبناؤها مأخذ الجد. ويتعين أن نفارق العصبيات القبلية والطائفية والثقافية المتعاركة والمتناحرة، ونسترشد بطريقة وسطى، بين الألغام وبناء طريقة مُتعرجة، توصلنا إلى أن نعيش حياة العصر . فشعار( حق تقرير المصير ) لن يقود إلا إلى تفكك وتشرزم، لا تحده حدود. وهو شعار لن يحلّ المشكلة الديمقراطية في السودان، بل يعقّدها.وفوضى السلاح يتعين أن يتوقف. والديمقراطية يتعين أن تتطور بما يناسب أهل السودان. مثلاً : لا يُعقل أن يعيّن رئيس الوزراء حكام الأقاليم، مع أن أحد هذه الأقاليم مساحته تعادل مساحة " فرنسا "، ألا وهي " دارفور". و يتعين معرفة مؤهلات و حدود صلاحية التمثيل النيابي، وتوزيع تلك الصلاحيات على المتبقي من الوطن. وفي ذات الوقت من الضروري معرفة داء رأس المال، بشقيه الداخلي والعابر للدول، الذي يعمل على تحوير إرادة الشعب، الذي يرزح في الفقر، ويحركها كيف يشاء. وعرفنا من قبل سعر " الصوت الانتخابي "، وقدرة المال على شراء الصوت. هذه معضلة، ومعضلة أخرى هي وجود شعوب مُترحلة مع مواشيها، جرياً وراء الكلأ. ومجتمعاتنا لا تعرف المراعي الصناعية الثابتة، للحوم أو للحليب ومنتجاته. فالماشية يرهقها التسفار، وتفقد الدهون المُدرّة للألبان.
(7)
يتعين علينا أن نبدأ من المكان الذي وقف فيه العالم ونتطور. وتجربة الصين الشعبية ماثلة للعيان، كيف هجرت تجاربها الماضية وبدأت تتقدم. لقد أرهقت وطننا سعي الطائفية و الأحزاب الدينية، تجُر معها خيبة الماضي: لا تخطيط ولا علم ولا اقتصاد ولا تقنية معرفة ولا دراسة مجتمع، ولا شفافية ولا إحصاءات تُمكن المُخططين من البدء. لقد بددنا الوقت في الماضي على حديث نواب البرلمان خلال الحكم الديمقراطي في مراحله الثلاثة، ومكر أحزاب التحالف لبعضها البعض. وصاروا إلى عداء، أغرى البعض باللجوء للقوات المسلحة لتخوض في السياسة، وجاءتنا الأخيرة بشرور لم نعرف لها آخر.
عبدالله الشقليني
15 نوفمبر 2018