ushari@outlook.com
أولا،
إسهام الحركة الإسلامية السودانية
يظل الإسهام التاريخي للحركة الإسلامية السودانية (الحركة) أنها بينت أن "الإسلامية" عقيدة سياسية فاسدة وإجرامية، فاسدة وإجرامية بالضرورة المفهومية، وبالتجربة التاريخية المعروفة، وكذا في ماديتها الحاضرة المتمثلة في وجودية نظام الإنقاذ. ويظل ذلك الإسهامُ المتمثل في تقديم الحركةِ نظامَ الإنقاذ لأهل السودان أعظمَ إنجاز لها. لأن هذه الحركة، بذلك إنجازها العظيم نظام الإنقاذ، أنْهت خرافةَ صلاحيةِ "الإسلامية" كفكرة سياسية، أو كنظرية للدسترة، أو كبرنامج لنظام الحكم، أو كإطار لهدي المؤسسات الحكومية أو القطاع الخاص، أو حتى كمصدر لترتيب الدولة الحياةَ الخاصة للمواطنين، في السودان.
فلنتذكر أنه أتيح لهذه الحركة الإسلامية من الموارد العلمية والمالية والتنظيمية والظروف السياقية المحلية والخارجية ما لم يتح لأية جماعة سياسية في تاريخ الإسلام منذ دولة المدينة، وربما في تاريخ العالم السياسي منذ نشأة الدولة القطرية ومفهوم السيادة.
في حياتها الأولى، أتيحت للحركة الإسلامية السودانية (الحركة) على مدى ربع قرن من الزمان فرصٌ ذهبية للتنظيم والتدريب، و"التربية"، والمشاركة في القتال، والتجريب الوزاري في نظام النميري، ومغالبة السجون، والانتخابات الديمقراطية، وزرع منسوبيها في المؤسسات، والحصول بالغش وبالاحتيال على المال العربي الإسلامي، وإلحاق الضرر بخصومها، ومن كل تلك التجارب والموارد ضمنت الحركة الجاهزية لتنفيذ مشروعها الإسلامي، في الوقت الذي تختاره.
ثم أتيح لهذه الحركة، بانقلاب عسكري إسلامي خططت له ونفذته، وبالكذب والخداع صوَّرته للسودانيين انقلابا "قوميا" وغير إسلامي، أتيح لها بآلية السطو على جهاز الدولة واحتلاله بالكامل ربعُ قرنٍ إضافي من الزمان ويزيد في الحكم المنفرد، وبقوة السلاح وبالقهر وإرهاب الدولة وبالسلوك الاحتيالي ظلت الحركةُ موضوعيا التنظيمَ الحاكم بدون معقب عليها من معارضة يؤبه لها، أو من مجتمع إقليمي ودولي وجد ضالته في انتهازية الإسلاميين وعمالتهم.
...
ولتمكين منسوبيها المثقفين الإسلاميين في جهاز الدولة، تمكنت الحركة من مسح تاريخ السودان وإلغاء أجهزته القديمة غير المأسوف عليها، وهي أصلا بالانقلاب العسكري كانت بدأت من جديد، من الأول، فأنشأت تصورها الكامل للدولة الإسلامية الحديثة بمجتمعها، في صورة "الجبهة الإسلامية القومية" التي قصدت لها الحركة أن تكون السودان كله، بألوانه.
ثم ظهرت جدية الحركة، وفقدانُها العقل، حين استحدثت وزارة متخصصة لهندسة جينات هذه الدولة الإسلامية الحديثة، وزارة التخطيط الاجتماعي، بقيادة علي عثمان محمد طه. لتخليق سودان مركوز في هذيان الإسلاميين.
وكذا لم تترك الحركة نشاطا اجتماعيا إلا وباللؤم وسوء الخلق وبالجهل قصدت تدميره، بغية تحقيق "التأصيل الإسلامي". حتى أنها كانت أتت بادعاء موغل في السفه، نسيته لاحقا، أنها كانت تريد إنشاء جماليات إسلامية، منها رقص للرجال والنساء يكون رقصا "إسلاميا"، وكان المسؤول عن تسهيل هذه البدع غازي صلاح الدين، الذي كان قريبا من الترابي، وهو ذاته غازي الذي يقول اليوم إنه والله تغير، دون أن يفصح عن كيف هو كان أصلا أيام السفه بالجماليات الإسلامية.
ولأني كنت محظورا من السفر، وكان جواز سفري في درج عبد الرحيم محمد حسين في مكتبه بوزارة الداخلية، أتيحت لي فرصة مراقبة ذلك سفه الإسلاميين وقلة عقلهم، وكان السودان ضيعتهم لتجريب كل فكرة إسلامية تافهة.
كنت حاضرا مع الجمهور الغفير من بينهم سفراء الدول الغربية حشدهم غازي لاستعراض "الرقص الإسلامي"، كان غازي مفتونا بدلفة الرقص الحديث في المخيال العالمي تحت تأثير مايكل جاكسون، فأراد المباهاة أمام الغربيين بأن في جعبة الإسلاميين لرقصا.
كان "التأصيل" الشكلي هوس الإسلاميين، وعقولهم خاوية من أفكار ذات معنى، حتى أنهم كلفوا أمين بناني بابتداع "حقوق إنسان إسلامية"، من العدم!
شاهدت حينئذ على خشبة مسرح قاعة الصداقة أشكال تخليق الشعوذة في غناء إسلامي ورقص إسلامي. ليس صعبا على القارئ أن يتصور أن العرض كان مضحكا بدرجة مأساوية فضيحة. لعلهم قصدوا تطويرا إسلاميا للنوبة المعروفة في حمد النيل بأم درمان. لذا لا يتحدث غازي ولا بقية المثقفين الإسلاميين، وهم يحبون التاريخ، عن ذلك الماضي. ولتغييب تلك الفضائح من الذاكرة الجمعية تراهم اليوم سمحوا للمغنيات في التلفزيون بالحركات الجسدانية غير الإسلامية، أو هي الحركات الإسلامية التجديدية في فقه التوحيد.
فتسجل هذه الروايات الصغيرة المشرذمة تفاهة الإسلامية وانشغال الإسلاميين بالتفاهات في نظام تافه.
...
أما وقد انهار المشروع الإسلامي ذاته، ومعه اندثر إسلاميُّ الغناء ورقصه، بقيت أنقاض تلك صروح الخبل الإسلامي في الذاكرة، فلا يُذكَر الرقصُ إلا وتأتيك في الذاكرة المجرحة صورة عمر البشير في رقصته الإسلامية بدارفور يهتز طربا، بدوره يريد بالحركات اليائسة أن ينسى الأجسادَ الممزقة والجثث المبعثرة نتاج أفعاله الدموية بالمدنيين الفور والزغاوة والمساليت.
يجب أن نتذكر دائما المدنيين في دارفور ضحايا إجرام الإسلاميين. فمن تكثُّر الجراح وأسباب الغضب إزاء الإسلاميين قتلة الأطفال في دارفور، يقرر الدماغ أحيانا أن ينسى، وإلا انفجر.
ثانيا،
الإسلامية والمسلم والإسلام
لفهم هذه الإسلامية، معذِّبة أهل السودان ومصدر شقائهم، لابد من التمييز بينها من جهة والإسلام والمسلم من جهة أخرى. ثلاثتها مفاهيم تتداخل. لكن الفروق بينها جوهرية.
فالإسلامُ نَصٌ، أو مجموع نصوص محددة، وهو كنصوص ليس مهما إلا عند تفعيله في أي من الوضعيات الثلاثة التالية:
(1) وجودية الشخص "المسلم" في حياته الأسرية الخاصة، وهو الشخص الذي له إدراك عام بتلك النصوص القرآنية والحديثية والفقهية، وهو قد يفهمها بعدة طرق، وقد يعتقد في تفسيرات لها مختلفة؛ وهذا الشخص كيان اجتماعي ذو علاقات؛
(2) وجودية "الإسلامية"، كبرنامج سياسي تُعتمد فيه نصوص الإسلام ويتم تنزيلها في جهاز الدولة والحياة العامة وترتيب الدولة الحياةَ الخاصة؛
(3) الإسلام كموضوع أكاديمي في العلوم الفلسفية أو الإنسانية بصورة عامة.
هذه هي المجالات الثلاثة الأساس التي للإسلام، كنص، حضور فاعل فيها.
...
لنقبل مؤقتا أن "المسلم" هو الشخص المعتنق ذلك الإسلام دينا، وهكذا يكيف هذا الشخص هويته الدينية والاجتماعية بصورة عامة وبدرجات مختلفة في الاعتقاد والتطبيق. وفي أقصى درجات الاختلاف يمكن ان يكون المسلم ملحدا غير مصدق في الإسلام على أساس موضوعي ويظل مع ذلك مسلما بالتكييف الاجتماعي الثقافي، ولا يمكن للمسلم الملحد أن يمرق من الإسلام أو من ملة المسلمين بصورة قطعية مهما ادعى، فله أب وأم وإخوة وأصدقاء وربما أطفال --مسلمون. الذي لا يدركه الإسلاميون الجدد أن الملحدين الأوائل كانوا الأنبياء، وكان محمد ملحدا، لأنه رفض الدين القديم الساري لدى قريش ومال وعدل وحاد عن عبادة الأصنام، وأصل الإلحاد في اللغة الميل والعدول (لسان العرب).
...
أما "الإسلامية"، وهي موضوعُ هَمِّي الأساس، فبرنامج سياسي علماني، أصحابه مثقفون لديهم غايات اقتصادية-اجتماعية يتوسلون إلى تحقيقها بأساليب عقلانية. وفي الوقائع الأرشيفية بيانٌ كاف للتعرف على أبعاد "الإسلامية" ومكوناتها: كأيديولوجية، كحركة سياسية، كعقيدة قانونية، كبرنامج ذي مشروعات، كمؤسسات تم تركيبها تركيبا، كأشخاص محددين بأسمائهم وشخصياتهم، كممارسات خطابية، كسلوكيات متوقعة، وكأفعال محددة.
وللإسلامية حضور قوي في المجال العام، إلى درجة أنك تلتقي بها وجها لوجه في مسار حياتك، لا يمكنك أن تفلت من تحكم الإسلامية، وهي تتدخل في حياتك بطريقة أو بأخرى.
تنشأ الإسلامية وتنمو حصرا بالوجود المتواتر لذلك "المثقف" المحدد، وهو الذي يكتشف احتمالاتها وإمكاناتها وفوائدها فيعتمدها ويحمل ماديتها في جسده وفي دماغه وكيانه الاجتماعي. لكن الإسلامية لا تنسحب بصورة آلية على المسلم العادي كشخص وجودي، فهو ضحيتها حين لا يكون عضوا في الحزب أو في جهاز المثقفين المحددين.
وكذا لا تنسحب خصائص الإسلامية على "الإسلام" كدين له وجود على استقلال في النصوص المكتوبة، في المصحف كالنص الأساس وفي نصوص أخرى. لكن هذه "الإسلامية" بخصائصها تصادر نصوص هذا الدين الإسلام وتعبئها لتركيب ذاتها، حيث لا توجد "إسلامية" أصلا ولا هي تنشأ أو تتنامى إلا في سياق تعبئة نصوص الإسلام وتحويلها إلى برنامج سياسي قابل للتنزيل في نظام الحكم وفي الحياة العامة والحياة الخاصة. ولا يتحقق هذا التنزيل الصحيح للإسلام إلا باستخدام تكنولوجيا العنف والقهر وإرهاب الدولة، بسبب المعارضة والرفض من قبل قطاعات واسعة من المسلمين لإسلامية الدولة.
...
ثالثا،
قصدت هذا التمييز بين فئات الإسلام والمسلم والإسلامية، كالمقدمة الضرورية لتقييم الخصيصة الجوهرية مصدر شر نظام الإنقاذ، وهي الإسلامية.
في المقالات التالية أكتب عن طبيعة إسلامية نظام الإنقاذ، وأنظر في "الإسلامية الأخرى"، الوهمية، التي يبشر بها كبار الكتاب الإسلاميين بادعاء وجود شريعة إسلامية أخرى أفضل من تلك التي ينفذها نظام الإنقاذ، وأنظر في ادعائهم أن الحركة الإسلامية السودانية لها قيم ومثل للفضيلة لكنها تعرضت لابتلاءات.
ثم أعرض إلى فقه المراحل والانتقالية لدى الحركة الإسلامية السودانية وكيف أنه يستحيل على الإسلاميين رد عقارب الساعة إلى الوراء، فما أن كانوا اندرجوا في الفساد والإجرام والتعذيب يظلون كذلك دائما فاسدين مجرمين زبانية التعذيب، ولا يعدو خطابهم الجديد عن الحريات أن يكون هذيانا إسلاميا.
ثم أقدم بيانا مختصرا لدلالة الملاقاة التاريخية العنيفة بين العرب المسلمين الغزاة والسكان الوطنيين في بلاد النوبة والبجا، وكيف أن دخول العرب من مصر إلى السودان لم يكن لأغراض الإسلام وإنما كان للنهب ولضمان رد العبيد الآبقين إلى الملاك العرب المسلمين في مصر، وتم استخدام الدين الإسلام لاحقا كغطاء أيديولوجي لشرعنة ذلك النهب. وقد شكل تواتر هذه الملاقاة العنيفة والاستغلالية تاريخ العلاقات العنصرية في السودان منذ ذلك الغزو حتى يومنا هذا.
...
يظل هدفي، من جميع هذه المقالات، عن السلطة القضائية الفاسدة، أو عن جنوب السودان، أو في تفكيك خطاب الكتاب الإسلاميين، يظل الهدف الإسهام في تثقيف الشباب، في سياق تعزيز المقاومة لغاية تقويض شرعية نظام الإنقاذ كالدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة.
ولا يكون مثل هذا العمل الفكري إلا بالتفكر في ملامح البديل. وأيا كانت هذه الملامح لا أراها إلا في إدراك الشباب أنه يلزمهم البدء من جديد، من الأول، من الصفر، كما يذهب القول، لتغيير السودان الذي أفسدته الحركة الإسلامية السودانية، الثابت أنها حركة إجرامية فاسدة ورَّثت شباب السودان هذي جيفة الإنقاذ، تريد الجيفة اليوم تمديد هيمنتها بخطاب عن "الحريات" مسكون بالغش.
فيتعين على الشباب، ومن بينكم شباب الإسلاميين المخدوعين بخرافة أن في الاسلام حلا، لكنكم شباب الإسلاميين في مقدوركم التخلص من هذا الوهم، بالتفكير، وبقراءة كتاب د. محمد محمود عن نبوة محمد التاريخ والصناعة، فيتعين عليكم مجتمعين، كشباب السودان، من الجنسين وأكثر، في كل مناطق السودان، عليكم التفكر في كيفية هذا البدء من جديد، من الأول. بفهم مختلف جذريا.
...
عشاري أحمد محمود خليل
ushari@outlook.com