“الإسلاميون” .. بين النوستالجيا واستحقاقات عودة الوعي

 


 

 



تصادف هذه الأيام ذكرى مرور ربع قرن على استيلاء "الحركة الإسلامية" على السلطة بإنقلاب عسكري في العام 1989, ومرور خمسة عشر عاماً على انقسام "الإسلاميين" في العام 1999, وبين يدي مقال أعده بهذه المناسبة, آثرت إشراك الأصدقاء في هذا المقال القديم بعنوان: "الإسلاميون" بين النوستالجيا واستحقاقات عودة الوعي, الذي كتبته قبل عامين ونصف, ونشرته صحيفة إيلاف وعدد من المواقع الإسفيرية, وبالطبع جرت مياه كثيرة تحت الجسر منذ ذلك التاريخ, وبالتالي بروز معطيات جديدة يجب أن توضع في الحسبان. وهذه توطئة لتقييم أكثر شمولاً وعمقاً لمردود تجربة "المشروع السلطوي" ل "الحركيين الإسلاميين" الذي سنتناوله بإذن الله في المقال القادم.
وإلى مقال: "الإسلاميون" بين النوستالجيا واستحقاقات عودة الوعي
أين تكمن علة الحركة الإسلامية السودانية، ما داؤها وما هو دواؤها، وما هو سبب ورطتها الحقيقي، وهل من سبيل إلى مخرج من مأزقها العميق الحالي وما جره حكمها على البلاد والعباد، وكيف ذلك؟.
تكاثرت أخيراً حمَّى المذكرات الاحتجاجية التي تداعى لها (الإسلاميون) بعد أن طفح الكيل ولم يعد من سبيل إلى الاختباء وراء حالة الإنكار واستمرار الصمت أو التغافل عن تبعات التيه الذي طال أمده وقد بانت عواقبه الخطيرة المنذرة أشد وضوحاً ليس بذهاب ريح حركة الإسلام السياسي في السودان فحسب، بل بتهديد وشيك غير مسبوق ينذر بذهاب ما تبقى من أوتاد الوطن.
وشكراً لثورات الربيع العربي، وللشباب الذي أطلقوا شرارتها، إذ لولاهم لما اكتشف (الإسلاميون السودانيون) أن رياح التغيير والحرية والثورة على الاستبداد التي عمت المنطقة فضحت ذرائعية وضحالة المشروع السياسي لـ(الحركة الإسلامية السودانية) إذ ضبطتهم متلبسين بالوقوف في الجانب الخاطئ والخاسر من التاريخ، وزاد الأمر ضغثاً على إبالة أن الحركات الإسلامية في المنطقة التي شهدت صعوداً سياسياً غير مسبوق بمشروعية شعبية حقيقية مستفيدة من الرهان الصحيح على الحرية تجافت كلها عن تجربة رفيقتها السودانية وأنكروها ولم يروا فيها بفعل كثرة جرائرها ما يدعو إلى التأسي بها، وفضلوا الاقتداء بتجرية حزب العدالة والتنمية التركي يفتخرون بها على الرغم أن نجاحها تم في حاضنة علمانية، ولعل أبلغ شهادة سلبية وإدانة تاريخية في حق التجربة السودانية ما شهدت به رصيفاتها وكلها تنأى أن تُوصَمَ بها وبعضها كحركة النهضة التونسية كانت تُعد ذات يوم من مدرستها.
وشكراً لاستقلالِ دولةِ جنوبِ السودان، الذي صادف عام الربيع العربي وتحولاته، فقد كشف على مضاضته أكبر جرائر حكم (الحركة الإسلامية) كافة، فالمشروع الذي برر لنفسه أخذ السلطة بالتغلب بدعوى إنقاذ البلاد انتهى إلى نقيض تعهدات بيانه الإنقلابي الأول تماماً حتى أن أحداً من قادة الحكم لن يجرؤ اليوم على ذكر بند واحد منها، فتقسيم البلاد تم دون تحقيق السلام الموعود، المقابل الذي كان ينتظر ان يكون مقبولاً شيئاً ما، في أكبر رهان خاسر عرفته طبقة حاكمة تصرفت في حقوق السودانيين بأجندة ذاتية بلا خشية من تبعة، وتوالت سِراعاً تَبِعاتُ التقسيم التي أدخلت البلاد في نفق ضيق سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، والمفارقة أن لا أحد هناك من المسؤولين الحاكمين يبدو مستعداً لتحمل المسؤولية السياسية والوطنية والأخلاقية بعد كل ما جرى، ويتصرفون ببرودة يحسدون عليها كالمعتاد كأن شيئاً لم يحدث.
على كثرة المذكرات الاحتجاجية في الآونة الأخيرة وسط قطاعات واسعة من (الإسلاميين) التي تحمل ارهاصات بداية صحوة من غيبة وعي طالت لعقدين ونَيِّف، وبدأت تشهد تَحوُّلاً من مجردِ حالةِ تململٍ وتَذَمُرٍ من الأوضاع الراهنة إلى حالة حَرَاكٍ لا يزال يتلمَّس طريقه للتشكُّل ويحتاج إلى وقت ليتبيَّن مداه واتجاهاته وتأثيره الفعلي في مجرى الأحداث، ومع ذلك فقد أولت اهتماماً جد محدود لتشخيص عميق لجذور أزمة (الحركة الإسلامية) وانعكاستها السلبية البالغة الخطورة على مصير البلاد ومستقبلها، وافتقدت لطرح جديد جريء لاستراتيجية خروج عاجلة من النفق المظلم الذي تكابده البلاد.
تجنح غالبية (الإسلاميين) إلى تحميل تلك الفئة المسيطرة حالياً على مفاصل سلطة (الحاءات الثلاث)، الحركة والحزب والحكومة، وهم للمفارقة الوجوه نفسها على تعاقب فصول السنوات العشرين الماضية وتقلباتها السياسية، باعتبارها الطرف الوحيد المسؤول بالكامل عما آل إليه سوء الحال والمُنْقَلَب الذي حاق بالحركة الإسلامية حتى بات السؤال عن حقيقة وجودها فعلاً مثاراً بقوة، وأحاط بالبلاد وأورثها هذا الوضع المأزقي المنذر بعواقب لا يعلم مداها إلا الله، ويذهبون في تشخيص الأزمة إلى أنها نتيجة لانفراد هذه الفئة بالأمر واستئثارها بالسلطة وتحكمها بالقرار في مصائر البلاد والعباد، وتجاهلها لمرجعية الحركة، وأن ذلك هو أس كل البلاء، وأن الحل يكمن في إعادة إحياء الحركة الإسلامية واستعادة وحدتها ودورها المرجعي وتجديد القيادات.
وفي الواقع فإن هذا النمط من التفكير الغالب في أوساط (الإسلاميين) يعكس اتجاهاً محافظاً وعقلية تقليدية لا تبدو مدركة لحجم فقدان المصداقية الذي لحق بالحركة، ولا تبدو مستعدة لإصلاحات جذرية، بل تنكفئ على مسعىً واحدٍ واضحٍ يهدف بالأساس للمحافظة على الوضع الراهن مع إدخال بعض التحسينات الشكلية وتبديل في الوجوه تحت لافتة تغيير محسوب، محدود الأفق، ومنخفض السقف للغاية.
ومشكلة هذا الاتجاه (الإصلاحي المحافظ) تكمن في أنه مع إحساسه بخطورة ما آلت إليه أحوال السودان بعد ربع قرن من سيطرة (الإسلاميين) المطلقة على الحكم في البلاد، وإدراكه أن أسباب استمرار وجود النظام تآكلت، وأن فرصه في البقاء آخذة في النفاد، حتى اضطر للتحرك ولو متأخراً في محاولة لا تخلو من عراقيل لتدراك ذلك وتبعاته، ومع ذلك لا يبدو أنه يدرك بصورة جيدة أن المطلوب للخروج من هذا المأزق المصيري أكبر بكثير من محاولات إصلاح محدودة وخجولة لا تخلو من السطحية والمظهرية، ولا تكاد تلامس جوهر الأزمة.
ومن الخفة بمكان أن ينظر للأمور بعد كل هذه السنوات الطويلة من التجربة المتعثرة للحكم وكأن الأزمة هي مجرد مشكلة تنظيمية تتعلق بمغالطات حول وجود الحركة الإسلامية الفعلي، أو دورها المرجعي المفقود أو المسلوب، أو احتكار فئة للقيادة واستئثارها بالسلطة، الواقع أن هذا كله صحيح جزئياً، ولكنها تبقى مجرد نتائج عرضية، وأعراض لمرض دفين، وليس بأي حال من الأحوال أسباباً حقيقية لجوهر الأزمة، فأزمة الحركة الإسلامية الحقيقية التي ينبغي الاعتراف بها هي أزمة فكرية ومنهجية بالأساس ترتبت عليها ممارسة ذرائعية وميكافيلية للسياسة تحت لافتة شعارات إسلامية براقة دون التقيد بما يمليه الوازع الديني أو الأخلاقي المكافئ لمن يتجرأ على رفع مُثل الإسلام التي تتطلب درجة عالية من الالتزام والحس الأخلاقي والضمير الحي.
ومأزق الحركة الحقيقي ليس وليد اليوم، فالنتائج الكارثية التي انتهت إليها وتواجه تبعاتها الآن تعود جذوره إلى ذلك التصور الفطير المحدود الأفق الذي تبنته باعتباره النموذج الإسلامي الوحيد المعتمد الذي تسعى لتطبيقه في السودان بلا وعي عميق بطبيعة تركيبة البلاد المتعددة الأعراق والثقافات والديانات، وبلا تجديد فكري واسع الأفق يستوعب هذا التعدد والتنوع ويستفيده في إرساء تجربة إنسانية ثرية تقوم على هدي الدين وتسامحه وسعته، لقد ذاع عن الحركة الإسلامية السودانية أنها حركة تجديدية، لكن إن بحثت فلن تجد لهذا التجديد المزعوم من آثار فكرية اللهم إلا من شذرات لم يثبت أبداً أنها كانت بحجم تحديات الواقع الاجتماعي في السودان ولا في مستوى تعقيداته، ولا شيء أدل على ذلك أن حصيلة ربع قرن من سيطرة الحركة على السلطة في البلاد هذه الحالة غير المسبوقة من الإنكفاء إلى القبلية والعنصرية والجهوية أدت إلى تقسيم البلاد وتنذر بالمزيد من التشرذم، وهو أمر لم يحدث اعتباطاً ولكنه نتيجة لسياسة مدروسة في إطار لعبة السيطرة على السلطة.
كان كعب أخيل (الحركة الإسلامية السودانية) هذا الولع الشديد والمبكر بلعبة السياسة والتعجل للوصول إلى (السلطة) واعتبارها الطريق الأسهل والأسرع إلى إحداث التغيير الذي ترفع شعاراته متعجلة تحقيقه وفي حسبانها أن (السلطان) أمضى من (القرآن) وأفعل. وما كان في أمر الاهتمام بلعب دور سياسي مؤثر من بأس لو أنها التزمت طريقاً مشروعاً وممارسة تتفق وقيم ومقاصد الإسلام الذي ترفع راياته، وأن تظل السلطة مجرد وسيلة لتحقيق مشروعها وليست غاية في حد ذاتها. وقد تيسر لها أن تكون طرفاً فاعلاً في الساحة السياسية السودانية بدرجة أكبر بكثير من حجمها الجماهيري الحقيقي ما بين عقدي الستينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وبدت فرصها السياسية تزداد مع كل احتكام شعبي انتخابي.
وستبقى خطيئة (الحركة الإسلامية) الكبرى وجنايتها التي لا تغتفر إقدامها على الإنقلاب العسكري في العام 1989، ولست هنا بصدد تقييم مبرراته ولا الموقف الأخلاقي للإنقضاض على نظام ديمقراطي كانت طرفاً فاعلاً فيه ومسؤولة عن حمايته والدفاع عنه وليس الإنقلاب عليه، ولكن أركز هنا عن جنايته على الحركة نفسها وما جره عليها، حيث تُقال الكثير من الأسباب من قبل قيادة الحركة في تبرير هذا الانقلاب، وبغض النظر عن وجاهة تلك المبررات حينها، ولو افترضنا جدلاً بأنه لم يكن هناك من سبيل لتفاديه، وأنه تم بموافقة وتراضي واسع من قادة الحركة إلا نفر قليل اعترضوا عليه، وأنه وجد حماسة كبيرة وتدافعاً لنصرته من قبل معظم أفراد الحركة، ومع تقدير كل تلك الحيثيات إلا أن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أنه قد جفت صحف ورفعت الأقلام ولا مجال لفتح هذا الملف وإعادة تقييمه والاعتبار بتجربته وأخذ العبرة والدروس منه، فالعبرة بالنتائج الفعلية والتبعات التي ترتبت عليه، ولا تكفي النيات مهما حسنت لطي صفحته، كما لا يمكن المكابرة وعدم الاعتراف بأنه الخطيئة الكبرى التي أسست لكل ما تلاه من خطايا، وأنها مهما عظمت فليست سوى ثمرات مُرَّةٍ للخطيئة الأولى.
فقد كان المضي في طريق الإنقلاب قرار انتحاري قصير النظر، ربط مصير الحركة بقنبلة السلطة الموقوتة، لقد كان طريقاً ذا اتجاه واحد رهنت فيه الحركة الإسلامية مصيرها النهائي بمصير سلطة إنقلابية، وعندما تصل إلى السلطة بقوة السلاح فلا سبيل للمحافظة عليها إلا بالقوة، وستبدو أية محاولة لاحقة لإضفاء مشروعية شعبية عليها أمراً هزلياً بامتياز، وعندما تتحول المعركة إلى معركة وجود وبقاء بقوة السلاح وعنف السلطة وليست معركة من أجل القيم الإسلامية المرفوعة، فالنتيجة معروفة تذبح كل القيم الفاضلة على عتبة المحافظة على السلطة بأي ثمن لضمان البقاء في سدتها، وللمفارقة باسم الإسلام نفسه تُكبَّلُ الحريات، وتُنتَهَكُ الحرمات، وتُزهَقُ الأنفس، ويُحارب الخصوم في أرزاقهم وقائمة تطول ولا تنتهي من الأفعال التي يندى لها الجبين، وتبدأ دائرة جهنمية مفرغة في معركة بقاء لا تنتهي من أجل السلطة التي تحولت من وسيلة إلى غاية في ذاتها.
يحتج نفر من (الإسلاميين) بأن الحركة كانت أكبر ضحايا انقلابها، وأن قادتها انقلبوا إليها وحلوها، أو أحالوها إلى التقاعد لا يستدعونها إلا عند الملمات، وحكموا باسمها وتركوهم يتحملون المسؤولية عن كل الأخطاء التاريخية الكارثية دون أن يكونوا شركاء حقيقيين في اتخاذ القرار، وهذا صحيح ولكن المشكلة هنا ليست في قادة الحركة وحدهم ولا يعني ذلك إعفاءهم من المسؤولية، ولكن تلك هي قواعد اللعبة ف(الإسلاميون) لم يتخذوا موقفاً مبدئياً ضد الانقلاب بل اعتبروه مشروعاً، وعدوا الوصول إلى السلطة والسيطرة عليها بالتغلب إنجازاً ومكسباً لا يمكنهم التنازل عنهم ولم يجدوا مندوحة حتى في الإطاحة بعراب النظام وزعيم الحركة من أجل الحفاظ على هذا الوضع، وليس لهم أن يحتجُّوا بعد ذلك إنْ ذاقوا من الكأس نفسه، وتَوَجَّبَ عليهم دفعُ ثمنِ غفلتِهم تلك، والذين استاءوا من رسالة الرئيس البشير للساعين إلى استعادة مرجعية الحركة التي رفض فيه الوصاية على الحزب الحاكم ولو من الذين أتوا به ينسون أن الحركة هي التي صنعت شرعية البندقية وكرستها، وليس لها اليوم أن تحتج عليها وعلى تبعاتها المنطقية وقد انقلب السحر على الساحر.
وما من سبيل أمام (الإسلاميين) اليوم إلا التحلِّي بالشجاعة الكاملة، والوعي العميق، والأفق الواسع لإجراء مراجعة جذرية شاملة بداية من الأفكار المؤسسة للتيار الإسلامي وتصوراته الأساسية تأخذ في الاعتبار نتائج هذا الفشل الذريع للغارة الانقلابية التي جاءت وبالاً عليهم وعلى البلاد، ليس مطلوباً من (الإسلاميين) أن يكونوا ملائكة لا يخطئون، أو لا يسيئون التقدير، ولكن المطلوب بالتأكيد أن يكون هناك استعداد للتحلي بفضيلة المراجعة الحقيقية والاعتراف بالأخطاء وإعمال النقد الذاتي الامين، والعمل على إصلاحها بجد واجتهاد، وتعاليم الإسلام تهدي إلى أن (خير الخطائين التوابون)، والتيار الإسلامي سيظل موجوداً لا يمكن شطبه أو إلغاء دوره أو محوه، ليس بأشخاص بعينهم بالضرورة أو بهذه اللافتة أو تلك، وسيظل هناك من يدعون لتيار إسلامي رشيد لأنه يعبر عن أفكار وتوجهات لها جذور أصيلة في المجتمع السوداني، بيد أن أيَّ دور مستقبلي يعتمد في قيمته أو مداه، وقبل ذلك القبول به شعبياً، على القطيعة مع هذه النزعة الانقلابية على قيم الدين قبل أن تكون على الشرعية السياسية فقط من أجل الحصول على السلطة والمحافظة عليها بأي ثمن.
وهذه المراجعة الحتمية للفكر الإنقلابي، ونبذه، والعمل على محو آثاره ورد الحقوق إلى أهلها، ليس ترفاً أو مما يمكن القفز عليه لِلَعب أي دور مستقبلي، أو الاكتفاء بالاختباء وراء عملية ترقيع سطحية تعنى بتبديل الوجوه والسحنات دون أن تغوص في عمق أسباب الأزمة. لأنه أصل وأساس كل المفاسد التي توالت لاحقاً، وليس لأحد أن يستغرب ذلك أو يغالطه، فالسلطة بطبعها تفسد فما بالك حين تكون سلطة مطلقة لا حسيب ولا رقيب عليها، كما ذهب إلى ذلك لورد آكتون ( السلطة تميل إلى الإفساد، والسلطة المطلقة مفسدة بالمطلق، والرجال العظام يسيئون غالباً في ممارستهم التأثير حتى دون سلطة، زد على ذلك الفساد الناتج عن السلطة المطلقة)، أليس في هذا التشخيص عبرة إذا كان لورد آكتون يتحدث عن حال السلطة في بلد ذي تقاليد عريقة في الديمقراطية كبريطانيا العظمى.
ولم يذهب معاصره المصلح الإسلامي الكبير عبد الرحمن الكواكبي، الذي توفي في العام 1902 وهو العام نفسه الذي توفي فيه لورد آكتون، بعيداً عندما خلص في سفره العظيم (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) إلى نتيجة مماثلة بأن الاستبداد السياسي هو أصل داء الانحطاط في العالم الإسلامي، (ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية) على حد تعبيره. ويصف الاستبداد بأنه (صفة للحكومة المطلقة العنان فعلاً أو حكماً التي تتصرف في شؤون الرعية بلا خشية حساب ولا عقاب محققين، وبلا إرادة الأمة).
لقد أثبتت التجربة السودانية أن (الإسلاميين) وقادتهم على وجه الخصوص بشر عاديون ممن خلق الله، لم يمنحهم مجرد رفع شعارات إسلامية أية حصانة أو امتياز أخلاقي أو حماية من الوقوع في براثن مفاسد السلطة المطلقة، صحيح ان الإسلاميين ليسوا سواءً فمنهم من بلغه به الإيثار حد التضحية بنفسه من أجل المشروع الذي آمن به، بيد أن المفارقة جاءت من القادة الذين غلبت عليهم الإثرة فبدلاً من أن يستفيدوا من رصيد التضحيات الكبيرة هذه في إرساء القيم والحكم الراشد، حولوها إلى وقود لتحقيق المطامح الشخصية واحتكار السلطة والاستئثار بمكاسبها ومغانمها.
ولو كان من درس بليغ وحيد من هذه المقامرة الخاسرة بالرصيد الأخلاقي للمشروع السياسي للحركة الإسلامية السودانية، فهو أنه لا سبيل لأي صلاح أو فلاح لأي مشروع سياسي إسلامي أو إنساني كان ما لم يقم على مبدأ الحرية، حرية الأمة في تقرير إراداتها الحقيقية واختيار من يحكمها بلا وصاية تحت أية ذريعة كانت، فإذا كان الخالق عز وجل أعطى لعباده الحرية حتى في حق الكفر به فلا يملك أي أحد أن يزايد على الخالق، ويا للجرأة باسمه تعالى.
المطلوب من (الإسلاميين) الخروج من حالة النوستالجيا التي يحاولون بها استعادة التنظيم الموءود ومرجعيته المسلوبة لأن ذلك لن يغير شيئاً بلا مراجعة فكرية جذرية حاسمة، واعتراف بداء الاستبداد الذي جلبه الانقلاب، والعمل على إصلاح حقيقي يبدأ بأداء الأمانة إلى أهلها، إلى الشعب السوداني ليختار بكامل حريته وملء إرادته نظامه السياسي، وتحمل المسؤولية عن أية تجاوزات، وفي وقت تدهمنا فيه مخاطر متسارعة لا تحتمل ترف الانتظار واللجاج في معركة انصرافية، تبقى الفريضة الواجبة المطلوب أداؤها بإلحاح إنقاذ الوطن، وليس إنقاذ الحركة الإسلامية.
نقلاً من صحيفة (إيلاف) السودانية
الأربعاء 22 فبراير 2012
//////////





 

آراء