الإسلام والاستراتيجيَّة أو التَّدبير: المبني والمعني
بسم الله الرحمن الرحيم
abdelmoniem2@hotmail.com
الاستراتيجيَّة في جوهرها رؤية فكريَّة، أو هدي كما يعرِّفها الإسلام، تهدف لحسن إدارة الحياة، وهي لذلك تحتاج إلى وعاء يحملها، واللغة هي وعاء الفكر؛ فبها يفكِّر الإنسان ويعبَّر عن فكره، ولكن بين الوعاء والمحتوي نزاع وتكامل. والأديب الأصيل هو الذي يقرِّب الفجوة بين اللغة والفكر؛ أي بين المبني والمعني، فكلَّما نقصت الفجوة كلَّما تمَّ الإعجاز حتى تصير اللغة والفكر كانعكاس الصورة في المرآة، ولكن مع ذلك يلزمه الإتقان في النّظم باختيار الكلمات ذات الموسيقي وصياغتها كالعقود الفريدة فيتمُّ بذلك الجمال والكمال.
والاستراتيجيَّة تعني التَّدبير وهي في الإسلام لا تنبع من ولا تتبع إلا معايير علميَّةٍ صارمة لا مجال فيها للظنِّ والتَّخبُّط والخرافة. ولا يمكن تحقيق رؤية أو وصولٍ لقطار فكرها إلى منتهي رحلته إلا بوسيلة اللغة وباتَّباع "صراطٍ مستقيم"؛ لأنَّه أقصر الطُّرق بين نقطتين وأسرعهما لوصول الهدف. ومن هذا جاء دعاء المسلمين في أوَّل صلاتهم: "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ"، وتعريفه هو صراط الذين أنعم الله عليهم، أي أتَّم عافيتهم.
ولكن قلَّما تنقل لغة ما الفكر كاملاً؛ لأنَّ أيّ وعاء يضيق بما يحمل، فالمبني لا يتَّسع للمعني إلا بقدر اتّساع مساحته. وأقرب اللغات لترجمة الفكر، وتبيين معانيه، وتيسير فهمه هي اللغة العربيَّة التي أيضاً من صفاتها الثبات والمرونة.
فالحروف هي لبنات بناء الكلمات، التي تكوِّن طبقات بناء الجمل، والتي تكوِّن حجرات بناء الكلام حتى يتمَّ البناء.
ومن هنا جاءت معجزة القرآن الكريم باختياره للغة العربيَّة، إذ أنَّ مبناها كان من البيان والثبات والمرونة لدقَّة وبلاغة لبنات كلماتها، فاستوعبت كلمات القرآن الكريم كامل المعني، فإذا بالآية الكريمة تقرِّر هذا المعني من خلال مبني، وهي كلمات الآية، يشمله مبني أكبر وهي كلمات القرآن كلِّها التي تنقل مفاهيمه ومعانيه كلِّها بلا نقصان:
"مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ".
لا أحد سوي ربّ العالمين يستطيع أن يؤكَّد الشمول؛ أي أنَّ كتابه؛ وهو المبني، وعاء شامل لكلِّ المفاهيم والمعاني، ويؤكَّد صحَّتها أيضاً والهدف منها وهو الهدي أو الرؤية والمنهج والهدف من الإيمان: "ذلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ".
والهدى عكس الضلال وهو الرَّشاد، وهو الإرشاد للطريق القويم، ولا هدى بغير إبصار وتبيين وتعريفٍ ودلالة، أي بغير رؤية، وهي معنيٌّ بها الشريعة التي هي الاستراتيجيَّة.
ولذلك يؤكِّد المولي عزَّ وجلَّ أنَّه لا استراتيجيَّة ناجحة ومفيدة لعباده غير تدبيره: "قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ۗ." ولم تكن الاستراتيجيَّة لتقوم على التَّخبُّط والتَّسرُّع وإنَّما على التَّخطيط الدَّقيق: "إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ، وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ"، والآية الكريمة تظهر مفارقة تقدير الأشياء مع سرعة العمل وهي مستحيلة عند البشر ولكن المولي عزَّ وجلَّ لا يحتاج بطلاقة قدرته غير أن يقول لكلِّ شيء كن فيكون، ولكنَّه من رحمته بخلقه بيَّن لهم سبيل الخلق ومنهجه ليتَّبعوه في حياتهم ولذلك ذكر أنَّ خلق السماوات والأرض أخذ أيَّاماً.
إنَّ كلَّ المؤلِّفين في العالم يدركون أنَّ مباني كلماتهم لا تتَّسع لمعاني أفكارهم لتشملها، وأنَّهم غير واثقين، حتى بعد المراجعة، أنَّ ما يقولون لا يدخل على صحَّته شك، ويدركون أيضاً أنَّ ما يُسمَّي بلاغة هو معادلة صغر المبني مع شمول المعني ولذلك يقولون: "خير الكلام ما قلَّ ودلَّ"، وأنَّ تزيين الكلام بعد خلقه بتنسيقه وصياغته مع بهاء منظره يهوِّن حفظه للمتلقَّي هو ما يسهر عليه الأدباء. ونجد ذلك في كلام الله سبحانه وتعالي بعد خلق السماوات السبع: "وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا"، أي أنَّ النّجوم والكواكب والأقمار لها وظيفة جماليَّة وعمليَّة وكذلك يجب أن يكون الكلام المنظوم.
فالأفكار العالية تحتاج إلى لغة عالية لا شحوم وزوائد كلاميَّة لها، فتصير قيِّمةً ودقيقة الصنعة، لطيفة الشكل، وهو الإتقان في المبني وفي المعني، فلا جدوى من وضع الكنوز في بيت من الطِّين.
ولوضع استراتيجيَّة لا بُدَّ من وجود وضعٍ منظَّم ذي نسقٍ معروف إن كان فكراً أو واقعاً، فالاستراتيجيَّة تحتاج إلى ثلاث مراحل وهي مرحلة التَّشييد الفكري، ومرحلة التَّشييد العملي، ومرحلة التَّطوُّر. ولعلَّ من خير الأمثلة لذلك هي قصة سيدنا يوسف عليه السلام: "قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ".
ولا بُدَّ لها من عاملين وهما اختيار القيادة من أجل إحسان الإدارة: "وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ"؛ وهو أهمَّ القرارات الذي يترتب عليه تكوين وتنفيذ الخطط المصممة لتحقيق أهداف المنظمة، ثمَّ الاستدراك والصيانة، أي القيموميَّة بأمرها.
إذن فاللغة في قمَّة أدائها تكون ترجمةً شاملة للفكر خاصَّةً إذا كانت غير مسهبة، وبمعني آخر أن يوافق النَّقل العقل، فما تنقله اللغة يجب أن يوافق ما تفهمه الأذهان بلا نقصان.
ونحن نعلم أنَّ معجزة الخلق هي في اختزال الكائنات الحيَّة في حمض أميني لا يُري بالعين المجردة ولكنَّه يحمل كلَّ مباني ومعاني المخلوق، فهو في جوهره لغة مكتوبة ولذلك يطلق عليه شفرة أو رمز الجينات، ولذلك ما أن يجد تربة صالحة إلا وينمو في شكل إنسانٍ أو مخلوقٍ آخر كامل الدَّسم حسب جدول زمني ثابت مثل شروق الشمس ومغربها.
فحبوب القمح لا تنبت في كلِّ أرضٍ وهذا ينطبق على القرآن الكريم فهو تنمو أفكاره ومفاهيمه على حسب تربة من يزرع آياته ويسقيها ويرعاها، فإذا كانت شروط النَّمو المثاليَّة متوفِّرة فهي ستنمو وتترعرع "كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ" يسرُّ النَّاظرين وينتفع به العالمين.
وإذا تأمَّلنا فسنجد أنَّ تفاعل اللغة؛ والتي هي المبني، مع الفكرة؛ والتي هي المعني، ينتج معني المعني أو ما وراء المعني، ولذلك نجد بلاغةً معجزة في الآيات القرآنيَّة كأنَّها بذرات حيَّة إذا ما وفَّرنا لها ماء الفهم، وتربة المعاني، وهواء الإخلاص أنبتت من كلِّ زوج بهيج. هكذا تُوضع الاستراتيجيَّة وهذه هي عناصرها، فالآيات توضِّح لنا كيفية وضع التَّدبير أو الاستراتيجيَّة وعناصرها الأهم.
ولذلك فالجسد لاستراتيجيَّة المسلمين هي كتاب الله وهو نهر المبني الذي يحمل بين ضفَّتيه ماء المعني المتجدِّد والذي يحمل بذور الخير، والتي لا يعرف طريقة إنباتها إلا أصحاب العلم والمهارة والخبرة والتَّقوي الذين يستخدمون التَّفكير التَّدبُّري لإدارة حياتهم وفهم مغزاها:
"كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ".
فالآية تقول أنَّ الكتاب مبارك، وكلمة مبارك تعني أنَّه كثير المنافع والفوائد والخير والنَّماء، وتطلب الآية تدبُّر آياته والمعني أن يتأمَّلوا ويتفكَّروا فيه على مهل والنَّظر إلى عاقبته، أي بمعني آخر ليستخدموا الفصَّ الأمامي من المخ الذي يقوم بكلِّ المهام التَّنفيذيَّة للعقل وأوَّلها وضع الاستراتيجيَّة التي يعرف هدفها، وتحليل منافعها وضررها لتقارن وتوزن لتُعرف عاقبتها. ولذلك ارتبط التَّفكير التَّدبُّري، الذي يحتوي في جانبيه التَّفكير التَّفكُّري والتَّذكُّري؛ والثلاثة أنواع هي أنضج أنواع التَّفكير، بالتَّدبير الذي هو الاستراتيجيَّة.
والتَّدبير؛ وهو تهيئة الأمر وتنفيذه ومتابعته وتذليل خطواته ومشكلاته وصيانته:
"يُدَبِّر ُالْأَمْرَ مِن َالسَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ"، وله كامل التَّحكُّم في كلِّ شيء: "لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ
"، ويشمل التَّدبير كلَّ عناصر الاستراتيجيَّة، وهي كثيرة، منها حسن القيام على شئون العالم وتصريف أموره بقدرة وحكمة، وذلك بوضع الخطط والسياسات المفيدة التي تحدِّد الأهداف. وأيضاً التَّرتيب للأولويَّات والخطوات والتَّرتيبات والإجراءات التي توجَّه التَّنفيذ، والتَّسيير، والاحتياط والاستعداد للطَّوارئ، وبالعناية بالمنفِّذين وما يجري تنفيذه.
فما هو الأمر إذن؟ الأمر نقيض النَّهي، وهو يختصُّ بالفعل، فلا أمر بلا فعل يتبعه إن كان لتنفيذ فعل أو النَّهي عنه، ولكن تنفيذ الأمر يعتمد على قدرة الآمر وقدرة المأمور ووسعه، فإذا كان الآمر هو الله سبحانه وتعالي فإنَّ الأمر يبدأ منه وله يعود، وهذا غير ممكن في حال البشر إذ أنَّ الإنسان إذا أَمَرَ بتنفيذ شيء فليس له كبير تأثير في طريقة التَّنفيذ ولا في اتِّقاء كلِّ العواقب مثل أن تعطي توجيهات لمن يبني بيتك:
"أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ".
ولأهميَّة الأمر، الذي يتبع الوصول لقرار بعد مشورة؛ لأنَّ منها آمره واستأمره أي شاوره، لم يترك الله سبحانه وتعالي تدبير أمر السماوات والأرض لمخلوق ولم يعتمد على مشورة أحد:
"وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ۚ".
ونحن عندما نتحدَّث عن المولي عزَّ وجلَّ فإنَّنا نتحدَّث عنه سبحانه وتعالي في سياق: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ".
فإنَّه لا يحتاج لوقت ليفكَّر ولا ليقرِّر ولا لينفِّذ وإنَّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، وكينونة الأشياء في مقدرته ليست بالكلام أو الإشارة وإنَّما بالخاطرة.
فهو لا يحتاج أن يستشير أو حتى أن يُخطر أحداً بنيَّته على فعل شيء، وهو أيضاً جلَّ ثناؤه لا يحتاج لملائكة يفوِّض إليهم أداء الأعمال وإنَّما يربَّينا على أبجديَّات العمل الجماعي وتكامل القدرات والمواهب. وفي قوله الكريم: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ".
وسنواصل إن أذن الله تعالي
ودمتم لأبي سلمي
مؤسِّس حزب الحكمة