الإنكليز السلف الصالح (1)

 


 

 

 

لن يبدأ العُمر من لحظتي ،

ولن يكتب التاريخ قصتي ،

ولستُ المسئول وحدي ،

الجميع شُركاء نكبتي .

(1)

 ربما يستاء كثيرون من صيغة العنوان ، إذ احتكر القاموس الديني السلفي بعضه  زماناً حتى اكتسب قدسية ، ونرغب نحن إزالتها . ربما يصفنا كثرة بأننا عمالة نائمة تنشط لتمجيد المستعمر ، كلما تُعقد المقارنة بين ماضينا وحاضرنا . وتلك هي القصة التي لم نكن نتفق فيها مع الرعيل الأول الذي شهد الحُكم الاستعماري ، إذ لم يكن حكم السودان تحت إدارة المستعمرات . ونعرف أغراض الاستعمار وحملته الجائرة منذ دخول السودان غازٍ إلى يوم الثاني من سبتمبر 1898 م حين استشهد ستة عشر ألف مدافع سوداني في كرري وخمس وعشرون جريحاً في ست ساعات . وكيف ساق المستعمر المعارضين إلى المشانق طوال مدة الحكم الثنائي. ولكن إنجاز ذات المستعمرفي الاقتصاد والمواصلات والبنية التحتية بادية للعيان ، ولم يحاول السودانيون تطويرها ، وقد أجاد هدمها " أئمة الشر ". الآن " دقت ساعةالحقيقة" على أية حال ،يبدو في المحصلة النهائية أن الإنكليز هم السلف الصالح .   نذكر نائباً برلمانياً اثناء الديمقراطية الثالثة في السودان ، عندما كانت المداولة في البرلمان حول مناقشة تنفيذ أحد الجسور الجديدة ، قال: ( لو كان الإنكليز عملوا لينا الكُبري كان ريحونا ).

  (2)   دفاتر  الكتابة المدونة في إرثنا الثقافي لا تحوي كل ما نطلب، لأن الإرث الشفهي سيد التوثيق ،فأغلب تاريخنا حفظته الصدور ورحلت عن دنيانا بإرث عظيم ، وتأتي الرياح لتمحو الكتابة عن رمل الطريق . قال صديق :  أيعقل أن يكون قد مرّ على السودان حيناً من الدهر ، وكان رئيس دولته البروفيسور التجاني الماحي قبل خمسين عاماً ‘ و الآن تمطر اللواقح سموماً حامٍ ! . ما الذي أصاب مبدأ " البقاء للأصلح " حتى تدحرجنا إلى ذيل الأمم !.   قبل زمان قال لنا الراحل العم " محمد كرار " : شهدتُ يوم وداع آخر مدير عام لسكك حديد السودان المستر " فاركر صن " ليتولاها المهندس السوداني " محمد الفضل". تقاطر الشعراء في عطبرة ، يمجدون اليوم الذي يغادر فيه "أصحاب العيون الزرق" ، بلغة عربية فصيحة وليخرجوا عن بلادنا ليتولى المسئولية  الوطنيون ، ويعمّرون الأرض التي من المفترض أنه قد دمرها المستعمر! . وقف مدير السكك الحديدية الإنكليزي يقول باللغة  العربية الدارجة:   { سوف نترك لكم السكة حديد ، مكتملة . لها ورش تقوم بتصنيع كل قطع الغيار ، ولا تحتاج الاستيراد . أنجزنا بيوت للعمال ، وأخرى للموظفين ، وأنجزنا ورش قادرة على أن تتقدم لتُصبِح عطبرة " مانشستر" أخرى على عهد الصناعة الكبرى . وقمنا بزراعة أشجار ونباتات في الطرقات لتعدّل مزاج الطقس وتجعل الحياة تُطاق . وكل خوفي في مستقبل الأيام أن يأتي يومٌ  تذهب الأشجار كلها وقوداً " للدوكة"!.}

  (3)   قصة الجمل الذي مات :

افتُتحِت مدرسة الجريف الزراعية في منطقة الجريف، ريفي الخرطوم في ثلاثينات القرن الماضي . وفي ذات يومٍ من بعد أن أرست المدرسة تربية الدواجن في المنطقة بالطرق المُثلى ، وفق البيئة . مرِض جملٌ بمنطقة الجريف ، ولم يفطن أصحابه لذبحه قبل وفاته . وتركوه بعيداً في العراء جثة هامدة . حضر الطبيب البيطري الإنكليزي وطلب من تلاميذ المدرسة الزراعية إحضار جثة الجمل . وقام بسلخه وتقطيعه . وانتشر الخبر : ماذا يريد الخواجة ؟ أيريد أكل الميتة !!.   أحضر الخواجة براميل وقام بإيقاد الحطب ، وغمر قطع كبيرة من لحم الجمل في البراميل وأضاف عليها ملح الطعام . وبعد غلي اللحم جميعه أمر بإحضار " البروش " وقال بفرش اللحم لتجفيفه . وانتهى اليوم الأول ، والشائعات تنطلق من قرية الجريف ، إلى القرى المجاورة . وتجمع النساء والأطفال وشيوخ القرى يشهدون عجيبة من عجائب الكون ،وينظرون ماذا سيفعل " الخواجة " الإنكليزي !؟ . استأجر الخواجة امرأتين ومعهن " الفندُك" الخشبي الضخم ، وقامتالمرأتان بالطحن اليدوي للحم المُجفف بمضرب الخشب ، واستُخرجت العظام وتحول اللحم إلى بودرة من اللحم المجفف . وعندها جمع " الخواجة "البودرة في جوال من الخيش ، وقام بتقديم بودرة اللحم مع غذاء الدجاج اليومي. عندها انفض الناس وذهبوا بيوتهم ، وانقطعت الشائعة .

  (4)   الاستثمار :

قام والدي في منتصف أربعينات القرن الماضي بشراء " حنطور بحصان ، وذلك لنقل النساء من وإلى مستشفى الدايات بأم درمان بثمن ، ويمتد الطريق من حي " بانت " عبر شارع " الفيل " إلى "مستشفى الولادة بأم درمان ، وهو استثمار رأى أنه مُجزٍ في الزمان والمكان ، بعد أن أثار المستشفى جدلاً اجتماعياً كبيراً في فهمه : مستشفى للحوامل والولادة المتحضرة ، بديلاً عن " ولادة الحبل " ،التي كانت شائعة حتى إنشاء مستشفى الدايات بأم درمان في ثلاثينات القرن الماضي . كان الطريق حوالى أربعة كيلومترات ، وهو عسير على الحوامل  . وقد اقتضى الأمر أن يقوم " الخواجة " المسئول بالتصديق على ترخيص الحنطور . وبعد مقابلة أبي للخواجة ، وقد عرف بأن الحصان سوف يعمل ليل نهار ، فلم يوافق على التصديق . وقرر أن تتم المصادقة بعد أن يتم شراء حصان ثانٍ ، يعمل الأول صباحاً ، ويذهب للراحة ويعمل الآخر مساءً ، وذلك وفق السبب الذي أوضحه المفتش الإنكليزي :  ( إن السودانيين من أهل البلد لا يهتمون بالحيوان أو الرفق به!.) .ورفض الخواجة أن يتزحزح عن قراره ، أو قبول أية تعديلات  على المشروع بدون حصانين . وبعد دراسة جدوى المشروعمقارنة بتعرفة الذهاب والإياب ، صار المشروع خاسراً. ونفض أبي يده عن المشروع .

  (5)   اتفاق تقرير المصير للسودان، هو اتفاق وقعته الحكومة المصرية والبريطانية، بشأن الحكم الذاتي، وتقرير المصير للسودان. وقعه في 12 فبراير 1953، عن الحكومة المصرية، اللواء محمد نجيب، رئيس مجلس الوزراء، ورئيس مجلس قيادة الثورة، وقتئذ. وعن الحكومة البريطانية، السير رالف ستيفنسون، السفير البريطاني في مصر. بعد محادثات اشترك فيها محمد نجيب، صلاح سالم، والدكتور محمود فوزي، وزير الخارجية، وحسين ذو الفقار صبري، والدكتور حامد سلطان، وعلي زين العابدين حسني. ومن الجانب البريطاني، رالف ستيفنسون، والمستر كرزويل، الوزير المفوض بالسفارة البريطانية، والمستر بارور، السكرتير الأول بها، المختص بشؤون السودان. هذا الاتفاق تم تعديل (3) من بنوده فقط ليصير دستور السودان 1956 م !!!  

(6)   قدم المهندس / خالد إبراهيم محمود ، وهو صاحب خبرة  هندسية ومنصب عالٍ في دولة المهجر ، محاضرة عن سكك حديد السودان ، والذي كان قد عمل فيها مهندساً بسكك حديد السودان لمدة أحد عشر عاماً . وقد بينت المحاضرة أن السكك الحديدية أيام المستعمر بلغ طولها 5500 كيلومتراً ، وقد أضافت الحكومات الوطنية من بعد الاستقلال (90) كيلومتراً فقط ، وقد وصل خط السكة حديد إلى" بابنوسة " و"نيالا" و"واو" . وفي زمن الإنقاذ تم إزالة (1300) كيلو متر من الخطوط الداخلية لمشروع الجزيرة وامتداداته خلال المدة من 1989 وإلى تاريخه ، وما خفي عن الإحصاء أعظم !. فقد تم بيع مشروع "الكناف" للقطاع الخاص أول سنوات "الإنقاذ " وبيعت معه مساكن العمال والموظفين والغابات وخط السكك الحديدية التابعة للمشروع ، أيام استيطان وزارة الاستثمار ( أيام د. علي الحاج ) في المبنى الخاص بوزارة الأشغال العامة ، بعد حلها !!. وماذا حدث ؟ : قام المالك الجديد بقطع أشجار الغابات وباعها واسترد الثمن الذي دفعه للإنقاذ !!. ولم تزل الديون وفوائدها مديونية على السودان إلى اليوم!!.

  (7)   مرفق جزء من خطاب السير" روبرت هاو " آخر حاكم عام للسودان خلالحفل وداعه ،و ترجمه البروفيسور بدر الدين الهاشمي : { إنكم أيها السودانيون شعوب مختلفة في شمال البلاد وجنوبها، وفي غرب البلاد وشرقها. شعوب ذات أصول مختلفة وعادات متباينة. وهذه الاختلافات قد تمثل نقطة قوة، وقد تمثل في ذات الوقت نقطة ضعف. وقد تمثل نقطة قوة إذ أن التنوع يولد حيوية عظيمة، وقد تمثل نقطة ضعف، إذ أنها قد تفضي إلى نزاعات مدمرة. وأود أن الفت نظركم في كلمتي القصيرة هذه إلى اختلافات شعوب السودان. لقد كان من حسن حظي أن تشرفت بقيادة الحكم في هذا البلاد لأعوام ثمانية كانت هي أخصب سنوات البلاد، وأكثرها غِنىً بالأحداث التاريخية الهامة. و أتيحت لي في سنواتي زيارة كل مناطق السودان عدا منطقة "الناصر" و "البيبور"، وأدراك مدى اتساع الاختلافات والفروقات بين شعوب السودان في مناطقه المختلفة إدراكا تامّاً. وأستطيع القول هنا إن هذه الاختلافات والفروقات هي مصدر تحدي كبير للبلاد وحيويتها، وستظل كذلك في ما يقبل من سنوات. وتتطلب مواجهة هذه التحديات التزاما صارما ينبذ الأنانية من أجل تحقيق هدف مشترك هو التنمية الشاملة للأمة السودانية بكل مكوناتها (وأكرر هنا وأؤكد على "كل مكوناتها"). ولابد من توفر أكبر قدر من المهنية والتجرد وسلامة المقصد عند الجهات الحكومية والإدارية عند مواجهة هذه الاختلافات بين شعوب السودان. ويتطلب حل المشاكل المترتبة على هذه الاختلافات قدرا كبيرا من الحنكة والفهم والتسامح }. انتهى النص يتبقى الكثير الذي لم  نذكره من خصال "السلف الصالح "!.  

عبدالله الشقليني 5أغسطس 2015      abdallashiglini@hotmail.com

 

آراء