الانتخابات البرلمانية في السودان (1953-1986م) … بقلم: أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك
21 May, 2009
عوداً على بدء (1/2)
أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك
يقول الكاتب أحمد بهاء الدين إن "الفرق بين الإنسان والحيوان، أن الإنسان له تاريخ يتعلم منه حتى لا يكرر أخطاءه"، فالوعي التاريخي هو الذي يميز الإنسان عن الحيوان، إلا أن اجترار الإنسان لأحداث الماضي من غير وعي تاريخي وإدراك معرفي، يجعل فهمه للحاضر واستشراف المستقبل ضرباً من التنجيم غير المدرك لطبيعة التحديات التي تواجهه وكيفية التعامل معها. فالمقاربة التاريخية عن الانتخابات البرلمانية في السودان (1953-1986م)، التي عرضنا فصولها في حلقات مسلسلة في صحيفة الأحداث، ينبغي أن تقرأ بوعي تاريخي فاحص في ضوء التحولات الديمقراطية التي يشهدها سودان ما بعد اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) التي نصت على إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية في موعد أقصاه 9 يوليو 2009م، وأقرَّت ذلك أيضاً المادة 216 من الدستور الانتقالي لسنة 2005م. إلا أن هذا القيد الزمني قد تمَّ تعديله إلى فبراير 2010م، وذلك مراعاة لبعض الظروف السياسية والإجرائية المرتبطة بالترتيبات الانتخابية.
لا جدال أن العملية الانتخابية في جوهرها ستشكل نقلة نوعية في نظام الحكم في السودان، ولفهم هذه النقلة والظروف السياسية المحيط بها يستحسن أن نثير في هذا المضمار سؤالين محوريين. يرتبط أحدهما بالإسقاطات التاريخية للتشريعات الدستورية والقانونية السابقة على الدستور الانتقالي وقانون الانتخابات القومية لسنة 2008م، ويتجسد الآخر في الضوابط الدستورية والقانونية المرتبطة بإجراء الانتخابات في الموعد المرسوم لها، وبدرجة عالية من النـزاهة والشفافية. وقضية النـزاهة في أية انتخابات ديمقراطية، كما هو معلوم، يجب أن تقوم على منظومة ثنائية، يمثل بُعدها الساكن المبادئ الدستورية والقواعد القانونية، ويتبلور بُعدها المتحرك في إدارة العملية الانتخابية، وفاعلية الممارسة الديمقراطية في أروقة الأحزاب السياسية، وعلاقتها مع بعضها بعضاً. وتوجد بين هذين البُعدين علاقة تلازمية، تقضي بتفعيل العملية الديمقراطية وفق مبادئ دستورية ذات مرجعية ثابتة بالنسبة للحاكم والمحكوم، ويُحدَّد من خلالها شكل نظام الحكم وآليات اتخاذ القرار فيه، وكيفية مشاركة المواطنين في صياغة تلك المؤسسات الحاكمة ومهامها الوظيفية.
البُعد الساكن للعملية الانتخابية
نلحظ في إطار البُعد الساكن للعملية الانتخابية أن الدستور الانتقالي لسنة 2005م، وقانون الانتخابات القومية لسنة 2008م قد استفادا من دساتير وقوانين الانتخابات السابقة لهما من حيث الصياغة الشكلية والموضوعية، وحاولا أيضاً أن يتجاوزا بعض إخفاقاتها المرتبطة بتحديد شكل نظام الحكم، وإجراءات الانتخابات الرامية إلى تفعيل آليات ذلك النظام المقترح بشقية التشريعي والتنفيذي. وانسحاباً على ذلك أقرَّ الدستور الانتقالي لسنة 2005م نظام الحكم الديمقراطي اللامركزي، وذلك عبر أربعة مستويات حكم، تتدرج من الحكم المحلي، والحكم الولائي، والحكم في الجنوب، والحكم القومي. وتشكل رئاسة الجمهورية المكونة من رئيس الجمهورية ونائبيه قمة الهيئة التنفيذية القومية، ورئيس الجمهورية يجب أن يكون منتخباً عبر انتخابات شعبية وقومية. وبهذه الكيفية استطاع الدستور الانتقالي أن يحدث نقلة نوعية في شكل الهيئة التنفيذية القومية، حيث تَمّ استبدال مجلس السيادة الذي كان معمولاً به في الأنظمة البرلمانية السابقة بنظام جمهوري رئاسي، ينتخب الشعب رئيسه انتخاباً مباشراً، ويعين الرئيس نائبين، بشرط أن يكون أحدهما، حسب نص الدستور الانتقالي، "من جنوب السودان، والآخر من الشمال؛ فإذا كان الرئيس المنتخب من الشمال، يشغل منصب النائب الأول الشخص الذي اُنتخب لمنصب رئيس حكومة جنوب السودان، ويُعتبر معيناً من رئيس الجمهورية لهذا المنصب، أما إذا كان الرئيس المنتخب من جنوب السودان فيُعين النائب الأول من الشمال بناءً على توصية الحزب الحائز على أكبر عدد من المقاعد الشمالية في المجلس الوطني."
إلا أن هذه الخطوة الايجابية لا تمنعنا القول بأن مُشرعي الدستور الانتقالي قد تأثروا تأثراً واضحاً بأدبيات الصراع بين الشمال والجنوب، ومداولات اتفاقية السلام الشامل لعام 2005م. وعند هذا المنعطف ظهرت خصوصية وضع الجنوب في ظل نظام حكم وسيط بين المستويين الولائي والقومي، فالخطوة في مجملها إذا فُسرت بصفة إيجابية تصب في خانة تطوير الجنوب، وإعادة ترميم جسور الثقة بين شطري القطر. إلا أن طرفها السالب قد يمهد الطريق لانفصال الجنوب عن الشمال، إذا كان أداء الحكومة القومية غير مقنع للقادة الجنوبيين في إطار السودان الموحد. وبهذه الكيفية تكون وحدة السودان الجديد مرهونة بنتائج الاستفتاء الذي سيُجرى في الجنوب عام 2011م، للمفاضلة بين خيار الوحدة أو الانفصال.
وقد حدد الدستور –أيضاً- شكل الهيئة التشريعية على المستوى القومي بمجلسين، هما: المجلس الوطني ومجلس الولايات الذي يتكون من ممثلين اثنين لكل ولاية، ينتخبهما المجلس التشريعي للولاية وفقاً لقانون الانتخابات القومي والإجراءات التي تستنها المفوضية القومية للانتخابات. وسنحصر نقاشنا في هذه الفقرة حول المستوى القومي دون المستويات الأخرى، لأنه يعطينا قاعدة واسعة لمناقشة الأسئلة التي طرحناه في صدر هذا المقال. تتكون الهيئة التشريعية القومية من 450 عضواً يمثلون المجلس الوطني و50 عضواً آخرين يمثلون مجلس الولايات. ويتم انتخاب هؤلاء الأعضاء عن نظام انتخابات مختلط، يجمع بين الانتخاب الفردي والتمثيل النسبي، مع تخصيص 25% من مقاعد الهيئة التشريعية القومية لتمثيل المرأة. وبهذه الخطوة التشريعية الجريئة استطاع المُشرِّع السوداني أن يتجاوز أوجه القصور التي صحبت أداء الهيئة البرلمانية التي كانت تتكون من مجلسي الشيوخ والنواب في عهد الديمقراطية الأولى (1953-1958م)، والجمعية التأسيسية في عهدي الديمقراطية الثانية (1965-1969م) والثالثة (1986-1989م). فنظام الانتخاب المختلط يُعدُّ خروجاً صريحاً على نظام الانتخاب الفردي ذي الأغلبية البسيطة، الذي ابتدعه المستعمر البريطاني نسبة لبساطته وقلة كلفته المالية، وسار عليه العمل في الانتخابات البرلمانية التي جرت في ظل اتفاقية تقرير المصير وما بعدها (1953-1986م). وبذلك أضحى نظام الأغلبية البسيطة هو المسيطر على عقل المُشرِّع السوداني، كأنه النظام الوحيد الذي ينظم شؤون تداول السلطة في العالم، علماً بأن النظم الانتخابية السائدة في العالم الديمقراطي يمكن أن تقسم إلى أربع مجموعات: نظام الأغلبية، ونظام التمثيل النسبي، والنظام المختلط، ونظم أخرى، وتوزع تلك النظم عالمياً حسب الرسم البياني الوارد أدناه:
يبدو أن الدافع الرئيس وراء تبني نظام الانتخاب المختلط يتبلور في عيوب نظام الانتخاب الفردي البسيط الذي يُوصف بعدم التناسب بين مجموع أصوات الناخبين والأصوات التي يحصل عليها الفائزون؛ لأنه ربما يعطى الأغلبية لحزب واحد في البرلمان دون يحصل ذلك الحزب على أغلبية الأصوات. وينعكس ذلك أيضاً على مستوى الدوائر الانتخابية الجغرافية، حيث يحصل أحد المرشحين على نسبة تقل عن 50% من مجموع الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم في انتخابات الدائرة الجغرافية المعنية بالأمر. فعلى المستوي البرلماني القومي مثلاً، حصل الحزب الوطني الاتحادي على أغلبية مقاعد البرلمان في انتخابات عام 1953م، وذلك بنسبة تقل عن 40% من مجموع الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم في كل الدوائر الجغرافية؛ وعلى مستوى الدوائر الجغرافية فإن نسبة الفائزين الذين حصلوا على أكثر من 50% في انتخابات عام 1965م كانت لا تزيد عن 50% من مجموع الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم. ومن أصدق الشواهد في هذا المضمار أن السيَّد عثمان إسحق آدم، مرشح حزب الأمة في الدائرة 142 كتم الشمالية، قد فاز بـ 21% من مجموع الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم، وأن السيِّد مضوي محمد أحمد، مرشح الوطني الاتحادي في الدائرة 67 المسيد، قد فاز بـ 24% من مجموع الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم. إذاً هذه الشواهد تؤكد صحة الفرضية التي ذهب إليها مشرعو قانون الانتخابات لعام 2008م، بأن نظام الانتخاب الفردي البسيط غير عادل ولا يعكس التمثيل الحقيقي لتوجهات الناخبين. فضلاً عن هذه العيوب نلحظ أن نظام الانتخاب الفردي يسهم في ترسيخ أدبيات الولاء القبلي والجهوي، ويسهِّل عملية التلاعب بنتائج الانتخابات من خلال تقسيم الدوائر الانتخابية، وتوزيعها كما حدث في انتخابات عام 1958م وانتخابات عام 1986م. وفي المقابل يعطى التمثيل النسبي إطاراً أوسع لضمان مشاركة كل القوى السياسية والمرأة بنسب معقولة، ويقلل من حدَّة الصراعات القبلية، لأن الولاية ستكون وحدة انتخابية قائمة بذاتها دون أن تُجزأ إلى وحدات صغيرة.
وفي ضوء هذه التقابلية بين الفردي والنسبي نصل إلى أن نظام الانتخاب المختلط سيكون خطوة إيجابية تجاه تطبيق نظام التمثيل النسبي، وبذلك تتم عملية تداول السلطة وفق نسق انتخابي جديد، له القدرة على تجاوز سلبيات نظام الأغلبية البسيطة الذي ابتدعه المستعمر، وسارت على هدية الحكومات الوطنية اللاحقة، لكن هذا لا يعني أن هذه النقلة النوعية ستتحقق على صعيد الواقع دون حدوث استقرار سياسي في السودان.
ويصب أيضاً في وعاء المتغيرات الدستورية والقانونية التي طرأت على البُعد الساكن للعملية الانتخابية عدم تخصيص دوائر للخريجين. فلا شك أن هذه الخطوة تُعدُّ تجاوزاً إيجابياً لأدبيات التراث الانتخابي في السودان، لأن فكرة تخصيص دوائر الخريجين قد طرحها المُشرِّع البريطاني في قانون الحكم الذاتي لعام 1953م، متعللاً بأن تمثيل الخريجين سيفعِّل العملية الديمقراطية داخل قبة البرلمان وخارجها، إلا أن الخصومة التي نشبت بين الاتحاديين والسيِّدين عام 1956م قد قادت إلى إلغاء دائرة الخريجين في قانون الانتخابات لعام 1957م، نكاية في الحزب الوطني الاتحادي صاحب الأغلبية في أوساط النخب المستنيرة آنذاك. بيد أن القوى الحديثة وصاحبة الحضور السياسي الكثيف في ثورة أكتوبر 1964م قد أعادت دائرة الخريجين في قانون الانتخابات لعام 1965م، ورفعت عدد مقاعدها من خمسة إلى خمسة عشر مقعداً، وكان الفوز فيها حليف الحزب الشيوعي السوداني (11 مقعداً) وجبهة الميثاق الإسلامي (مقعدين) والوطني الاتحادي (مقعدين). وفي قانون الانتخابات لعام 1985م رُفع عدد مقاعد الخريجين إلى ثمانية وعشرين مقعداً، ووزعت تلك المقاعد على أساس ولائي، وكان الفوز فيها من نصيب الجبهة الإسلامية القومية التي حصلت على ثلاثة وعشرين مقعداً. ويؤخذ على دوائر الخريجين بصفة عامة أنها تخلق نوعاً من التفضيل الطبقي بين المواطنين لا مبرر له، حيث أنها تميز الخريج على دافع الضريبة العادي بإعطائه صوتاً إضافياً. زد على ذلك أنها قد سهَّلت عملية التحكم المسبق في نتائج الانتخابات، وذلك بتحديد حجم الدوائر الانتخابية وتوزيعها كما حدث في انتخابات عام 1986م، حيث أُعطيت ولاية الخرطوم ذات الثقل الانتخابي الكبير (33966 ناخب) ثلاثة مقاعد فقط، بينما مُنح الإقليم الأوسط خمسة مقاعد بالرغم من أن نسبة الناخبين فيه تقل عن 50% مقارنة بالعاصمة القومية، ومُنح الإقليم الجنوبي سبعة مقاعد، علماً بأن عدد الناخبين فيه لم يتجاوز 2560 ناخب. وبهذه الشواهد التاريخية والسياسية نصل إلى أن قانون الانتخابات القومية لعام 2008م قد خطا خطوة إيجابية بعدم تخصيصه مقاعد بعينها للخريجين، وبذلك ضرب سهماً في المساواة بين المواطنين.
ولا تمنعنا هذه الجوانب الإيجابية في القانون الانتخابية القومية لسنة 2008م وإطاره الدستوري الذي جسدته اتفاقية السلام الشامل من القول أن للقانون أيضاً بعض المسالب الثانوية، ونذكر منها إغفال وضع المغتربين في الانتخابية البرلمانية، علماً بأن عددهم يقدر بمليون مغترب، وربما يبلغ عدد الناخبين المؤهلين مئات الآلاف. وحول هذه الإشكالية يرى الأستاذ فيصل خالد أن حرمان المغتربين من الاشتراك في الانتخابات البرلمانية القادمة حسب ما جاء في المادة 22/3-4 التي حصرت مشاركة المغترب في الانتخابية الرئاسية والاستفتاء، وحرمته ضمناً من المشاركة في الانتخابات التشريعية فيه تعارض صريح مع المادة الدستورية 41/1 التي تكفل حق الاقتراع لكل مواطن سوداني توفرت فيه الشروط القانونية التي تؤهلَّه لاختيار ممثليه في الأجهزة التشريعية والتنفيذية (رئيس الجمهورية ورئيس حكومة الجنوب)، وذلك وفق انتخابات دورية تكفل له حق التعبير الحر عن إرادته السياسية. وقد أثبتنا في الحلقات السابقة أن مشاركة المغتربين في الانتخابات البرلمانية في السودان يرجع تاريخها إلى عام 1953م، عندما اشتركوا في انتخابات دائرة الخريجين ذات المقاعد الخمسة، وفي عام 1965م تجددت مشاركتهم في انتخابات دائرة الخريجين ذات المقاعد الخمس عشرة على المستوي القومي، وفي عام 1986م كانت مشاركتهم على المستوي الولائي، لأن مقاعد الخريجين الثمانية والعشرين قد وُزعت بين ولايات السودان المختلفة. وبناءً على ما تقدم فإن مشاركة المغتربين في الانتخابات القادمة تُعدُّ ضرورة قومية، واستحقاقاً دستورياً ومطلباً سياسياً، فلذا طالبت بعض الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني بضرورة إقرارها في مسودة قانون الانتخابات القومية قبل إجازتها، وتحديد الكيفية التي يتم بها حصر المغتربين في مواطن مهجرهم المختلفة، وتسجيل الناخبين المؤهلين منهم، وتخصيص آليات محايدة تشرف على الإحصاء، والتسجيل، والاقتراع، وفرز أصوات الناخبين. إلا أن اللجنة المُشرِّعة لقانون الانتخابات القومية لسنة 2008م قد غضت الطرف عن هذا المطلب المشروع.