الانتخابات في السودان The General Election in the Sudan
Sukumar Sen & Mekki Abbas سوكومار سن ومكي عباس
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لغالب ما جاء في تقريرين عن أول انتخابات عامة في السودان أجريت في شهري نوفمبر وديسمبر عام 1953م، نشرا عام 1953م في العدد الثالث من المجلد السابع لمجلة "الشؤون البرلمانية Parliamentary Affairs" التي تصدر عن دار نشر "أكسفورد أكاديميك". ولقد سبق لنا ترجمة مقال نشر في نفس المجلة بعنوان "الانتخابات في السودان خلال عهد النظام العسكري" لأستاذ هندي بجامعة الخرطوم.
قدم التقرير الأول القاضي الهندي سوكومار سن (1899 – 1962م) رئيس مفوضية انتخابات السودان. وقد أستل هذا التقرير من محاضرة قدمها برعاية المجلس الهندي للشؤون العالمية في فبراير من عام 1954م. وقد عمل القاضي سن رئيسا لمفوضية الانتخابات في الهند بين عامي 1950 و1958م. العامة
وكاتب التقرير الثاني هو مكي عباس، الذي شغل منصب رئيس مجلس إدارة مشروع الجزيرة بين عامي 1955 و1958م. وبحسب ما جاء في سيرته الذاتية في كتاب دكتور فيصل عبد الرحمن علي طه (الحركة السياسية السودانية والصراع المصري البريطاني بشأن السودان) فقد "تخرج مكي عباس من كلية غردون وعمل بالتدريس بالمدارس الوسطى وبمعهد التربية ببخت الرضا حيث كان عضوا بشعبة الجغرافيا والتربية الوطنية. ألف مع عميد المعهد جريفث كتاب "الجمعيات" الذي كان يهدف إلى ترسيخ الديمقراطية فكرا وممارسة على مستوى المدارس الوسطى. كما شارك مع آخرين في إعداد كتاب "سبل كسب العيش في السودان". بدأ تجربة تعليم الكبار في قرية أم جر بالنيل الأبيض. استقال من مصلحة المعارف عام 1947 م وأصدر صحيفة "الرائد" التي دعا من خلالها إلى قيام جمهورية اشتراكية في السودان. حصل في سنة 1951م على درجة علمية من جامعة أوكسفورد عن بحثه "مسألة السودان". وبعد عودته للسودان عين مديرا للخدمات الاجتماعية بمشروع الجزيرة ثم محافظا للمشروع. اختارته الأمم المتحدة في سنة 1958 م سكرتيرا تنفيذيا للجنة الاقتصادية لأفريقيا بأديس أبابا، كما عينه داج همرشولد الأمين العام للأمم المتحدة ممثلا شخصيا له إبان أزمة الكونغو في الفترة ما بين مارس إلى مايو 1961 م. ثم عمل لبعض الوقت مديرا بالبنك التجاري السوداني، كما عمل لفترتين نائبا لمدير منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة".
وذكر محرر المجلة في مقدمة هذا المقال أن مكي عباس حرص على أن يذكر لمحرر المجلة في خطاب له أتى مع المقال بأنه "سوداني يؤمن باستقلال السودان".
المترجم
***** ******
1. سوكومار سن
تم تقسيم السودان لأغراض الإدارة إلى تسع مديريات، ست منها في الشمال، وثلاث في الجنوب. وينبغي علينا التفريق بين المديريات الشمالية والجنوبية، إذ أن جزئي البلدين يختلفان عن بعضهما في كثير من الصفات، ويعتبرهما البعض قطرين مختلفين تماما. فأرض شمال السودان صحراوية في معظمها، ويعيش معظم سكانها على الشريط الضيق للنيل وفروعه المختلفة، أو في المناطق التي توجد بها آبار أو مصادر أخرى للمياه. وجزء من سكان الشمال رعاة رحل يتنقلون بمواشيهم في موسم الجفاف بحثا عن الماء والكلأ. غير أن جنوب السودان هو منطقة أفريقية استوائية تهطل فيها الأمطار بمعدل يبلغ 30 – 50 بوصة في العام. وتغطي أجزاء كبيرة من أراضيه غابات وحشائش استوائية، بينما تنتشر المستنقعات في أجزاء أخرى. أما بقية الأراضي فهي سهول بور.
وسكان شمال السودان مسلمون من أصول عربية أو من العرب الذين اختلطوا بغيرهم. أما سكان الجنوب فالغلبة الغالبة منهم وثنيون من أصول زنجية. ويتحدث سكان شمال السودان اللغة العربية التي لا يفهمها إلا قلة من متعلمي الجنوب. ويتكون سكان الجنوب من عديد القبائل، لكل واحدة منها لغتها الخاصة التي لا تفهمها القبائل الأخرى. وتقدر نسبة الأمية في شمال السودان بنحو 98%، وهي أكثر من 99% في جنوبه. وليس في الجنوب غير قلة قليلة من الذين تلقوا تعليما باللغة الإنجليزية.
لم يعرف السودان على المستوى القومي أي انتخابات ديمقراطية من قبل هذه الانتخابات. إلا أنه سبق أن أجريت انتخابات فرعية ومحلية لبعض مؤسسات الحكومة المحلية في بعض المدن والأرياف. إلا أن معظم أرجاء البلاد لم تعرف من قبل أي مؤسسات ذاتية الحكم، ولم يسبق لغالب المواطنين أن صوتوا من قبل. ولم تقم الأحزاب السياسية في البلاد إلا قبل سنوات قليلة فحسب. ولم تنمو أول
مشاعر الحاجة والدافع لنيل الحرية إلا عند القلة القليلة التي تعلمت في المدارس الإنجليزية، متأثرة في الغالب بنضال الهند من أجل نيل الحرية.
وتوجد بشمال السودان طائفتان إسلاميتان يتبعان لأكبر زعيمين بالبلاد. فالسيد السير عبد الرحمن المهدي هو زعيم "الأنصار"، وهو راعي حزب الأمة وعموده الفقري. أما الزعيم الآخر فهو السيد السير علي الميرغني زعيم "الختمية". والزعيم الأول هو ابن المهدي، الذي ثار على مصر، وعلى حكم الجنرال البريطاني غردون. ويؤيد حزب الأمة الاستقلال التام عن الحكم البريطاني – المصري، رغم أن خصومه السياسيين يتهمونه بالتبعية لبريطانيا. أما الحزب الوطني الاتحادي، الذي يضم كل الأحزاب المعارضة لبريطانيا في البلاد، فهو يتهم أيضا من قبل خصومه بالتبعية لمصر. وهنالك حزبان صغيران آخران في شمال السودان هما الحزب الاشتراكي الجمهوري، والحزب الوطني، ولكنهما لم ينالا أي أصوات تذكر في الانتخابات الأخيرة. أما في جنوب السودان، فلم تكن هنالك أحزاب أو تنظيمات سياسية. وتحاول القلة من أبناء الجنوب المتعلمين المسيحيين الذين درسوا في مدارس البعثات التبشيرية أن تنشئ لها حزبا سياسيا ستسميه الحزب الجنوبي.
لقد ظل مستقبل السودان السياسي سببا مهما في الخلاف بين الحكومتين المصرية والبريطانية. فبينما تتهم مصر بريطانيا بالتخطيط للسيطرة الكاملة على السودان كمستعمرة، يقول البريطانيون إن هدفهم الوحيد هو تدريب السودانيين على الحكم الذاتي، وتركهم في نهاية المطاف ليقوموا بتقرير مصيرهم بأنفسهم. وكانت مصر، إلى أن أتى فيها النظام الحالي، تصر على أن السودان هو مُلكها تحت التاج المصري.
وفي عام 1948م أدخل البريطانيون بالسودان – بصورة منفردة - بعض التطورات الدستورية المتواضعة، إذ كونوا جمعية تشريعية لكل أرجاء البلاد، وكان معظم أعضائها منتخبين ديمقراطيا (بحق انتخاب محدود restricted franchise). وأنشئ كذلك مجلس تنفيذي كوزارة تتبع للحاكم العام كان معظم أعضائه من السودانيين. وقاطعت الأحزاب المؤيدة لمصر انتخابات ذلك المجلس، بينما كان غالب أعضاء الجمعية التشريعية والمجلس التنفيذي من حزب الأمة. وحدث أيضا تطور آخر في مجال الحكم الذاتي بتقديم اقتراح باستقلالية تامة للبلاد وذلك في عامي 1951 و1952م. وأجازت الجمعية التشريعية في أبريل من عام 1952م مشروع النظام الأساسي، وتقرر إقامة انتخابات عامة بكل أرجاء البلاد في نوفمبر وديسمبر من عام 1952م.وإن تم ذلك فستحرم مصر حينها من أي حق – عملي أو نظري - في السيطرة على السودان.
وفي تلك المرحلة، دخلت مصر في مفاوضات مباشرة مع رجال الأحزاب السياسية السودانية، وحاولت إقناعهم بالموافقة الجماعية على مشروع أكثر شمولا وكمالا يقضي بالإعلان الفوري عن الاستقلال التام وتقرير المصير النهائي بعد ثلاثة أعوام أو أقل. وأتفق على أن تكون إدارة تلك الانتخابات المزمعة تحت مراقبة وإشراف مفوضية انتخابية دولية، وذلك لضمان حيدة ونزاهة الانتخابات وعدم تأثرها بأي ضغوط من قبل الإداريين البريطانيين. وسرعان ما أبرمت حكومتي مصر وبريطانيا بعد ذلك اتفاقية تطابق في كثير من بنودها ما اتفقت عليه الأحزاب السياسية السودانية نفسها.
وكونت تلك المفوضية الانتخابية في أبريل من عام 1953م، وكان من بينهم أربعة أعضاء من الأجانب، منهم اثنان (أنا وعضو أمريكي) ليست لهما أدنى معرفة بالبلاد.
ولم يكن للمفوضية الانتخابية موظفين في مراكز الانتخاب المنتشرة بالبلاد يتبعون لها. لذا استخدمت المفوضية بعض أفراد الجهاز الحكومي الموجود في التحضير للانتخابات وإجرائها. وكان على المفوضية إنجاز ذلك دون إعطاء أي فرصة للنقد بذريعة أن للإدارة البريطانية تأثير على الانتخابات بأية حال. وحرصت المفوضية على أن يكون كل العاملين في تلك الانتخابات من السودانيين. ويجب أن أذكر هنا أن كل هؤلاء عملوا بجد وحيادية ونزاهة، وكانوا بالفعل أهلا للثقة وتحمل المسئولية، وانجزوا ما أسند إليهم من أعمال بصورة ممتازة تدعوا للإعجاب.
إن سر قيام أي انتخابات بصورة سلمية ينحصر عندي في ثلاثة مقومات. أول هذه المقومات هو ضرورة صياغة قانون انتخابات (صارم) يجعل القيام بأي محاولة همجية لتخريب الانتخابات أمرا لا يجر من ورائه أي نفع. أما ثاني المقومات فهو ضرورة أن تكون المراقبة والتوجيه والاشراف على الانتخابات من قبل جهة مستقلة تماما عن الحكومة القائمة، وأن تحظى بثقة الشعب في أنها عادلة وغير منحازة لطرف دون آخر. وأخيرا، ينبغي أن تكون الحكومة التنفيذية مخلصة وراغبة بالفعل (لا بالقول) في أن تكون الانتخابات حرة وعادلة، وأن تتعاون لأقصى درجة مع سلطات الانتخابات في إنجاز مهمتها.
تكون البرلمان من مجلسين: مجلس النواب (Representative) ومجلس الشيوخ (Senate). وتكون مجلس النواب من 97 عضوا، كلهم من المنتخبين، و92 نائبا منهم يمثلون الدوائر الإقليمية (حيث يمثل نائب واحد كل دائرة)، بينما ينتخب الخمسة الباقون في "دوائر الخريجين" وتستخدم كلمة
"خريجين" هنا ببعض التوسع لتشمل كل من أكمل دراسته الثانوية، أو من تلقى دورات تعادل الدراسة الثانوية ليصوت في تلك الدوائر. أما الدوائر الإقليمية فقد كانت مفتوحة لكل ذكر بالغ. أما النساء فقد كان بإمكانهن التصويت في دوائر الخريجين، وفي دوائر مجلس الشيوخ. ولم تصوت من النساء الخريجات سوى 12 امرأة. ولم يكن هناك أي حظر على ترشيح النساء في مجلسي النواب أو الشيوخ. غير أنه لم تتقدم أي امرأة للترشيح في أي من المجلسين في هذه الانتخابات. وكان مجلس الشيوخ يتكون من خمسين عضوا، ثلاثين منهم يتم انتخابهم من تسع دوائر إقليمية (تمثل كل مديرية من مديريات السودان التسع بدائرة واحدة). أما باقي العشرين الآخرين فيرشحهم الحاكم العام. وحتى لا يغدو مجلس الشيوخ مجرد نسخة أخرى من مجلس النواب، فقد كانت شروط التأهيل بالنسبة لأعضاء مجلس الشيوخ أكثر صرامة من شروط تأهيل أعضاء مجلس النواب.
وبحسب النظام الأصلي، كانت هنالك 35 و57 دارة انتخابية مباشرة وغير مباشرة، على التوالي، في مجلس النواب. غير أن أمر تحديد أي الدوائر يتم فيها الانتخاب بصورة مباشرة أو غير مباشرة قد ترك لتقدير مفوضية الانتخاب. وقد قمنا بالفعل، بعد التشاور مع قادة الأحزاب السياسية وبعض المنظمات الممثلة لمجموعات مختلفة بمراجعة قوائم الدوائر الانتخابية بنوعيها، وتوصلنا في نهاية المطاف إلى أن تكون هنالك 68 دائرة انتخابية اقليمية مباشرة و24 دائرة انتخابية إقليمية غير مباشرة.
ولم تحضر قوائم انتخابية بالنسبة للخمسة وسبعين دائرة التي كان من المفترض أن تعد دوائر انتخابية إقليمية غير مباشرة. فأمرت مفوضية الانتخابات بإعداد قوائم انتخابية لكل الدوائر الانتخابية المباشرة وغير المباشرة التي ستجرى فيها الانتخابات. وكنا في سباق مع الزمن لإنجاز تلك المهمة. وأفلحنا في ذلك بصورة مرضية. لقد قدر عدد سكان السودان بـ 8271000 نسمة، وبلغ عدد الذين يحق لهم التصويت 1687000 (أي خمس عدد السكان الكلي). وعقب الفحص والمراجعة والانسحابات بقي 282 مرشحا في الدوائر الإقليمية. وتم رفض طلبات ترشيح خمسة عشر رجلا لعدم استيفائهم لشروط الترشيح، والتي كان من أبرزها ألا يكون المترشح أميا. وفاز عشرة من المرشحين بالتزكية.
أما في دوائر الخريجين، فقد تنافس 22 مرشحا للفوز في خمس دوائر. وصوت في تلك الدوائر بالفعل 1849 شخصا من أصل 2247 سجلوا أسمائهم في قوائم الانتخابات (أي بنسبة بلغت 82%).
وكان نظام التصويت في دوائر الخريجين يقوم على مبدأ "صوت واحد قابل للتحويلsingle transferable vote".
وكان هنالك سبعة وتسعون مرشحا لعضوية مجلس الشيوخ تنافسوا على الفوز بثلاثين مقعدا. بلغت نسبة المصوتين لاختيار أعضاء مجلس الشيوخ وصوت في تلك الدوائر بالفعل 4909 شخصا من أصل 4926 سجلوا أسمائهم في قوائم الانتخابات (أي بنسبة بلغت 83%).
واستخدمت في الانتخابات بطاقات اقتراع في المناطق المستنيرة، غير أن الرموز (الفيل واليد البشرية والشجرة الخ) والألوان (الأخضر والأحمر والأسود والأصفر) فضلت في الأماكن الأخرى. أما في الدوائر غير المباشرة فقد تبنت مفوضية الانتخابات ما كان معمولا به في الهند من تخصيص صندوق لكل مرشح يكتب عليه اسمه بصورة واضحة، وتوضع تلك الصناديق في مكان في الغرفة محاطا من كل الجوانب بستارة.
وكانت هنالك خمس دوائر غير مباشرة في أكثر مناطق البلاد تخلفا (على الحدود مع إثيوبيا أو في مناطق جبال النوبة أو المناطق القريبة من الصحراء الكبرى)، عدت المفوضية فيها التصويت عن طريق الرموز والألوان أمرا معقدا وعسيرا على فهم المصوتين العاديين. فتم التصويت في تلك المناطق عن طريق وقوف المرشحين في نصف دائرة، وأن يأتي المصوتون ليقف كل واحد منهم خلف المرشح الذي يرغب في التصويت له في صف منتظم ليسهل عد المصوتين لكل مرشح. وبعد الحصر، يستبعد المرشح الذي نال أقل عدد من الأصوات من بين المرشحين، ويطلب مسؤول الانتخابات من الذين صوتوا لذلك المرشح الخاسر أن يقفوا خلف أي مرشح آخر يؤيدونه. وتستمر العملية على هذا المنوال إلى أن يصبح عدد المرشحين مساويا لعدد النواب الذين ينبغي انتخابهم. ولا يوجد في ذلك النظام أي تقييد لعدد المرشحين المتنافسين في الانتخابات، ولا توجد سرية أيضا في عملية التصويت.
وكان هنالك عدد كبير من المصوتين في دوائر انتخابات مجلس الشيوخ يحق لهم التصويت أيضا في دوائر انتخابات الخريجين. لذا تم التصويت لكليهما في ذات الوقت بمراكز مناسبة. وسمح للخريجين الذين كانوا خارج البلاد في أيام الانتخابات بالاقتراع عن طريق البريد. وسمح أيضا للخريجين باستلام بطاقات الاقتراع من المراكز المحددة وارسال تلك البطاقات بعد ملئها عن طريق البريد أو تسليمها في ظروف مغلقة إلى أقرب مركز تصويت، والذي سيرسلها لمسؤول دوائر الخريجين.
مكي عباس
عمل كاتب هذه السطور رئيسا للجنة قامت في عام 1946م بصياغة مسودة أول مقترحات تكوين جمعية تشريعية سودانية تكون نواة للبرلمان الحالي. ويؤمن الكاتب (مع زملائه في تلك اللجنة) أنه في قطر كالسودان، تسوده الأمية والجهل بآليات ومسئوليات الحكومة، فإنه من الصعوبة تطبيق قاعدة "حق التصويت / الاقتراع العام universal suffrage". لذا قام، بتأييد من لجنته، بالتوصية بحصر التصويت في "كليات انتخابية electoral colleges".
غير أن الكاتب غير رأيه من بعد ذلك عقب قراءته لمقال لسير درموند شيليز (البرلماني العمالي الأسكتلندي) عنوانه: "الحكم الذاتي للمستعمرات المتقدمة"، والرجل صاحب خبرة واسعة وتجارب مباشرة اكتسبها من انتخابات عامة في الهند، وانتخابات في السودان أيضا. ولم يعد الكاتب يؤمن بأن الرجل الأمي ليس مؤهلا ليصوت في الانتخابات إلا إذا تعلم ونال قسطا من التدريب والمعرفة بالمواطنية (citizenship) والمؤسسات الدستورية. وغدا الكاتب يؤمن بأنه على الرغم من أهمية التعليم المدرسي ومعرفة المواطنية والمؤسسات الدستورية، إلا أن أسرع وسيلة لتعليم الناخبين تقع على كاهل المرشحين للبرلمان، وعلى الأحزاب السياسية التي ينتمون إليها.
كانت دائرة المسلمية هي إحدى دوائر مشروع الجزيرة الخمس. وترشح في تلك الدائرة عن حزب الأمة، السيد عبد الرحمن علي طه، وزير المعارف في الحكومة السابقة، وترشح عن الحزب الوطني الاتحادي السيد حماد توفيق، الذي فاز على منافسه وعين وزيرا للمالية. ونزل هذان المرشحان البارزان من برجيهما العاجيين وقاما بحملات انتخابية مكثفة ومطولة، وتنقلا في جولات مرهقة طافا فيها على كل قرى المنطقة، وخاطبا فيها السكان عن معتقداتهما السياسية وبرامج حزبيهما. وتحدثا لجماهير الدائرة عن أمور حيوية كانوا لا يدرون عنها إلا القليل، مثل تاريخ المفاوضات بين بريطانيا ومصر، وانجازات الحزبين المتنافسين، وتقسيم مياه النيل، والخطط المستقبلية لتطوير البلاد. وسمع كثير من سكان تلك القرى بغالب تلك المواضيع للمرة الأولى من فمي المرشحين المتنافسين. وكان ذلك هو الحال في كثير من الدوائر التي تم فيها التصويت بصورة مباشرة. ولا شك في أن الحملات الانتخابية للسيدين عبد الرحمن علي طه وحماد توفيق والساسة الآخرين كانت ستقتصر على أعداد قليلة من السكان إن تم انتخاب نواب البرلمان عن طريق كليات انتخابية.
ولكن رغم تفضيل الكاتب الآن للانتخاب الحر المباشر، إلا أن ذلك لا يعني بالطبع بأن كل شيء كان على ما يرام في انتخابات قطر ما زال أمامه الكثير قبل أن تتجذر فيه بعيدا الديمقراطية السياسية وتترسخ. فهنالك الكثير من الأميين الذين لم يمسكوا بقلم في حياتهم، ولا يعرفون طريقة التصويت. ويسمع المرء عن قصص عجيبة حدثت أثناء تلك الانتخابات، منها قصة أحد المصوتين الذي أبى إلا أن يرضي جميع المرشحين المتنافسين، فصوت لصالح المرشحين جميعا. ووجد بعض المصوتين من ذوي الولاءات المتصارعة أنفسهم في موقف شديد الحرج في أي المرشحين يختارون. وهناك حكاية المرشح الذي حصل على عدد أصوات في دائرته أقل من عدد أفراد اللجنة الانتخابية التي كان قد كونها لتساعده، علما بأن كل أعضاء لجنته قد صوتوا! وكانت بعض الدوائر الانتخابية ترفض القبول بمرشحين لا يقيمون بالمنطقة، ولا يمتون لقبيلة أهلها بصلة. ولا عجب من حدوث مثل تلك الأشياء في قطر شرع لتوه في عبور عتبة الديمقراطية السياسية. غير أن مزايا إعطاء حق التصويت للكل يفوق بالتأكيد ما به من عيوب.
لا ينبغي أن يفهم مما ذكرا آنِفاً من ذكر للديمقراطية السياسية أن الكاتب يعتبر أن انتخابات السودان لم (ولن) تتأثر إلا باعتبارات السياسة الديمقراطية. صحيح أن الانتخابات الديمقراطية تخوضها أحزاب سياسية، ينظمها ويقودها ساسة متعلمون لهم مبادئهم السياسية وبرامجهم الحزبية. غير أن هنالك تداخلا بين العديد من العوامل، التي كان لها أكبر الأثر في تقرير النتيجة النهائية لتلك الانتخابات. وسنذكر باختصار بعضا من تلك العوامل هنا.
توجد في شمال السودان، كما هو معلوم، طائفتان دينيتان منظمتان، هما الختمية (بزعامة السيد علي الميرغني) والأنصار (بزعامة السيد عبد الرحمن المهدي). وبين الطائفتين تنافس قديم تمتد جذوره إلى عهد المهدية. وكان السيدان يضعان مصالح السودان نصب أعينهما، إلا أن السيد الميرغني وأتباعه كانوا يخشون على الدوام من أن يستولى السيد عبد الرحمن وأنصاره على مقاليد السلطة بالبلاد، فيعيدوها إلى نظام أشبه بنظام المهدية السابق، فيحيق بهم ما حاق بطائفتهم وزعيمها حينها، وأن ينتقص من حريتهم وتتعرض مصالحهم للخطر. لذا تحالف الختمية وساندوا الحزب الوطني الاتحادي، الذي يضم فريقين: الأشقاء (الاتحاديين المؤيدين للوحدة مع مصر) وأحزاب الجبهة الوطنية). أما الأنصار فقد ساندوا الأحزاب المنادية بالاستقلال. وساندت طائفتي الأنصار والختمية أحزاب جنوب السودان التي كانت لها نفس السياسات. ومن المؤكد أن ولاءات أتباع الطائفتين الدينيتين قوية جدا ولا يمكن تغييرها بأي جدال سياسي مهما كان.
وكان لنفود بريطانيا ومصر في السودان أثر مهم على نتائج تلك الانتخابات. فمصالح مصر في السودان، خاصة فيما يتعلق بمياه النيل معلومة للكل. لذا عملت بأقصى ما لديها لمساندة الحزب الوطني الاتحادي. ولعبت الصحافة المصرية (التي كان يقرأها كثير من السودانيين) والإذاعة المصرية (المسموعة بوضوح في السودان) دورا كبير في نتائج الانتخابات بهجومها المتواصل على طائفة الأنصار والأحزاب والجماعات الاستقلالية. وزار السودان وطاف بمختلف مناطقه عدد من كبار الشخصيات المصرية، وتواصلت زيادة منح الدراسة بمصر حتى يوم الانتخابات. وهنالك مزاعم عن تقديم مصر عونا ماليا مقدرا للحزب الوطني الاتحادي. وليس هنالك من شك في أن مشاعر وعواطف المسئولين البريطانيين في السودان كانت، ولا تزال، مع الأحزاب الاستقلالية. لذا فقد كانت هنالك ادعاءات مستمرة من المصريين ومن الحزب الوطني الاتحادي بأن بعض أولئك المسئولين البريطانيين قد حاولوا التأثير على مجريات الانتخابات. غير أنه ما من أحد قد اتهم البريطانيين بتقديم عون مالي (للأحزاب الاستقلالية، خاصة حزب الأمة)، بل كان الاتهام محصورا على مجهود الإدارة البريطانية بالسودان في جعل السيد عبد الرحمن المهدي، وعبر سنوات طويلة، من أكبر أثرياء السودان بمنحه رخصا تجارية لإقامة مشاريع ضخمة لإنتاج القطن طويل التيلة، مما ممكنه من تمويل حزب الأمة من أمواله الخاصة.
كان الساسة المنادين بالاستقلال قد تعاونوا مع الحاكم العام البريطاني في كل مراحل التقدم نحو تحقيق حكم ذاتي بالبلاد، التي شملت مراحل المجلس الاستشاري والجمعية التشريعية (بين عامي 1944 و1953م). غير أن الأحزاب المنادية بالوحدة مع مصر كانت قد قاطعت ولم تشارك في تلك المؤسسات. وهذا ما منح الأحزاب الاتحادية فرصا ذهبية كي تكيل النقد لخصومها من المنادين بالاستقلال، وتظهر بمظهر "الوطنيين" الذين حاربوا بضراوة من أجل تحرير البلاد.
وتمت الانتخابات بسلاسة وسلمية، وفاز فيها الحزب الوطني الاتحادي بأغلبية ثلاثة عشر نائبا في مجلس النواب، المكون من سبعة وتسعين نائبا.
وعلى الرغم من أن العديد من العوامل قد تداخلت في تلك الانتخابات كما أوجزنا سابقا، إلا أن كاتب هذه السطور يرى أن نتائج تلك الانتخابات كانت انتصارا لطائفة الختمية بسبب حسن تنظيمهم، واستفادتهم مما لديهم من أوراق بصورة ممتازة. وهاجم حزب الأمة المستقلين الآخرين (مثل الحزب الجمهوري الاشتراكي)، غير أن الختمية لم يعادوا قط حليفا مستقبليا.