الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر 2021 وأوده لإنجازات ثورة ديسمبر المجيدة: “حرية سلام وعدالة” (2 من 3)
د. شمس الدين خيال
8 May, 2022
8 May, 2022
أعلنت السلطات الانقلابية في 25 أكتوبر 2021، بقيادة الجنرال البرهان القائد الأعلى للقوات المسلحة ورئيس مجلس السيادة أنها قامت بحل الحكومة المدنية وحل المجلس السيادي وتجميد بعض بنود الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية بعد أن وصل اطراف الحكم في البلاد إلى طريقٍ مسدود، وبعد إن فشلت مبادرات رئيس الوزراء لرأب الصدع بينهم وبين المكون المدني. وصرح البرهان ان "الاجراءات التصحيحية" تهدف الى منع تفكيك البلاد الوشيك، وتصحيح مسار الثورة وتحقيق أهدافها بتكوين حكومة من تكنوقراط، وإكمال الهيئات الدستورية والإدارية والمفوضيات المتفق عليها، وأكمال السلام، وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية في الفترة الانتقالية، من أجل الوصول إلى قيام أنتخابات حرة ونزيهة في الفترة المتفق عليها.
ولكن تشير كل الإجراءات والممارسات السياسية والأمنية التي اتخذها قادة الإنقلاب من أجل تثبيت سلطتهم الي تخطيط مبكر لإجهاض الإنتقال الديمقراطي المدني. في هذا السياق جاء الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر، والذي تأيده وتدعمه بعض مكونات "الجبهة الثورية السودانية" وشخصيات من "المسارات" المنضوية تحت إتفاق جوبا، وبعض زعماء العشائر وفلول النظام السابق وشخصيات رأسمالية طفيليه منتفعة، وقوي إقليمية وعالمية غير ديموقراطية، كخطوة طبيعية لكل سياسات المكون العسكري خلال شراكته مع قوي الحرية والتغيير المتمثلة في السياسات المعرقلة لعمل السلطة التنفيذية المدنية، ول"لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989 وإسترداد الأموال العامة في السودان"، التي تم تكوينها بموجب قرار من المجلس السيادي في ديسمبر 2019، ولإنشاء المجلس التشريعي، ولإكمال المؤسسات العدلية، ولوضع الشركات التابعة للمنظومة الأمنية والعسكرية تحت ولاية وزارة المالية، ولتسليم رئاسة مجلس السيادة للمكون المدني في الوقت المحدد، ولعرقلة تحقيق العدالة القانونية لشهداء "مجزرة فض اعتصام القيادة العامة" ولشهداء الاحتجاجات والمواكب الشعبية، ولتسليم مطلوبي المحكمة الجنائية الدولية.
وتحت زريعة تصحيح مسار الثورة ساد توافق بين قادة الانقلاب وداعميه علي تثبيت السلطة الانقلابية بمفهوم: "مهما كلف الثمن". رغم هذا التوافق تتعدد في سلطة الإنقلاب المراكز السياسية والاقتصادية التي تدير الدولة، وتتنافس بينها في خلق قواعد شعبية وحواضن سياسية لها عبر سياسة الاستقطاب والتكتيك والتمكين السياسي والاقتصادي. وتعمل المراكز الاقتصادية الطفيلية المتنافسة علي خلق مواقع تعمل لخدمتها في المواقع المفتاحية في مؤوسسات الدولة الأمنية والمالية والإدارية وكذلك العدلية. وترتب علي تتعد وتنافس المراكز علي السلطة والثروة الي عدم المقدرة لخلق سياسة وقيادة موحدة لتثبيت السلطة الانقلابية بالشكل الذي يمهد لقبول عالمي لها.
وتحت وضع تعدد المراكز المؤثرة في توجهات وقررارت سلطة الإنقلاب تداعت الاطر التي تقف عليها دولة المواطنة والقانون وفقدت الدولة المقدرة علي تحقيق الأمن والعدالة لمواطنيها، وعلي التحكم في إدارة الموارد والثروة القومية، وانتهاج سياسة خارجية واضحة لا تدور في فلك المحاور الإقليمية والعالمية وتخدم مصلحة الوطن. ومن أجل تثبيت سلطة الإنقلاب سخر قادة الإنقلاب المنظومة الأمنية والعسكرية والعدلية، وكل الموارد المالية والإدارية والكوادر الموالية لهم والمحسوبة علي النظام الساقط المتواجدة في الخدمة المدنية، واعادوا الكوادر الإسلاموية الي الخدمة بعد أن عزلتهم "لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989 وإسترداد الأموال العامة في السودان"، التي تم تكوينها بموجب قرار من المجلس السيادي في ديسمبر 2019 واعادوا أصول وعمل المؤسسات والشركات المحسوبة على حزب المؤتمر الوطني بعد أن صادرتها واوقفت عملها لجنة تفكيك النظام الساقط. وصارت سياسة تثبيت سلطة الإنقلاب وليس سياسة الحكم الشغل الشاغل لسلطتهم.
وبرزت تداعيات سياسة تثبيت سلطة الإنقلاب وتنافس مراكزها المتعددة في أداء مؤسسات الدولة المتدني، وغياب كامل للشفافية المالية للدولة، وفي السيولة الأمنية وغياب العدالة القانونية، والانشقاق والعداء السياسي في المجتمع، وعدم الأمن المجتمعي والغذائي لقطاع كبير من الشعب السوداني، خصوصاً في مناطق النزاعات المسلحة في دارفور وعلي الشريط الحدودي مع دولة الجنوب السوداني وفي الشرق، وتواجد جزاءً من ولايات البلاد في الغرب والجنوب والشرق خارج سيادة الدولة السياسية والاقتصادية والقانونية، وفي العزلة السياسية والاقتصادية العالمية التي تعيشها البلاد منذ الإنقلاب، ووقوع السياسة الداخلية تحت تأثيرات سياسات الإستقطاب السياسي من قبل دول داخل وخارج الإقليم.
وتحت سياسة تثبيت السلطة شرعن الانقلابيون أستخدام العنف من قبل المنظومة الأمنية بموجب حالة الطوارئ المعلنه من السلطة الانقلابية. بموجب حالة الطوارئ قامت ولازالة تقوم المنظومة الأمنية بإنتهاكات فظيعة لحق المواطنين في التظاهر والتعبير السياسي. حيث يعطي قانون الطوارئ المنظومة الأمنية حرية العمل بعيداً عن رقابة المنظومة العدلية، وصلاحيات عالية لاستعمال الزخيرة الحيه، وللاعتقال التعسفي والتفتيش والرقابة ومداهمة المنازل، ويعطي منتسبيها حصانة ضد المسألة والمحاسبة القانونية لاي انتهكات ضد الإنسانية تقوم بارتكابها. وادت الصلاحيات الممنوحة للمنظومة الأمنية بموجب حالة الطوارئ المعلنة الي تحويل الشوارع أثناء المواكب والمسيرات والوقفات الاحتجاجية السلمية الي ساحات حرب. حيث تقوم المنظومة الأمنية والعسكرية بتحريك ونشر كماً هائلاً من الجنود والعتاد الحربي الثقيل. وتأتي هذه الصلاحيات التي تمثل خرق لكل القوانين والاعراف الإنسانية الدولية لحماية حقوق وكرامة الإنسان في وضع غياب كامل للسلطة التنفيذية والسيادية منذ الإنقلاب.
وحسب لجنة أطباء السودان المركزية أستشهد في ظل حالة الطوارئ المعلنة تحت سلطة الإنقلاب العسكري في الإحتجاجات السلمية 95 مواطناً ومواطنة، بينهم أطفال وشباب تتراوح أعمارهم ما بين السابعة عشر والخامسة والثلاثون، وجرح أكثر من 3000 مواطن، بعضهم بأعقات صحية دائمة منها 8 حالات شلل، ومعظمهم في عاصمة البلاد الخرطوم. وترجع حالات القتل والاصابات المعوقة الي أستخدام قوات الأمن للقوة المفرطة وتوجيه الذخيرة الحية وقنابل الغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية مباشرةً على أجسام المحتجين السلميين. وتم رصد 16 حالة لاغتصاب ممنهج لناشطات شاركت في مواكب الإحتجاجات من قبل القوات الامنية. ويستخدم الاقتصاب الممنهج والتحرش الجنسي كسلاح لبث الرعب والخوف بين المحتجين من النساء من أجل ابعادهم من المشاركة في الحراك الثوري. وفي بعض حوادث القتل ينطلق مراقبون من استهداف ممنهج لمن تعتقد قوات الأمن أنهم قادة للجان المقاومة ومنظمين للإحتجاجات الجماهيرية السلمية، وتقوم بقنصهم أثناء المواكب السلمية. وذلك رغم أن قائد الإنقلاب العسكري، ورئيس مجلس السيادة يتهم "طرفاً ثالثاً" في قتل المتظاهرين السلميين، لم تأتي لجان التحقيق المكونة الي الان بنتائج تثبت ذلك أو تحدد الجهة المسؤولة.
ورفعت هذه الصلاحيات من وتيرة الاعتقلات للناشطين في الحراك السياسي الشعبي، خصوصاً من "لجان المقاومة"، ومن منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية. وتم أعتقال للاطفال المشاركين في المواكب، وترويع المحتجين بالأسلحة البيضاء واهينت كرامتهم، ونهبت ممتلكاتهم. واثناء المواكب قامت هذه القوات بملاحقة المصابين داخل الأحياء السكنية والمنازل وروعت النساء والأطفال وكبار السن داخلها، من غير مراعاة لحرمة الديار السكنية. ورصدت "لجنة محامو الطوارئ" 21 حالة لاختفاء قسري، واعتقال 300 مواطن سياسياً وتعسفياً، منهم قادة من أحزاب سياسية شاركت في السلطة التنفيذية والسيادية للفترة الانتقالية، وتم حبس أعضاء مدنين من لجنة تفكيك النظام السابق لأكثر من شهرين ونصف إثر بلاغات جنائية ومن غير اخضاعهم الي تحري او تقديمهم الي محاكم، قبل أن يتم أطلاق سراحهم لعدم وجود مبررات جنائية لاعتقالهم.
وحتى فرق الإنقاذ الطبية الميدانية التي تقوم برعاية جرحي المواكب تم منعهم من أداء واجبهم الإنساني تجاه الجرحي، وتعاملت معهم قوات الأمن بقساوة منقطعة النظير. واثناء المواكب تعدت هذه القوات الأمنية بوحشية علي حرمة المستشفيات بملاحقة المصابين، وأطلاق الغاز المسيل للدموع داخلها، وبترويع وإهانة للاصطافات الطبية التي تقوم برعاية المصابين المشاركين في الإحتجاجات. ومثل اقتحام "معمل استاك" والاعتداء علي العاملين به ونهب لممتلكاتهم من قبل قوات تتبع للقوات المسلحة السودانية، ومداهمة مرافق صحية أخري ورشقها بالغاز المسيل للدموع، وأعتقال العاملين من داخلها، ومنع الجرحي من العلاج واعتقالهم، ظاهرة غير مسبوقة لانتهاكات حقوق الإنسان للأنظمة الشمولية في البلاد.
وتمت هذه الفظاعات، رغم أن مثل هذه الاعمال تصنف كانتهاكات صارخة للقانون الدولي الذي يحمي حرمة المستشفيات والعاملين بها، وحق المرضي والجرحي في العلاج، وذلك حتي في حالة الحروب. وتصنف مثل هذه الممارسات، وقتل المتظاهرين السلميين، والاغتصاب الجماعي الممنهج، والاختفاء القسري، والتعذيب للمعتقلين في القانون الدولي كاجرائم ضد الإنسانية ويستوجب ملاحقة ومحاسبة مرتكبيها أمام المحكمة الجنائية الدولية. في هذا السياق أصدرت "وزارة الخزانة الأمريكية" عقوبات على "قوات الاحتياطي المركزي" في 21.03.2022، ووصفتها بأنها "قوات بوليس معسكرة".
وفي ظل شرعنة أستخدام العنف المميت من جانب السلطة الأمنية، وممارسة منتسبيها اغتصاب النساء المشاركات في المواكب السلمية، وتورط قوات أمنية وعسكرية في التعدي الوحشي علي المشاركين في الإحتجاجات السلمية، ونهب ممتلكاتهم إثناء الإحتجاجات، وتفاقم حوادث النهب والسطو المسلح وجرائم القتل انخفض في المجتمع السوداني الحاجز الإنساني التقليدي والقانوني لارتكاب جرائم القتل المرتبطة بالنهب والسطو المسلح، وبالصدام القبلي، وبالإختلاف السياسي، والتحرش الجنسي علي المرأة، وبغيره من الاختلافات المجتمعية الأخرى. وتايزيد من حدة هذا التطور المجتمعي الغير آمن ميتداول في الشارع السياسي من وقوف المنظومة الأمنية الرسمية ومنظمات حزب المؤتمر الوطني الإسلاموية خلف عمليات النهب والسطو علي المواطنين من أجل إثارة الرعب وعدم الأمن داخل المجتمع وخلق مبررات للسياسات الأمنية سلطة الإنقلاب اوعودة النظام الساقط الي سدة الحكم.
تحت هذه الأوضاع الأمنية المتردية وفي ظل تباطؤ وفشل القوات الأمنية للتصدي للانفلاتات الأمنية وتعقب المجرمين يلجأ كثيراً من المواطنين الي التسلح لحماية ممتلكاتهم وأنفسهم، وأخذ القانون بيدهم بتنظيمهم لحملات ملاحقة وممارسة العنف ضد أفراد من عصابات النهب والسطو، التي يطلق عليها "9 طويلة" وغيرها من العبارات العنصرية. وقد تقود هذه التطورات الي توسيع دائرة ممارسات "القضاء الذاتي"، أنتشار السلاح الغير مقنن في يد المواطنين، وبذلك اتساع دائرة العنف داخل المجتمع. الأمر الذي يقود دائماً الي فقدان الدولة والقانون لهيبتهم، وبذلك الي الفقدان الكامل للسلم وللأمن المجتمعي.
وعلي المستوي النفسي يأتي الانقلاب العسكري علي الشعب السوداني بعد إسقاط نظام المؤتمر الوطني الاسلاموي الشمولي كإهانة وكهزيمة جماعية لنضاله، ولتضحيات شهداءه، وهدم لأحلامه في الدولة الديموقراطية المدنية الموحدة علي أسس الحرية السياسية والشخصية والعدالة والمساواة القانونية والاجتماعية، وفي الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية. وبانتهاك الإنقلابين للوثيقة الدستورية وحلهم للسلطة التنفيذية المدنية، وبقتلهم للمتظاهرين السلميين وممارسة قواتهم الأمنية لاغتصاب النشطاين السياسين من النساء، وللاخفاء القسري، وللاعتقال التعسفي، وللتعذيب في السجون، وللضرب والإهانة للمحتجين الي مفاقمة حالة "الصدمة النفسية الشعبية" التي يعيشها الشعب السوداني منذ "مذبحة القيادة العامة"، التي ارتكبت في 03.06.2019، وقتل وجرح فيها ميئات الشباب والشابات. وزاد الانقلاب بذلك في عدم الثقة في قيادات المنظومة الأمنية والعسكرية عند الشعب السوداني، ومن الشقة بين المواطنين وبين قواته المسلحة، وفاقم من "أزمة الثقة" في الدولة ومؤسساتها الأمنية والعدلية، وتجاه الصفوة السياسية، وخلق تصدعات في النسيج الإجتماعي بممارسة سلطة الإنقلاب العسكري لسياسة الاستقطاب السياسي بين مكونات الشعب السوداني السياسية والقبلية المختلفة.
وبهدف خلق حاضنة سياسية داخلية لسلطة الإنقلاب كثف المكون العسكري من الخطاب السياسي بين القوات النظامية، وكثف أيضاً من سياسة الاستقطاب بين القيادات القبلية والعشائرية وتجاه الأحزاب السياسية التي شاركت النظام الساقط في سلطته، وأيضاً تجاه حزب المؤتمر الوطني المحلول بفك سراح قياداته من السجن وإرجاع منسوبيه وداعميه الي مناصب في الخدمة المدنية، وتم رفع الحجز عن أموال وأصول تابعة لافراد ولمؤسسات محسوبين على النظام الساقط، وذلك بعد صدور أحكام حولها من قبل لجنة تفكيك النظام الساقط، وتخوين القوي السياسية المدنية بنعتها أداة لمصالح قوي خارجية.
وبهدف خلق حاضنة سياسية إقليمية وعالمية للانقلاب أتجه المكون العسكري إثناء الشراكة السياسية مع قوي الحرية والتغيير الي الحفاظ وتعميق التحالفات والعلاقات العسكرية التي بناها نظام حزب المؤتمر الوطني خلال عزلته العالمية، مع روسيا والصين وتركيا ودول الخليج ومصر، وبعد سقوط النظام الي تبطيع العلاقة السياسية مع الدولة العبرية. ولعبت دول الخليج، علي رأسهم "أتحاد الإمارات العربية"، والمملكة السعودية السعودية ومصر دوراً اساسياً في تشجيع المكون العسكري للقيام بإنقلابهم في 25 أكتوبر. ويرتبط توجه دول الخليج العربي في البحث عن دورا لها في توجيه السياسة الداخلية والخارجية للدولة السودانية بمشاركة قوات الدعم السريع في الحرب الأهلية في اليمن، وبالمصالح الاقتصادية المرتبطة بصناعة التعدين في مجال الذهب وتسويقه عبر اسواقها. بجانب العلاقات العسكرية والاقتصادية مع روسيا تستغل السلطة الانقلابية التعاون العسكري معها، وتطلعات روسيا لإنشاء قاعدة عسكرية بحرية علي ساحل البحر الأحمر ورقة ضغط على المعسكر الغربي، خصوصاً علي الإدارة الأمريكية من أجل اجبارها علي تغير في سياستها الرافضة لسلطتهم وللدور السياسي والاقتصادي للمنظومة الأمنية في الدولة السودانية. وتصتدم سياسة التطبيع مع إسرائيل والعلاقات العسكرية والاقتصادية مع روسيا لسلطة الإنقلاب، ومشاركة قوات سودانية في الحرب الأهلية في اليمن داخل المجتمع السوداني بشكوك في عائدها الإيجابي علي الدولة، وتقابل برفض عريض، وتمثل جزءاً من عوامل الإنشقاق السياسي في المجتمع.
وعلى مستوي الساحة السياسية المدنية الداخلية ادت ممارسات الاستقطاب السياسي للمكون العسكري قبل وبعد الإنقلاب الي تصدع قوي الثورة. حيث أنشقت قوي الحرية والتغيير، التي مثلت أكبر تحالف سياسي في تاريخ الدولة السودانية الحديث، الي فرعين، وتصدعت الجبهة الثورية السودانية عملياً الي ثلاثة مجموعات. مجموعة اركو مناوي، التي انشقت أثناء محادثات السلام في جوبا، ومجموعة د. الهادي إدريس الرافضة والمهادنة للانقلاب، وحركة العدل والمساواة بموقفها المؤيد والداعم للنقلاب. جراء مواقف قياداتها الداعم أو المتهادن مع الإنقلاب العسكري تواجه الحركات المسلحة انتقادات وتصدع لقواعدها وداعميها في المناطق المعنية باتفاقية السلام، ومن الشارع السياسي الثوري. وتزايدت الخلافات داخل الحركات المسلحة، والانتقادات لقادتها لمشاركتهم في السلطة الانقلابية. وتزايد الانتقاد والرفض لاتفاقية السلام برمتها داخل المجتمع السوداني، خصوصاً بين أصحاب المصلحة في مناطق النزاعات المسلحة في معسكرات النازحين واللاجئين.
في هذا السياق تثبت الانطباع عند كثيراً من المواطنين بأن قادة الحركات المسلحة تهمهم المشاركة في السلطة أكثر من قضايا الوطن والمواطنين في مناطق نشوء حركاتهم. وتتزايد الاتهامات لقيادة الحركات المسلحة بعدم امتلاكهم لرؤية ولقناعة حقيقية بإرتباط السلام والعدالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية بالدولة المدنية الديمقراطية. كذلك يتزايد الرفض من قبل قواعد مكونات قوي الحرية والتغيير/المجلس المركزي لاستمرارية عضوية الجبهة الثورية في التحالف. وفي هذا السياق ارتفعت الأصوات المنادية بالغاء اتفاقية سلام جوبا أو تعديلها بحيث تنحصر علي مناطق الحرب، وتلبي احتياجات وطموحات أصحاب المصلحة في معسكرات النازحين واللاجئين في الداخل والخارج. ومن أهم المناديين بإلقاء الاتفاقية: المنسقية العامة لمعسكرات النازحين واللاجئين في دارفور، الحركة الشعبية لتحرير السودان/قطاع عبد العزيز الحلو، وحركة تحرير السودان/جناح عبد الواحد محمد نور، وتجمع المهنيين السودانيين، والحزب الشيوعي. الأمر الذي يعمق من الإنشقاق السياسي في المجتمع السوداني.
وخلق الإنقلاب العسكري بسبب ممارسة سياسة تثبيت السلطة بفهم مهما كلف الثمن "جواً سياسياً مسمماً" بين مكونات المجتمع الرافضة والمؤيدة للسلطة الانقلابية: من أحزاب سياسية، وإدارات أهلية وطرق صوفية، وحركات مسلحة، ومنظمات المجتمع المدني، وجيل الشباب الذي يقود الحراك الشعبي المتواصل والذي قدم ارتال من الشهداء منذ الانقلاب العسكري. وتحت هذا الوضع السياسي المتأزم بين مكونات الشعب السياسية والاجتماعية، وتحت استمرار المكون العسكري في تكثيف سياسة الإستقطاب، وتحت التصدع الذي أصاب تحالف قوي إعلان الحرية والتغيير خلال الفترة الانتقالية عجزت قوي الثورة الي الان عن تحقيق توافق عريض حول استراتيجية وقيادة سياسية موحدة لها لأسقاط سلطة الإنقلاب العسكري، وحول توافق حول واجبات وكيفية استكمال الفترة الانتقالية لتحقيق ترتيبات قيام أنتخابات حره ونزيهة في نهايتها. ويهيمن على هذا الوضح السياسي المسمم إثارة الفتن في صفوف قوي الثورة، والتخوين والتخوين المضاد، وخطاب الكراهية، والتراشق بتهم الخيانة والكذب والسرقة والكفر والالحاد والتعنصر علي الغير.
وعلي المستوي الاقتصادي أوصل الإنقلاب إقتصاد البلاد الي الي انهيار كامل بفقد القطاع الإنتاجي والخدمي للكل مقومات الإنتاج: من تمويل وطاقة ومواد وسوق محلي وخارجي واستقرار اقتصادي وسياسي. وحسب تصريحات كثيراً من الخبراء والمراقبون الاقتصاديون أدى توقف تدفق الدعم المالي الخارجي بسبب الإنقلاب الي انكماش عالي لمعدل نموي الناتج المحلي الإجمالي في الربع الأول من هذا العام. وانخفضت قيمة العملة القومية منذ الإنقلاب بمعدل 52%: من 380 جنيه للدولار في أكتوبر 2021 الي 580. جنيه في أبريل هذا العام. ومع تدني قيمة العملة القومية ووصل معدل التضخم المالي "المعايش" الي حداً أفقد قطاع عريض من المواطنين قواهم الشرائية، وأصاب بذلك كل الأسواق، خصوصاً سوق المواد الاستهلاكهية بما فيهم الغذائية بركوداً عالي. وتشهد الأسواق موجات غلاء يومية مع تراجع متسارع للقوي الشرائية للسواد الأعظم من المواطنين، وبذلك إرتفاع سريع لنسبة الفقراء في المجتمع. ويقدر كثير من المراقبين ان 80% من الشعب السوداني، أي 80 من 100 مواطن، أي 34,4 مليون من 43 مواطن مليون يعيشون تحت معدل الفقر.
ويعاني المواطنين في كل الإقليم من تدني ونقص لكل الخدمات العامة: من قطع للتيار الكهربائي والامداد المائي والرعاية الصحية، والتعليمية. ويعاني من أزمة مياه الشرب والامداد الكهربائي والرعاية الصحية خصوصاً الإقليم الشرقي، ومعسكرات النازحين ومناطق النزاعات القبلية المسلحة في دارفور. وبسبب رفع الدعم العام عن الدواء ورسوم الكشف والعلاج في المستشفيات أصبح التحصل علي العلاج والرعاية الصحية ليس في متناول القطاع الأعظم من الشعب السوداني. ويعاني القطاع التعليمي المدرسي والعالي من تدهور علي كل المستويات بسبب النقص المزمن للتمويل المالي والتدني الكبير لمرتبات العاملين، والتدخل السياسي في الشؤون الإدارية للمؤسسات التعليمية، والعزلة العالمية التي يعاني منها قطاع التعليم العالي منذ أكثر من ثلاثة عقود. وادا التدني الكبير في رواتب المعلمين والمحاضرين الي أضرابات وتعطل في عمل المؤسسات التعليمية. حيث دام أضراب المعلمين والمعلمات قرابة الشهرين قبل أن تتفاعل السلطات مع مطالبهم وتتوصل معهم علي توافق لرفع مستوي المرتبات.
وعلي مستوي التعاون الاقتصادي العالمي يعيش الاقتصاد السوداني منذ الإنقلاب في عزلة عالمية عن الاقتصاد العالمي ومؤسساته التموليه. حيث توقف الدعم المالي الخارجي علي مستوي تمويل العجز الميزاني والتنموي، الذي حددا ب1,4 مليار دولار من مانحين دوليين. وكان قد خصصت هذه المنحة المالية لدعم الاقتصاد و"مشروع ثمرات" لدعم الأسر الفقيرة لتخفيف الضغط المالي عليها الناتج عن "سياسة التقشف المالي"، التي توافقت عليها حكومة الفترة الانتقالية مع "صندوق النقد الدولي"، والمتمثلة في رفع الدعم عن المحروقات والخبز والكهرباء والدواء. وتوقفت عملية الإجراءات المالية والفنية مع المؤسسات المالية الدولية بغرض معاملة مديونية السودان الخارجية ضمن "مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون"،(هيبك) بهدف إعفاء جزءاً كبيراً من ديونه الخارجية التي تقدر بأكثر من 60 مليارات دولار، في الوقت الذي وصل فيه معدل مديونية الدولة الي 284% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2022. بهذا المعدل العالي لمدونية الدولة يحتل السودان المركز الأول بين دول العالم.
وتعني العزلة الاقتصادية والمالية العالمية: تفاقم للعجز المالي في ميزانية الدولة، الذي قد يجبر الدولة علي رفع مديونيتها الداخلية عبر اللجوء الي طباعة للعملة من غير سند انتاجي، وبذلك في رفع وتيرة ومعدل التضخم المالي ورفع معدل الفقر. ومن ناحية تنموية تعني العزلة أيضاً احجام وتوقف انسياب العملات الصعبة عبر القنوات المصرفية الرسمية، والاحجام عن الاستثمار في البلاد، وتوقف تحقيق مشاريع البنية التحتية من طاقة كهربائية، وإمدادات لمياه الشرب، وإنشاء لطرق مواصلات واتصالات... الخ. ومن ناحية سياسية اجتماعية تعني العزلة الاقتصادية العالمية توقف للبرامج الاجتماعية المتمثلة في دعم الأسر الفقيرة، وتحقيق التعليم المدرسي المجاني، ودعم العلاج الصحي... الخ. وللسلطة الانقلابية تعني هذه العزلة وتوقف الدعم العالمي تحدياً كبيراً لتحقيق ترتيبات السلام الأمنية، التي تقدر تكاليفها بأربع مليارات دولار، بجانب تكاليف الترتيبات الاجتماعية والتنموية، والتي حددت بموجب الاستحقاقات المالية في أتفاقة السلام بمقدار 750 مليون دولار سنوياً تدفع لفترة عشرة أعوام. وتأتي أهمية الدعم المالي الخارجي من خلفية ضمور الاقتصاد السوداني وانهياره التام، وما ترتب عليه من نقصاً حاداً للمصادر المالية وللعملة الصعبة.(Un Security Council, Final report of the Panel Experts on the Sudan, 23.12.2021).
وعلي المستوي السياسي الخارجي أرجع الأنقلاب العسكري البلاد، بتوقيفه للعملية الانتقالية لتأسيس الدولة الديموقراطية المدنية، وبتنفيذ أجرائات غير دستورية، وقتله للمحتجين السلميين، وانتهكاته الفظيعة لحقوق الإنسان الي مربع العزلة السياسية والاقتصادية، التي عاش فيه لأكثر من عقدين ونصف تحت النظام الإسلاموي الشمولي لحزب المؤتمر الوطني، وبعد أن أخرجته منها ثورة ديسمبر المجيدة. حيث علق "الإتحاد الإفريقي" و"مجلس السلم والأمن الإفريقي" عضوية السودان الي حين إنهاء الإنقلاب وعودة الشرعية الدستورية. كذلك تغيب السودان عن المشاركة في "قمة الاتحاد الأوروبي-الأفريقي" الذي انعقد في بروكسل منتصف فبراير هذا العام. وفي الجانب الأخر للعزلة العالمية يتعامل العالم الخارجي مع السلطة الانتقلابية كمهدد حقيقي للانتقال الديموقراطي، والدولة السودانية كدولة غير مستقرقة ومهدده بالفشل الكامل. وفي هذا السياق عينت "المفوضية السامية لحقوق الإنسان للأمم المتحدة" في نوفمبر 2021 وفقا لقرار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة خبيرا لمراقبة حقوق الإنسان في السودان منذ الإنقلاب العسكري.
وعلى المستوي السياسي الإقليمي والعالمي تقع السياسة الداخلية تحت تأثيرات سياسيات الاستقطاب آلتي تمارسها عدة دول من داخل وخارج الإقليم. حيث تجد هذه السياسات الاستقطابية في الوضع الاقتصادي المتردي، والضعف السند السياسية الداخلي للنظام الإنقلابي، وتعدد مراكز السلطة، وفي الانقسامات السياسية علي مستوي السلطة والقوي الثورية ارضية خصبة في السودان لتمرير اجندتها السياسية والاقتصادية. وفي سياق هذا الوضع واستمرار الأزمة السياسية تتزايد تأثيرات دول الإقليم، خصوصاً من قبل مصر وإسرائيل ودول الخليج العربي والسعودية ودولة جنوب السودان وارتريا وأثيوبيا، والدول العظمى مثل الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي وروسيا والصين، والمنظمات الإقليمية مثل الإتحاد الافريقي ومنظمة الوحدة العربية، والأممية متمثلة في الأمم المتحدة، ومجلس الامن، ومفوضية حقوق الانسان في مجري السياسة الداخلية للدولة السودانيه. ويرتبط هذا الوضع بسياسة الانقلابين في البحث عن حاضنة سياسية إقليمية وعالمية لتثبيت سلطتهم العسكرية، وبمارسة دول المعسكر الداعم للدور السياسي والاقتصادي للمنظومة الأمنية والعسكرية عبر علاقاتها السياسية والاقتصادية والتي بنتها مع نظام الجبهة الإسلامية الساقط ووسعتها مع المكون العسكري في الثلاثة أعوام السابقة، وعبر نشاطاتها والياتها التجسسية.
حيث تتنافس دول إقليمية وعالمية في إستقطاب أصحاب القرار السياسي والمؤثرين في المجتمع السوداني من أجل تحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية والعسكرية الإستراتيجية. وجاءت زيارة قائد الدعم االسريع بصحبة وزراء من السلطة الانقلابية الي روسيا وتصريحاته، التي أدلا بها لاحقاً، بإمكانية إعطاء روسيا قاعدة بحرية عسكرية علي ساحل البحر الأحمر وردود الفعل الإقليمية والعالمية تجاه هذا التصريح لتوضح مدي وقوع البلاد في صراع المحاور الإقليمية والعالمية وارتباطه بالصراع الداخلي علي السلطة والثروة بين المراكز المتنافسة علي القبض بالسلطة السياسية والتحكم في ثروات البلاد. وتصب أيضاً تحركات مصر والسعودية في إتجاه تحريك الركود السياسي القائم عبر حث المكون العسكري لخلق الشروط اللازمة لتكوين حكومة مدنية تضمن بقاء الدور السياسي له.
وتقف الآن الدولة السودانية في حالة شبه إنهيار، وتقف علي حافة الانزلاق الي وضع "الدولة الفاشلة" بسبب تداعيات أنقلاب 25 أكتوبر السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية المتمثلة في: أنشقاق المجتمع السوداني سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وتدهور لأداء مؤسسات الدولة الأمنية والمالية والعدلية والصحية والتعليمية والخدمية الاخري، وتخبط في السياسة الخارجية، وفقدان للسيادة الوطنية وهيبة الدولة والقانون، وفي فقدان الأمن والأمان، وانهيار كامل لكل فروع اقتصاد وعملة االدولة وللقوي الشرائية للسواد الأعظم من الشعب، وفي العزلة العالمية.
وقوف الدولة السودانية الآن علي حافة الانزلاق الي وضع "الدولة الفاشلة"، و"عدم اليقين عند المواطن السوداني بما هو آتي غداً"، وتعويل الشعب السوداني علي قيادة سياسية موحده تقدم أجوبة وحلول عملية لمنع هذا الانزلاق وتنهي حالة عدم اليقين بمستقبل الحياة توضح ثقل الضغط الواقع على قوي الثورة والتغيير الديموقراطي علي تحمل المسؤولية الوطنية لقيادة الثورة السودانية!!!
shamis.khayal@gmail.com