التجمعات القبلية: المشهد الاستعماري والإدارة الأهلية والحكومة المحلية في سودان الحكم الثنائي .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
Tribal Gatherings: Colonial Spectacle, Native Administration and Local Government in Condominium Sudan
جيستن ويليس Justin Willis
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لشذرات من مقال لبروفيسور جيستن ويليس نشر عام 2011م في العدد رقم 211 من المجلة التاريخية البريطانية "الماضي والحاضر Past and Present" التي تصدرها "الجمعية البريطانية للماضي والحاضر " بأكسفورد منذ عام 1952م.
ويعمل البروفيسور جيستن وليس أستاذا في قسم التاريخ بجامعة درم البريطانية، وهي من أشهر المراكز التي تحتفظ بوثائق عن تاريخ السودان، خاصة خلال فترة الحكم الاستعماري البريطاني-المصري (الحكم الثنائي). ولهذا البروفيسور - بحسب ما جاء في صفحته في موقع جامعة درم- اهتمام خاص بالتاريخ الأرشيفي والشفاهي لمنطقة شرق أفريقيا (وتشمل كينيا وأوغندا وتنزانيا والسودان) والتغيرات الاجتماعية التي حدثت فيها في المائتي سنة الأخيرة. ويبحث الرجل أيضا في التاريخ الثقافي للانتخابات في شرق أفريقيا، والتاريخ الاجتماعي للمشروبات الكحولية فيها.
المترجم
**** **** **** **** ****
حوت النشرة الشهرية الملخصة التي توزع على كبار أعضاء الحكومة في مارس 1952م وصفا متحمسا لحدث وقع في مناطق الكبابيش بمديرية كردفان بغرب السودان، جاء فيه: "عقد في سودري بشمال كردفان تجمع قبلي كبير في يومي 15 و16 بمناسبة افتتاح مبنى جديدا لمجلس الإدارة الريفية. وشهد الاحتفال السكرتير الإداري ومعه عدد مقدر من المسؤولين البريطانيين والسودانيين والضيوف. وتم نقل الجميع من جميع أنحاء السودان بثلاث طائرات ... وعند العصر، نظم برنامج رياضي، وسباق للهجن والخيول. وأقيم حفل شاي عند الساعة السادسة مساء، أذاع راديو أم درمان في غضونه تفاصيل ما جرى في ذلك اليوم في سودري".
ووجد السكرتير الإداري جيمس روبرتسون في خلال برنامجه المزدحم الذي استمر ليومين متتابعين فرصة ليقلد أحد السودانيين ميدالية تكريما له. كان ذلك هو أحمد محمد تنجال، الباشجاويش (الرقيب أول) الذي كان قد تقاعد منذ فترة وجيزة بعد أن خدم في قوة شرطة (بوليس) السودان نحو 32 عاما. ولعل الرجل، وهو ينتصب منتظرا تقليده للميدالية، كان يعكس التغييرات التي طرأت على سودري، وعلى مشاهد الحكومة في غضون سنوات خدمته الطويلة. وكان الرجل عند بدء خدمته قبل نحو ثلاثين عاما قد شهد مقدم مدير مديرية كردفان البريطاني أي . جي. سارسفيليد -هول إلى سودري عام 1923م في زيارة تفتيشية على ظهر حصان، حيث استقبله في حفاوة بالغة جمع من الضباط والمسئولين والشيوخ كان غالبيتهم ينتظرون وهم على ظهور إبلهم. غير أن ذلك الاحتفال (عام 1923م)، رغم جماله البائن، كان متواضعا جدا مقارنة مع الاحتفاء بمقدم السكرتير الإداري جيمس روبرتسون (عام 1952م) بما حواه برنامجه من عروض قبلية وموسيقى عسكرية ورقصات شعبية. وكان على سارسفيليد –هول أن يسير على ظهر فرسه لعدة أيام إلى الشمال الغربي من سودري قبل أن يلقى ناظر الكبابيش وأفراد قبيلته. غير أن روبرتسون وجد ناظر الكبابيش وجماعته بانتظاره في سودري على مدرج المطار. وتفقد سارسفيليد – هول في زيارته تلك المبنى الوحيد في المنطقة، والذي كان مكونا من مكتب ملحق ببيت متواضع لمساعد المفتش الإداري البريطاني، الذي كان مسئولا – بمفرده – عن إدارة منطقة شاسعة مترامية الأطراف يطلق عليها "دار كبابيش". أما روبرتسون فقد طاف على عدة مَبَانٍ تخص "الإدارة المحلية" لقبيلة الكبابيش.
ولو كان تنجال يعلم شيئا عن المنطقة التي قدر له أن يعمل فيها قبل انضمامه لقوة الشرطة، لأدرك أن سودري في عام 1923م كانت شيئا "جديدا" و"غريبا" بعض الشيء. فقد كانت سودري قبل نحو أربعة عشر عاما من تاريخ التحاقه بالشرطة نقطة صغيرة حفرت فيها آبار للسقيا، وجعلها الحكم الثنائي مكانا لالتقاء المفتشين أو مساعديهم بالأهالي في المنطقة. وأوضحت صورة فتوغرافية التقطت عام 1909م لسودري أنه لم يكن هنالك فيها سوى راكوبة وحيدة أقيمت على عجل لتوفر للبريطاني الزائر ومساعده المصري وثمانية شيوخ محليين (لم يكن هنالك "ناظر للقبيلة حينها) ظلا يحميهم من الهجير. ووقف الرجال العشرة في تلك الراكوبة الوحيدة أمام الكاميرا لتصوير تلك اللقطة التاريخية، وعلمي دولة الحكم الثنائي يرفرفان فوقهم. وظهر في الصورة الإداريان البريطاني والمصري في زيهما الرسمي وهما يعتمران القلنسوة الشهيرة وعيناهما مصوبتان نحو الكاميرا، بينما أطرق الرجال السودانيون برؤوسهم (ورد في ثبت المراجع أن الصورة محفوظة في أرشيف السودان بجامعة درم تحت رقم SAD, A17L28 المترجم).
لقد كان تحول سودري من مجرد محطة صغيرة نائية، ونقطة لا تكاد ترى صغيرة على الخريطة، إلى مركز إداري محلي متقدم، يقوم فيه المسؤولون بمشاهدة أحد "التجمعات القبلية" قبل الاستمتاع والتلذذ بسماع أخبار نشاطهم يذاع حيا على الهواء من إذاعة أم درمان في ذات توقيت الحفل، بمثابة تذكير بنتائج الحكم الثنائي (على الريف بالسودان). وكانت إحدى نتائج ذلك الحكم هو تحويل شيوخ ونظار القبائل المحليين من مجرد "أهالي متجهمين" إلى رفقاء (ظرفاء) في حفلات الشاي! ويمكن أن نعد – على واحد من المستويات - ذلك النجاح دليلا أكيدا على فلاح المشروع الاستعماري الكبير في عملية "إعادة صياغة" يساق الأهالي فيها إلى عمليات "تمثيل السلطة"، ويمنحوا من خلالها سلطة محلية في إطار منطق سلطة الدولة الأعلى. وتبدو زيارة روبرتسون في سياق هذا التحليل كلحظة الذروة في سلطة الدولة الاستعمارية الضاربة القوة - وهي الممارسات التي تقوم من خلالها الدولة (التي تملك كل وسائل العنف القاهر) بالاقتصاد في إظهار أو استخدام ذلك العنف، و"تلطيف" وقعه.
لم تكن زيارة سارسفيلد – هول لسودري في عام 1923م هي المرة الأولى التي يقابل فيها علي التوم ناظر الكبابيش. فقد كان ذلك الشيخ يستدعى لعاصمة المديرية لأبيض (مع غيره من نظار وشيوخ المنطقة) مرة على الأقل كل عام للقاء المسؤولين البريطانيين. وفي غضون سنوات العشرينيات كان هؤلاء الشيوخ والنظار يأتون وهم في يرتدون كُسْوات الشرف الرسمية التي توضح مكانتهم في التراتبية الإدارية. ويتم أخذ صورا تذكارية لهم مع المسؤولين البريطانيين لتنشر في أكثر من مكان للتدليل على روح العمل المشترك بينهما. وكان ذلك التقليد قد فارق تقليدا قديما بدأ مع دخول الاستعمار الإنجليزي – المصري للبلاد. ففي عام 1906م قدم وفد من الشيوخ والنظار مع جمع مكون من 1500 من الأهالي على ظهور خيولهم لتحية الحاكم العام الذي كان في زيارة لكردفان، وذلك خارج مدينة الأبيض. ولمس البريطانيون في العرض الذي قدمه ذلك الجمع إشارات عابرة تفيد بـ "إمكانية التحدي"، مع تعبير واضح عن الولاء والطاعة. فقد لاحظ الحاكم العام أن ذلك العدد الكبير من الفرسان يفوق عددا ما تحت الحكومة في الأبيض من جنود. لذا منع في ما أقبل من سنوات تجمع مثل ذلك العدد الكبير من الفرسان في مكان واحد. ولم يكن هنالك أي تجمع للفرسان عند قدوم سارسفيلد – هول إلى سودري في عام 1923م، بل مجموعة مختارة من الجنود مثلوا "حرس الشرف" الرسمي. أما عندما خرج سارسفيلد – هول من سودري (أي خارج منطقة نفوذ الحكومة) للقاء الناظر علي التوم، قابلته جماعة من عائلة علي التوم رافقوه في رحلة استغرقت ثلاثة أيام كاملة على ظهور الأبل حتى بلغوا معسكر الناظر. ولاحظ سارسفيلد – هول أن الوضع في المعسكر كان فوضويا، إذ تشاجر أمامه ابن على التوم مع عمه (شقيق علي التوم) وكان شيخا كبيرا. وأقام علي التوم عرضا قبليا لزائره البريطاني نال إعجابه. ولا غرو، فعلي التوم كان يدرك ولع البريطانيين بالعروض الباهرة وبالفخامة والأبهة، إذ كان قد رأى ذلك بعينيه عام 1919م حين زار بريطانيا في معية علي الميرغني وعبد الرحمن المهدي وغيرهم من كبراء السودان لتهنئة الملك جورج الخامس بالانتصار في الحرب العالمية الأولى. وكتب سارسفيلد – هول فيما بعد أن "علي التوم وقبيلته هم من أكثر الناس جاذبية وعروبة فطرية لم تفسدها المدينة". وكانت تلك الزيارة فرصة ذهبية لعلي التوم ليثبت لقبيلته مدى قربه من "الحكومة"، ذلك الكيان الغامض والبعيد عن مخيلة وتصور شعبه، وليؤكد سلطته وقدرته على "ضبط الأمن والسلم" في منطقته، لا سيما وأنه وضعه كناظر للقبيلة كان مهزوزا في سنوات الاستعمار الباكرة بسبب صراعات الزعامة في بطون وأفخاذ القبيلة.
ولكن يبرز هنا السؤال التالي: لماذا كل ذلك العدد الهائل من "رجال القبائل"؟ قدر الخبر الذي أذيع يوم 1952م عددهم بسبعة آلاف... أقبلوا ليشاهدوا العرض أو ليشاركوا في السباقات، وربما ليظهروا الولاء والطاعة للحكام ذوي الشوكة.
لقد جذبت أهمية العروض الاستعراضية التي تقيمها السلطات الاستعمارية في مستعمراتها كثيرا من الكتاب والأكاديميين لبحث مسألة استعراض الاستعمار لقوته أمام الأهالي، وكيف أن ذلك الاستعراض كان أداة رئيسة وفاعلة وتعد من أهم أدوات السلطة الاستعمارية (وللسطات الوطنية التي أتت بعدها). ربما كان مرد حماسة السلطة الاستعمارية لاستعراض قوتها أمام الأهالي وانتزاع إعجابهم المخلوط بالخوف هو قلة موارد الدولة وعجزها المزمن عن توفير ما يكفي من الموارد لمقابلة تكاليف التصدي العنيف اللازم لقمع تمرد أو مقاومة الأهالي لحكمها، مما يجعلها تؤثر استعراض قوتها الضاربة أمامهم، عوضا عن استخدامها فعليا، حتى تبدو سلطتها " قانونية وطبيعية أكثر منها أجنبية وظالمة". لقد كتب ديفيد كاندين في كتابه "كيف رأي البريطانيون إمبراطورتيهم" عن الاستعمار في نيجيريا عن كيف أن الاستعراضات والمسيرات والاحتفالات والمهرجانات فيها كانت بمثابة خلق لـ "نظام رمزي للاستعمار، تقوم ضمن إطاره الطقوس بالسماح – إن جاز التعبير- بنوع معين من المشاهدة".
أثبتت مشاهد عرض السلطة الاستعمارية وقوتها في كردفان طماح المسؤولين للسيطرة، وشعور إداريي الدولة المركزية بالتفوق، وهم الذين أفلحوا في جمع صفوة الخريجين السودانيين مع قادة البلاد التقليديين، والذين غدوا بصورة متزايدة يتباعدون عن سكان أرياف البلاد في أخريات سنوات الاستعمار.
لقد كان "الاحتشاد الإمبريالي / الاستعماري Imperial Assemblage" الذي أقيم بالهند في مناسبة تنصيب فيكتوريا إمبراطورة على الهند، والذي شارك فيه 84000 من البريطانيين والهنود بالقطع أكبر تجمع احتفالي إمبريالي من نوعه. وحرص المسؤولون البريطانيون على تقليل عدد غير البريطانيين في ذلك التجمع كي يكون العدد الأكبر من الحضور هم من البريطانيين في الهند، ربما لإثبات وجودهم في "ممتلكاتهم" نيابة عن الإمبراطورة.
(استعرض الكاتب بعد ذلك عددا من المشاهد الاحتفالية للمستعمر الأوربي في بعض الدول الإفريقية مثل نيجيريا والكاميرون وقارن بينها وبين تلك المشاهد في الهند، وبينها وبين ما حدث في سودري، وتناول أهمية الوجود الإداري لغير البريطانيين مثل الإداريين المصريين أولا ثم السودانيين لاحقا. المترجم).
وكما ذكرنا فقد كان البريطانيون يرون تلك الاحتفالات في سودان الحكم الثنائي أداة فعالة في تثبيت أركان السلطة. أما "التجمعات القبلية" في تلك الاحتفالات فقد كانت ذات طبيعة خاصة أتت مصادرها خليطا من تقاليد وأفكار سودانية ومصرية وبريطانية، وهي دوما نتاج "إعادة تفاوض" لا ينقطع. لقد كان مثل ذلك "التجمع" هو أكثر المشاهد التي يمر بتجربتها السوداني في البادية. وتستمد تلك التجربة قوتها وفعاليتها كأداة للسلطة من تعدد من يقوم بالتحضير لها (من سودانيين ومصريين وبريطانيين). وساهمت، بلا ريب، مشاهد استعراضات تثبيت السلطة تلك في تعريف طبقة الصفوة السودانية بموقعها الحقيقي في الدولة، وأدت أيضا دورا في خلق ممارسة للحكومة عملت على تحويل عامة الجماهير إلى مجرد "أهالي" مترددين ولكنهم، على وجه العموم، مطاوعين (compliant) ومذعنين لها.
ويعد تاريخ الاستعراضات والمشاهد التي أدت إلى ذلك التجمع القبلي في عام 1952م حدث ذو أهمية خاصة. وبما أن استعمار السودان كان استعمارا من نوع خاص في بعض الجوانب، بل وكان لشمال كردفان وضعا خاصا حتى في السودان نفسه، فإن تلك الأحداث تعطينا فهما ونظرة أبعد عن أسباب وكيفية مشاركة الأهالي في تلك المشاهد. ويصعب تحليل تلك الكيفية والأسباب نسبة لمحدودية المصادر – خاصة تلك التي كتبها باللغة الإنجليزية الرجال الذين كانوا جزءا من تلك العملية. ولا تتوفر عندنا الآن إلا ما سجلته المصادر الحكومية الرسمية، (وهي لا تعبر غالبا عن آراء الأهالي).
لقد تغيرت سياسات ولغة خطاب الدولة الاستعمارية عبر السنوات، إذ طورت تلك الدولة تقنيات جديدة لتثبيت السلطة، بل وقامت في سنواتها حكمها الأخيرة بتغيير شعار "الإدارة الأهلية" بـ "الحكومة المحلية" في يسر يبعث على الاستغراب. ويدلنا ذلك "التجمع القبلي" في شمال كردفان على أنه كانت هنالك استمرارية عظيمة المدى والتأثير لعمليتي تأكيد وتثبيت السلطة تختبئ تحت تلك التغييرات الظاهرية في سياسة الحكومة، التي بدأت كدولة عنيفة الخشونة في سنواتها الأولى، وغدت في أخريات أعوامها دولة شديدة البيروقراطية. ورغم اللغة المميزة التي كان يستخدمها الاستعمار في سنواته الأخيرة، والتي عبر فيها عن إقراره لمبدأي التمثيل والتنمية وتطبيقه لهما، فإن طبيعة المشاهد التي تطرقنا لها آنفا تذكرنا دوما بأنه بالنسبة للعمليات التي تتألف منها سلطة الدولة، يمكن وصف تلك الفترة بأنها فترة تطور متدرج (progression) أكثر منها فترة تغيير حقيقي للمسارات السياسية (المعتادة).
وصف هومي باهابا في كتاب له بعنوان "موقع الثقافة" الرجل "الاستعماري" بأنه "إفْتِضاحِيّ / استعراضي exhibitionist". وكان بالسودان الإنجليزي المصري نظام مولع بالخيلاء والأبهة والبهرجة، يتخذ له عدة أشكال. وكان في موضع القلب من تلك الأشكال أهم مظهرين للسلطة من ناحية الموارد هما الأزياء الرسمية والمعمار، إذ كانت لهما الأولوية منذ أول يوم لاستلام السلطة في البلاد عام 1899م. وكان أول عمل ينجزه الحكم الثنائي هو إعادة بناء الخرطوم، عاصمة دولة الاستعمار التركي – المصري، بتخطيط عصري وتوسع كبير من أجل التأكيد الفعلي (للأهالي) على قوة الحكم الجديد وشدة بأسه وديمومته. واستدعت الحكومة وجهاء الشماليين الذين يظن أن لهم تأثيرا اجتماعيا في مناطقهم للخرطوم كي يروا بأم أعينهم (ويبهروا) بالمعمار الضخم الذي قامت على تشييده الحكومة الجديدة. وجلبت الحكومة أيضا – بحسب تقرير من المخابرات السودانية صدر عام 1904م – زعماء جنوبيين للخرطوم من أجل "توسيع مداركهم enlarge their minds". وعبر أحد المسئولين البريطانيين في عام 1908م عن رضاه عن نتائج زيارات أولئك الزعماء القبليين بالقول: "لقد دهشوا منبهرين بما شاهدوه من مَبَانٍ ضخمة وحدائق منظمة، ووضح لهم تماما بأن هذه الحكومة قد أتت لتبقى". وهنالك تقرير محفوظ بأسماء ومناصب أولئك الزعماء (المنبهرين) في أرشيف حكومة السودان الصادر في عام 1922م. وقامت الحكومة بصورة دقيقة بتخصيص أمكنة وأزمنة كل احتفال تقيمه، والأزياء التي تعرض فيه. فقد كانت تقام في حدائق القصر مسيرات بصورة منتظمة. وكانت الحكومة تحرص أيضا على أن تكون هنالك في رئاسة كل مديرية ومنطقة بالسودان ميادين عامة لإقامة مثل تلك المسيرات، ويرفرف في وسطها علما دولتي الحكم الثنائي. ولم يكن هنالك شح قط في علمي الدولتين الاستعمارين، لذا كانا يرفرفان على كل المباني الحكومية أينما ذهبت في السودان، وفي مواكب كبار مسئولي البلاد أيضا. بل لقد قامت الحكومة حتى بتحديد شكل وأبعاد المسطبة التي يقف عليها من يتلقى التحية العسكرية من المسئولين. وظلت مثل تلك المعلومة تنشر في "تقويم السودان Sudan Almanac" مع غيرها من معلومات الأوزان والمكاييل المستخدمة بالبلاد. وظلت سنوات حكم ريجلند وينجت الحاكم العام للسودان (1899 – 1916م) مميزة في كثير من الجوانب، حتى عندما يقوم بإداء تمرينه الصباحي اليومي، والذي كان يعد في حد ذاته مسيرة يومية صغيرة ... وكانت المناسبات الدينية مثل مقدم شهر رمضان والمولد النبوي والحج مناسبات تقام فيها مواكب احتفالية ومسيرات كبيرة يقف فيها زعماء وشيوخ السودان في أتم زينتهم صفوفا متطاولة لمصافحة الحاكم العام في الخرطوم (ومدراء المديريات في عواصمهم). وتظهر في تلك المواكب والمسيرات هيبة ومهابة الحكومة بقوات جيشها وشرطتها وسجونها، وينعم الحاكم العام (ومدراء المديريات) على الشيوخ والكبراء من ذوي الحيثية بأنواط وكُسْوات الشرف، ويبادلونه ذلك التكريم بتكرار عبارات الشكر والتقدير والولاء للحكومة.
وحرمت الظروف البريطانيين في السودان من الاحتفال بيوم الإمبراطورية وذلك بسبب وضع الحكم في السودان، بحسبانه حكما ثنائيا لا يتبع للإمبراطورية البريطانية. لذا اخترع البريطانيون بالبلاد احتفالهم الخاص وسموه "يوم الملك"، والذي يصادف يوم زيارة عابرة قام بها الملك جورج الخامس في عام 1912م. وفي احتفال الذكرى الأولى لتلك الزيارة أقيم في الساحة الواقعة أمام رئاسة الحكومة احتفال سارت فيه كوكبة من جنود "اللواء السوداني" في مسيرة جابت شوارع أمدرمان، وجرت في كلية غردون منافسات رياضية، وأقيم معرض صناعي. أما في المساء فقد أقيم احتفال عرض عسكري بشُعُلات لهب والعاب نارية. وأقيم في عام 1924م عرض للطيران قدمه سلاج الجو الملكي. وظل المسئولون، حتى بعد عشرين عاما يزعمون في تقاريرهم بأن الجماهير تستمتع باحتفالات "يوم الملك" بـ "تلقائية وجذل". ومرة بعد أخرى يقوم الأعلام والأزياء الرسمية والأسلحة بتزيين أماكن معينة باعتبارها رموزا للدولة ومعبرة عن منطقها عبر السنوات.
وكانت كثير من تلك الأحداث – مثل زيارة الملك في عام 1912م (التي نزل فيها الملك لأرض السودان لساعات قليلة) مخططة لها بدقة فائقة من قبل، تماما مثل ذلك "الاحتشاد الإمبريالي" في الهند الذي أشرنا إليه آنفا. وكان مقدم أو مغادرة الحاكم العام، حتى عام 1924م، مناسبة تقوم فيها الحامية المصرية بتحيته في محطة السكة حديد بعزف مارشاتها وموسيقاها المتنوعة، وترافقه إلى القصر حيث تستقبله هنالك الحامية البريطانية على ظهور الخيول. غير أن ذلك التقليد توقف في 1924م. ففي نوفمبر من ذلك العام طرد البريطانيون وحدات الجيش المصري بالسودان عقب قيام حركة سياسية تنادي بوحدة السودان ومصر. وتغيرت تبعا لذلك طقوس الروتين الاحتفالي، وغدت مشاركة الجنود المصريين في تلك الاحتفالات رمزية فحسب، تعكس حجم الوجود المصري بالسودان. وفي يناير من عام 1925م قدم الحاكم العام لقصره مباشرة بالباخرة، حيث كان في استقباله حرس الشرف المكون من جنود بريطانيين وسودانيين (بعد أن تم تكوين "قوة دفاع السودان"). واستدعي بعد ذلك وجهاء المدينة وكبرائها للقصر ليشهدوا الاحتفال بيوم الملك.
لقد شهد السودان في عهد الحكم الثنائي مشاهد ومظاهر احتفالية متنوعة، ورث بعضها ذلك العهد من الاستعمار التركي – المصري السابق، والتي كانت بدورها خليطا من تراث الخلافة العثمانية والتأثيرات الأوربية. وكانت المسيرات والأزياء الرسمية اللافتة تمثل جسرا للتواصل والاستمرارية بين التنظيم العسكري وسلطة الدولة والجنود السودانيين في المراكز والنقاط النائية. فعلى سبيل المثال كان المحاربون القدامى الذين شاركوا في حرب الفرنسيين بالمكسيك في ستينيات القرن التاسع عشر يحرصون دوما على وضع الميداليات التي منحتها لهم فرنسا بارزة على صدورهم. وحتى في العهد التركي – المصري لم تكن الاستعراضات والمسيرات دوما "كولونولية / استعمارية" الطابع. فقد جاء في كتاب كولستون المعنون "تقرير عن شمال ووسط كردفان" الذي صدر بالقاهرة عام 1875م، رواية جندي أمريكي التحق بخدمة الحكومة المصرية جاء فيها أنهم كانوا في استقبال حاكم دنقلا وهو في معية مرافقيه، وأنهم تعجبوا من "البدو" الذين كانوا في مقدمة موكبه وهم على ظهور جمالهم، ومن عرب الهواوير وهم ركوب على خيولهم المُطَهَّمة، ويقومون – وهم على ظهرها - بأداء حركات رياضية وفنية لافتة. و"سرق" أولئك الهواوير العرض من الحاكم ووفده بما قدموه من فنون الفروسية. وهذا ما كان يميز احتفالات ومواكب ومسيرات ذلك العهد خلافا للعروض العسكرية البحتة.
وعقب اندحار الحكم التركي – المصري في سنوات ثمانينات القرن التاسع عشر أمام الحركة المهدية، اختفت – مؤقتا – طقوس تلك الاحتفاليات المميزة. غير أن المهدية نفسها أتت بطقوسها الخاصة ومشاهد احتفالاتها المميزة، التي كان مسرحها الرئيس هو ساحة الصلاة المحيطة بقبة المهدي في يوم مخصوص من أيام الأسبوع، وكانت مشاهدها تعد من مظاهر السلطة والتقوى، والطاعة للحاكم. لذا حرص الحكم الإنجليزي المصري في أول بداية عهده في 1898م إلى قصف تلك القبة بالمدافع، وإزالة ما بقي من حطامها بالمتفجرات.
ولم تكن مشاهد الاحتفالات الدرامية الباذخة في العهد الإنجليزي - المصري وقفا على الدولة وحدها. فعلى سبيل المثال قام عبد الرحمن المهدي (ابن عدو بريطانيا القديم) في عام 1926م بعمل استقبال ضخم استقبالا للحاكم العام آرشر. وأوضحت مشاهد ذلك الاستقبال الحافل ثراء عبد الرحمن المهدي وكبر عدد أنصاره. ولم يقصر علي الميرغني في منافسة عبد الرحمن المهدي خصمه الطائفي / السياسي لإظهار الثراء والقوة وعدد المؤيدين، وظلا – كما ذكر دالي في كتابه "امبراطورية على النيل" نقلا عن تقارير للمخابرات، في حالة تنافس علني لا ينقطع. وكان واضحا من مظاهر تلك المناسبات الاحتفالية التي كان يقيمها زعيما أكبر طائفتين بالبلاد تركيزهما على إظهار الثراء وكبر عدد المؤيدين (أو على الأقل الحضور)، وليس غير ذلك. وأوضحت تلك الاحتفالات أيضا أن السودانيين، مثلهم مثل البريطانيين والمصريين/ كانوا يرون أن تلك الاحتفالات العامة والمواكب والمسيرات المحتشدة هي أحد أهم الوسائل لتأكيد السلطة وتعريف طبيعتها.
وبالعودة لاحتفال سودري، ينبغي أن تؤخذ مشاهد استعراض السلطة في شمال كردفان في سياق أوسع لثقافة عرض السلطة لقوتها وشدة بأسها من واقع ما كان ممارسا محليا في شمال كردفان. وينبغي التعمق في مسألتين هما: الإلفة الثقافية cultural familiarity لتلك العروض الاحتفالية، التي قد تفسر أسباب استعداد الأهالي للمشاركة في استعراض الحكم الاستعماري لقوته، وفي ذات الوقت يجب الانتباه إلى أن القدرة على قراءة مثل تلك الأحداث بحسبانها جزءا من الثقافة السائدة المستقرة (established culture) قد تعني أنه في الوقت الذي كان يهنئ المسؤولون فيه أنفسهم على (نجاح) تلك المواكب والاستعراضات والمسيرات (التي كانت تمثل بالنسبة لهم أوامر الحكومة) فإن المشاركين الآخرين قد يكونوا قد فهموا تلك الأوامر على نحو مغاير تماما.
نخلص إلى أن المظاهر الاحتفالية التي تقيمها السلطة / الدولة كثيرا ما تكون موضع السخرية من عامة الناس، خاصة من الذين يرفضون سياسة الحكومة / الدولة. غير أنهم في غالب الأحوال قد يخضعون أنفسهم للمشاركة فيها كنوع من عملية تأديب disciplinary process تعلمهم وتعودهم على "المطاوعة / الامتثال compliance". غير أن المطاوعة لا تعني بالضرورة الاستسلام لمنطق الدولة. وقصة دار كبابيش التي أوردناها هنا مثال جيد لحدود المشهد (الاحتفالي) وحدود الدولة التي توظف ذلك المشهد كي توفر على نفسها كلفة استخدام عنف مسلح مفرط لإنفاذ سلطتها قد تستبعه نفقات مالية لا قبل لها به.
ولم تكن المشاهد الاحتفالية التي أقامتها الحكومة بعيدة عما هو مألوف في ثقافة عامة الأهالي. أما بالنسبة للصفوة المتعلمة، فقد كانت تلك المشاهد الاحتفالية فرصة لهم ليؤدوا دور "المشاهدين / النظارة"، بينما يقومون بخداع الأهالي لتأدية أدوار المطاوعة (لأوامر المستعمر) ويظهرونها كأنها تطبيق للعلاقة (الطبيعية) بين الشيخ وأفراد قبيلته. ورغم أن الحكومة (وربما بعض صفوة المتعلمين) كانوا يعملون على أن يعتاد الأهالي ويداوموا على "المطاوعة، إلا أن حركات المقاومة التي ظهرت هنا وهناك ذكرت الجميع بأن الحكومة هي نظام أجنبي في نهاية المطاف. وكانت التجمعات القبلية تلك هي من أهم أدوات الحكومة التي هدفت وعملت باستمرار لفرض وتوسيع سلطتها، غير أنها سمحت (بل اعتمدت) على التعبير عن الفرق الثقافي بين الحكومة والأهالي.
وما أن حلت سنوات الستينيات في السودان حتى بدا جليا أن تجربة الحكومة المحلية لم تنجز ما وعدت به، فلا هي حازت على تأييد شعبي، ولا قامت بأعمال تنموية ذات أثر في الدولة. وبعد عشرين عاما من صدور "مشروع مارشال" كتب متفائلا قلوباوي محمد صالح، أحد خبراء الحكومة المحلية بالسودان ما يفيد بأنه على الرغم من إخفاقات النظام الإداري، فإن الحكومة المحلية بالسودان ظلت تسعى للربط بين المواطنين (citizenry) وبين الأهداف الآنية والعاجلة للتنمية المحلية، وتشجيع المواطنين للمشاركة بحماس في الواجبات المادية (الفعلية) المطلوبة للتنمية، وستنتج لنا (وتقنن / تشرع legitimize) الحكومة المحلية قادة عصريين ليحلوا محل القادة التقليديين في المجتمع البدوي الآيل إلى زوال. ولم يمر على نشر ذلك الرأي وقت طويل حتى أصدر جعفر النميري أوامره بحل مجلس الحكومة المحلية، واستبدله بـ "مجالس الحكومة المحلية الشعبية" .ثم النظام الإسلامي العسكري الحالي (1989م – الآن) فعاد جزئيا إلى نظام الإدارة الأهلية التقليدي. غير أنه يصح القول بأن كل الأنظمة التي جربت في السودان لم تصب نجاحا كبيرا من مجالي الشرعية المحلية والتنمية. ومن ناحية عملية فالحكومة المحلية في السودان – مثلها مثل كثير من الدول الإفريقية، لم تكن "حكومة" ولم تكن "محلية"، وخذلت كل التوقعات المتناقضة التي علقها عليها المؤيدون في نهايات سنوات الاستعمار، وبعد خروجه أيضا.
alibadreldin@hotmail.com