التنابذ بالألقاب عند العميد (البحري) والبروفيسور (البطري)

 


 

 


بسبب ظرف طارئ انقطعت عن متابعة الأخبار والمقالات  السودانية المنشورة في المواقع الإسفيرية،  ثم عدت لمتابعتها بشوق عظيم، فإذا بي أمام مقالين ناريين للبروفيسور/ حماد بقادي وللعميد / عبد الرحمن فرح، تبادلا فيهما الاتهامات، وتراشقا بالإساءات،  وتنابذا بالألقاب. والأخيرة هذه هي ما دعتني لكتابة هذه السطور، والتي لا تتطرق البتة لصميم ما اختلف عليه الشيخان الجليلان، ولا تنتصر لأحدهما على الآخر، فليس لي ما يكفي من العلم بدقائق ما اختلفا عليه، ولا قدرة لي (ولا رغبة) للحكم علي ما شجر بينهما، رغم أن مجرد التطاعن والعنف اللفظي وتبادل الاتهامات علي صفحات الجرائد، وتعدي الخلاف السياسي إلى دائرة التنابذ بالألقاب والمهن، لمما يؤسف له، خاصة بين شيخين كانا (وما يزالان) من "أعمدة المجتمع"، وكان حري بهما التزام جانب الموضوعية واحترام "المحاور"، والبعد عن الفجور في الخصومة، ورفع مستوى النقاش حول الوقائع التاريخية التي تبادلا الجدال حولها لمستوي يناسب مكانتهما ووضعهما ومقامهما وسط الناس. أقول قولي هذا وأنا محرج بعض الشيء، إذ كنت قد عملت زميلا (صغيرا) لأحد الخصمين قبل نحو ربع قرن من الزمان، بيد أني أرى أن الحق أولي بالإتباع، وأن الصامت عن "الحق" شيطان أخرس.
جاء في مقال البروفيسور ما نصه التالي: "وأنا أكتب لأول مرة عن هذه المسرحية، مشفقاً على عبد الرحمن فرح الذي تجاوز عمره الثمانين عاماً، وقد عُرف بين الناس بأنه شخصية مستهترة وعُرف بأنه جاهل «والشيء من معدنه لا يستغرب».وأضاف إلى شخصيته بجانب الاستهتار الكذب "ونرجو له الهداية...".  حشد البروفيسور في جملته هذه عددا "مقدرا" من الإساءات الشخصية لخصمه، شملت الاستهتار والكذب والجهل والضلال، وكذلك الطعن في السن (بما يفيد الضعف العقلي أو "الخرف"). وفي موضع آخر أضاف له البروفيسور تهمة الخيانة لحزبه وإمامه.   وكل هذا لا تعليق لي عليه، رغم أني لا أرى له سببا أو داعيا، وكان من الممكن النفاذ لجوهر ما يختلف عليه الرجل معه دون الحاجة لهذا السيل من الإساءات الشخصية. ما أزعجني فعلا هو ما سطره البروفيسور من أن خصمه "عميد (بحري) بالمعاش، وبشهادة زملائه كان في مؤخرة دفعته"، وفي هذا تحقير للخصم لا تخطئه العين، وحط من قدراته في أمر لا يتطلب مجرد ذكر المؤهلات والتحصيل الأكاديمي أو المهني، ولا علاقة له بما يختلف عليه معه. فمبلغ علمنا (من مقال الرجلين) أنهما عملا معا في أعمال عامة وخاصة، وهما على علم تام بمؤهلات كل منهما، ومستوياته الأكاديمية، وربما معدل ذكائه أيضا. هل يهم القارئ أو المتابع لهذا الجدال المسيء أن يكون أحدهما في ذكاء إياس (أو إنشتين) أو غباوة جحا (أو هبنقة)؟ وهل تحتاج "السياسة السودانية" التي نراها الآن (مع احترامنا للأذكياء والمفكرين من نسائها ورجالها) إلى قدر كبير أو صغير من "الذكاء" (بأي تعريف له لها قد يخطر لك على بال)؟! وهل كان مقال البروفيسور سيختلف قليلا أو كثيرا لو كان خصمه "مشير طيار (مثلا) وبشهادة زملائه كان أول دفعته"؟!
هذا ما كان من أمر مقال البروفيسور. أما ما نشر من رد من خصمه (العميد البحري)، فقد أتى - للأسف- وقد بلغ الغاية في الفحش والفجور في الخصومة، وفي نسيان الحكمة النبوية البليغة التي تنصحنا بأن نبغض بغيضنا هونا ما، عسى أن يكون حبيبنا يوما ما. قرر  العميد بحري (معاش) في يسر وجزافية واستخفاف لا يليق،  أن خصمه "بروفيسور ... أستاذ الطب الحيواني الذي يبدو لي مدى تطابق جيناته لما يدرس"، وفي قوله – بالطبع-  إشارة مبتذلة جدا إلى أن خصمه "حيوان" ، بيد أنه توقف – مشكورا- عن إفادتنا بطبيعة ذلك الحيوان، أهو أليف أم "وحشي"، أهو "غبي" أم "ذكي" (ولا داعي للأمثلة من عالم الحيوان)! يبدو أن الإشارة إلى أن ترتيبه كان "الطيش" (حتى في الجيش!)  قد مس كرامته فدعته النفس الأمارة بالسوء  إلى المبالغة في الإساءة لخصمه، ودمغه بالخروج من عالم "الإنسان" إلى عالم "الحيوان"، و"تطابق  جيناته لما يدرس"، رغم أن هذه الجملة عديمة المعني تماما من الناحية العلمية (ولكن أنى له أن يعلم ذلك؟!). كذلك لا يشير "العميد بحري معاش" إلى خصمه إلا بأنه "البروفيسور (البطري)"، وكأن كلمة "البطري" ستبطل تأثير أو مفعول الدرجة العلمية السابقة لها (إن كان لها من تأثير أو مفعول أصلا على القارئ المسكين مثلنا)! تري هل كانت الدفوعات التي أتى بها الرجل في رده ستختلف أو يختلف تأثيرها لو استبدلنا كلمة "البطري" بمهنة أخرى مثل "التشكيلي" أو "القانوني"أو "المهندس" أو "جراح المخ والأعصاب"؟! يبدو أن مهنة الرجل كـ "عميد بحري" كان يقام له ويقعد، قد ملكت عليه حواسه  فرأى في فوز "جندي" على خصمه "البروفيسور (البطري)" في الانتخابات أمرا مخجلا يستوجب الاختباء عن أعين الناس، فكتب يقول مخاطبا "البروفيسور (البطري)" : "عند سقوطك المزري بين أهلك (يا ود القبائل) في إحدى دوائر الانتخابات بكردفان 1986م عندما فاز عليك أمباشا(م) إدريس..."، وصاحبنا إدريس (الأمباشا بالمعاش) لا ناقة له ولا جمل في عراك الرجلين...أمباشا (وبالمعاش كمان)...يا للعار! يذكرنا ذلك بقصة رجل من قبيلتنا (المعروفة) حين كال السباب لأحد خصومه، ولم يكتف بذلك، فزاد في السباب ليشمل رجلا   "بريئاً" تصادف  وجوده قرب الخصم! . كذلك قام عميدنا البحري (معاش) بعملية "مطاعنة" ذكورية، عرض فيها بخصمه، كون من رشحه لحكم "كردفان" امرأة، فكتب يقول: "رشحك ...أو حماتك السيدة سارة رحمها الله لتكون حاكماً لكردفان"، وكأن ترشيح امرأة لرجل (طويل عريض) في مقام "البروفيسور (البطري)" أمر مخجل يتنافي مع الرجولة "الحقة"!
ونفيا لتهمة "الطياشة" في دفعة الجيش، يذكر الرجل أنه في فخر لا تخطئه العين أنه : "حائز على براءة الحاكم العام في ذلك الوقت..." وقال: "ثم إنني كنت معروفاً داخل الكلية الحربية بالتقوى والانضباط الديني حيث كانت كنيتي معروفة (بالباقوري) تيمناً بالشيخ أحمد حسن الباقوري،... وأزيدك علماً بأني خريج الأكاديمية البحرية اليوغسلافية، وأول الدفعة، ثم أول قائد للقوات البحرية..."! ومع تقديرنا العميق لهذه "الخلطة العجيبة" التي شملت "براءة الحاكم العام" و"شهادة حسن سير وسلوك نسبي" و"تفوق أكاديمي بحري"، إلا أني كقارئ عادي لا أري أي صلة لهذه الصفات الدينية السمحة والدنيوية الرفيعة بما أتى به خصمه "البروفيسور (البطري)"، تماما كما لا أري أي صلة لما أتى به ذات "البروفيسور (البطري)" من صفات الصقها بخصمه "العميد البحري معاش". كلاهما انحدر بالنقاش إلى مستوي تعوزه الموضوعية من المهاترات الشخصية المؤسفة التي تقرأها فلا تزداد بها علما ولا تنقص جهلا.
 من أكثر ما يحز في النفس الاهتمام المرضي (من "المرض") الذي يعطيه البعض للشهادات الأكاديمية والتحصيل العلمي في أمور لا علاقة لها البتة بالسياسة والحكم. فلم يقل أحد من العالمين (من العقلاء بالطبع) أن الذكاء (بأي تعريف له) والتحصيل العلمي هو سبب اختيار الناس لحكامهم أو ممثليهم. لو كان الأمر كذلك، لسهل اختيار القادة وممثلي الشعب. ما علينا إلا أن نعرض شهاداتهم وتاريخهم الدراسي للجنة الاختيار في "وزارة الخدمة والإصلاح الإداري" (بأي مسمى لها الآن)، ثم نعرضهم على اختبار لتحديد معدل الذكاء، وليسقط من يسقط ولينجح من ينجح! . هل اختار البريطانيون المحاسب "جون ميجور" رئيسا لوزرائهم بين عامي 1990م – 1997م لأنه أكثر الناس في الجزيرة البريطانية علما وأكرمهم محتدا (أي "ود قبايل"!)، وهل ساند البولنديون العامل البسيط  "ليخ وليسا" في انتخابات الرئاسة  ليصبح رئيسا لهم لخمسة أعوام كاملة (1990 – 1995م) لذكائه الوقاد، أو لمؤهلاته الأكاديمية الرفيعة، أم هل اختار البرازيليون رئيسهم غير المتعلم "لويز دا سلفا" أو "لولا" كما يعرف تحببا لأنه "عميد بحري عظيم" أو " بروفيسور بطري  خطير" بين عامي 2003م – 2011م؟
لا أجد في ما تابعت من شجار بين الشيخين الجليلين (ومن سايرهما من الأصحاب والأقرباء) غير أمر يبعث على الأسى والحسرة. أرجعتني مقولاتهما وتنابذهما بالمهن والألقاب إلى أيام الطلب (في بداية السبعينات) في جامعة الخرطوم، حيث كان يسود بين الطلاب في مختلف الكليات نوع من التنابذ (الفكه) – إن صح التعبير- خاصة عند اشتداد التشجيع في موسم التنافس الكروي بين الكليات، فكان الطلاب (الآخرون) يصفون طالب الطب بأنه مجرد "داية"، ويصفون طالب الطب البيطري بأنه مجرد "دكتور غنم "، ولا أذكر الآن ما هو "النبذ"  الذي كان يصيب طلاب الكليات الأخرى... يبدو أن "النبذ تلاقيط" فعلا في السودان...ليس على مستوى الشباب حديثي التجربة، بل حتى على مستوي الشيوخ وخبراء السياسة (التي قيل إنها مركب سفهاء العرب!)    
نقلا عن "الأحداث"

badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]

 

آراء