Salafi – orientation in Sudanese Mahdism Kazuo Ohtsuka كازيو اوهتسوكا ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي مقدمة: هذه ترجمة لبعض ما جاء في مقال لكازيو اوهتسوكا نشر في العدد السابع والثمانين من مجلة "العالم الإسلامي The Muslim World" الصادرة في يناير من عام 1997م، عن التوجهات السلفية للمهدية السودانية. ومجلة العالم الإسلامي مجلة بريطانية شهيرة تصدر عن دار نشر وايلي (Wiley)، نشر أول عدد منها في عام 1911م. أما كاتب المقال فهو الياباني، كازيو اوهتسوكا الذي يعمل أستاذا في قسم العلوم الاجتماعية والانسانيات بجامعة طوكيو. والمقال الحالي مستل من رسالة أكاديمية قدمها الباحث بعد قيامه ببحث ميداني في قرية بشمال السودان بين أكتوبر 1986 ويناير 1986م، واكتوبر إلى ديسمبر من عام 1989م، ويناير إلى أبريل من عام 1994م. وللرجل أيضا مقال آخر بعنوان "أخلاق المهدويين السودانيين Manners of the Sudanese Mahdists" صدر باللغة اليابانية عام 1992م، ومقالات أخرى. ولن تخفى خفة وسطحية وجزافية بعض ما أتى به الكاتب الياباني في تناوله لتاريخ المهدية وتراثها، مقارنة مع سجله الكتاب الغربيون. ولدكتور عمر سالم عمر بابكور (الأستاذ في جامعة أم القرى بمكة المكرمة) بحث نشر في مجلة جامعة أم القرى، وككتيب من 35 صفحة في عام 1427هـ (2006م) بعنوان "الدعوة في السودان وتأثرها بالدعوة السلفية: دراسة تاريخية وثائقية". المترجم ***** **** هدفت من هذا البحث (أنا طالب علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية الياباني) لأشرح لقراء اللغة الإنجليزية كيف يتصور اليابانيون مهدية السودان ويفسرونها. لقد أجريت هذا البحث ميدانيا في قرية تقع على ضفاف النيل في شمال السودان (أعطاها الكاتب اسما مستعارا هو "المحمداب" وقضى فيها فترات متقطعة من أكتوبر 1986 إلى مارس 1994م. المترجم). ولما عدت لليابان ووجهت بضرورة الكتابة عن الحياة في تلك القرية، ليس لزملائي من علماء الأنثروبولوجيا الاجتماعية اليابانيين فحسب، بل للقراء قاطبة. يصف غالب سكان تلك القرية أنفسهم بأنهم من أنصار المهدي، بمعني أن أسلافهم كانوا من أتباع الحركة المهدية في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر. وهم الآن ينتمون لحزب الأمة، الذي أنشأه الإمام عبد الرحمن المهدي، آخر أبناء المهدي، في منتصف هذا القرن (أضاف الكاتب في الهامش أن حزب الأمة نال في الانتخابات العامة في تلك القرية 948 صوتا، بينما نال الحزب المنافس (الاتحاد الديمقراطي) الذي يؤيده جزئيا الختمية صوتين فحسب، بينما نالت الجبهة الإسلامية 27 صوتا. المترجم). وكان من الصعب علي أن أشرح أهمية التوجهات السياسية والدينية لسكان تلك القرية، وتاريخهم لليابانيين. فغالب اليابانيين – على وجه العموم - لا يعلمون إلا القليل جدا عن تاريخ أفريقيا، ولا يكادون يعلمون شيئا عن السودان. ومن جانب آخر لم يكن زملائي اليابانيين من علماء الأنثروبولوجيا يأتون على ذكر للحركة المهدية السودانية إلا لماما، باختصار شديد في معرض ذكر أمثلة عن حركات أهالي (nativistic) أو حركات تجديدية ((revitalization حدثت في أوقات مختلفة في المجتمعات "البدائية / المتخلفة"، خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين وبدايات هذا القرن الباكرة. لذا كان على أن أبدأ مقالي بالكتابة عن الحياة الاجتماعية – الثقافية للحياة عند أتباع المهدي الحاليين، وقبل ذلك أن أتطرق – بصورة مختصرة – للخلفية التاريخية للحركة المهدية في القرن الماضي (نشر المؤلف كتابا باليابانية عن المهدية نشر في عام 1995م)، ومستعينا بأهم الكتب التي صدرت باللغة الانجليزية في هذا المجال، مثل كتاب هولت عن "الدولة المهدية بالسودان". وذكرت في كتابي نبذا مختصرة عن أهم شخصيات دولة المهدية، وتاريخ تلك الدولة الاجتماعي والثقافي، وعددت بعض الأحداث المهمة التي وقعت في سنوات حكمها. وكنت أعلم عن وجود ترجمة باللغة اليابانية للكتاب الشهير "النيل الأبيض" لصاحبة آلان موورهيد. وقد تمت ترجمة ونشر ذلك الكتاب فور صدوره بالإنجليزية عام 1960م، الذي سمي عام أفريقيا (ترجم ذلك الكتاب للعربية الأستاذ عمر الزين عام 1965م. المترجم). وكان لتوقيت صدور ذلك الكتاب لأول مرة عام أهمية خاصة. ففي ذلك العام نالت 17 دولة أفريقية استقلالها من المستعمرين الغربيين. غير أن موورهيد أصدر لقرائه البريطانيين بصور نمطية ولكنها تثير كثيرا من صور الذكريات القديمة الموحية مثل صور المسلمين الهمج العنيفين، الذين قاوموا بعناد وشراسة البريطانيين، ذلك الشعب النبيل الذي أقبل عليهم يحمل رسالة إنسانية ورغبة أكيدة في نشر التمدن وضوء العلم في ظلام تلك القارة الكأداء. وأعد ذلك الكتاب مثالا جيدا لـ "الاستشراق" الحديث، كما جرى تعبير إدوارد سعيد. ونسبة لمعرفة اليابانيين بكتاب إدوارد سعيد عن الاستشراق، كان علي أن أنتقد اطروحته الرئيسة، وأبين مواطن ضعفها. يتشارك هولت وموورهيد في وصفهما للحركة المهدية من منظور أجنبي غريب. غير أن هنالك مصدر ثالث، ألا وهو سيرة المهدي السوداني محمد أحمد بن عبد الله (1844 – 1885م)، التي كتبها باللغة العربية إسماعيل عبد القادر (الكردفاني)، أحد أنصار المهدي، في أعوام المهدية الباكرة. يصور كتاب عبد القادر نظرة المهدويين إلى أنفسهم، رغم أن الخليفة عبد الله منع تداول ذلك الكتاب بعد أن شك في ولاء إسماعيل عبد القادر، علما بأنه كان هو من أمره بتأليفه ابتداء. وترجم حاييم شاهد أجزاء كثيرة من ذلك الكتاب في عام 1978م إلى اللغة الإنجليزية. ويبين ذلك الكتاب رؤية أحد السكان المحليين العالمين ببواطن أمور المهدية. وتمثل هذه المصادر الثلاثة عند أخذها سويا بعض الطرق التي تم بها تصوير المهدية السودانية، وجميعها تحمل بعض جوانب "الاستشراق"، والشراكة البائنة في النصوص الثلاثة. أما دراستي، فقد تناولت جانبا تكميليا: ما هي الخواص المميزة للمهدية السودانية، كحركة أهلية قامت في القرن التاسع عشر، وكظاهرة معاصرة شاهدتها بعيني في شمال السودان؟ وما هو الذي يميزها عن أشكال الإسلام الأخرى؟ مقاربة انثربولوجية لمهدية السودان يعطي البحث في مجال الأنثروبولوجيا أولوية خاصة لمنظور "الأهالي"، غير أنه لا يغفل بالطبع أهمية وجهات النظر الأخرى. وبالنسبة للمصادر الثلاثة التي اعتمدت عليها في دراسة الحركة المهدية بالسودان، كان كتاب إسماعيل عبد القادر عن سيرة المهدي السوداني هو الأكثر أهمية بالنسبة لي، إذ أنه يقدم تصور المهدويين عن أنفسهم (self - image) وعن نشاطاتهم، ويمد الباحث بمعلومات قيمة عن أيديولوجيتهم عند نهاية القرن التاسع عشر. لقد أقيمت الدولة المهدية بعد فتحها للخرطوم في 1885م، وقضي عليها في 1898م عقب انتصار الجيش البريطاني – المصري. أقيمت من بعد ذلك دولة الاستعمار الثنائي (البريطاني – المصري حتى نهاية 1955م). وفي غضون سنوات ذلك الحكم عاد تأثير المهدية ونفوذها قليلا قليلا وذلك تحت زعامة عبد الرحمن المهدي، الذي كون "حزب الأمة" في عام 1945م. وكان معظم سكان القرية التي أجريت فيها الدراسة يعدون أنفسهم أنصارا لطائفة المهدية، كما أسس لها ونشرها الهدي، ومن بعده ولده عبد الرحمن، وبقية زعماء الطائفة. وفي خلال عملي البحث في قرية “المحمداب"، وقعت، لحسن الحظ، على ثلاثة كتيبات للصادق المهدي، زعيم حزب الأمة وأحد أبرز رجال الدولة في السودان المعاصر. وفي أحد تلك الكتيبات (والذي عنونه مؤلفه "العادات"، وصدر عن هيئة شئون الأنصار في عام 1981م) قدم الصادق لأتباعه نصائح عديدة عن سلوك الأنصاري المسلم فيما يتعلق بالزواج، والجنائز، والتشبه بالجنس الآخر، وخفاض الإناث، ونقل الأعضاء، وأخيرا استخدام عبارات الاحترام. وعلى الرغم من أن الصادق لم يشأ أن يطرح في كتيبه هذا ترويجا للأفكار المهدوية في مجالي السياسة والدين، إلا أن المرء يستطيع بكل يسر أن يلاحظ بعض جوانب الإيديولوجيا المهدوية عند ذكره لبعض الارشادات الخاصة بالسلوك القويم للأنصاري، وطريقة حياته. وأكاد أجزم بأن ما قرأته في كتيب الصادق عن "سلوك الأنصاري المسلم" يطبق إلى حد كبير (ليس بصورة كاملة تماما) في قرية "المحمداب" في الشؤون اليومية والمناسبات. ولإيماني بأن كتاب إسماعيل عبد القادر عن سيرة المهدي، وكتيب الصادق المهدي عن "العادات" يمثلان، على الأقل بصورة جزئية، جوانب مهمة في الإيدلوجية الدينية – السياسية التي يؤمن بها أنصار المهدية، لذا من المتوقع أن تكشف دراستهما بعض خواص المهدية التي شهدها السودان في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، والنصف الأخير من هذا القرن. النبي وعصره كمثل أعلى أشار حاييم شاكد في ختام ترجمته لكتاب إسماعيل عبد القادر عن سيرة المهدي إلى أن إسماعيل كان يؤكد بشدة على أن محمد أحمد "كان يعيد أداء دور النبي محمد". وكان محور كتاب إسماعيل يدور حول أن المهدي وأنصاره يعدون – بحق - النبي قدوتهم ومثلهم الأعلى، ويتبعون كل ما أتى به في شؤونهم الدينية والسياسية والحربية وغيرها. وأطلق إسماعيل كلمة "سيرة" على كتيبه عن المهدي، وهي ذات الكلمة التي يستخدمها من سجلوا تاريخ حياة النبي وأعماله. ولعل استخدام إسماعيل لتلك الكلمة كعنوان لكتيبه عن المهدي يوحي بأن حياة المهدي يمكن أن تقارن – بحق- بحياة النبي. وبحسب تلك السيرة، فإن لمحمد أحمد خواصا كثيرة تقابل / تطابق تلك المشهورة عن "المهدي المنتظر" كما جاء في بعض الأحاديث النبوية. ومن تلك الخواص اسمه واسم والده، وانتسابه للعترة النبوية الشريفة، وصفاته الجسدية مثل كونه " أجلى الجبهة أقنى الأنف" وهكذا. وصور الكتاب تلك الصفات بحسبانها دليل قاطع على أن محمد أحمد هو بالفعل المهدي (المنتظر). ويؤمن صاحب الكتاب (وكل الأنصار) بأن المهدية قد أتته في رؤية (منامية) أو بصوت النبي (هواتف في حالة اليقظة) خلاصتها أنه المهدي المنتظر، وأن النبي ظل يداوم على تقديم النصح للمهدي السوداني في كل المواقف الحرجة التي تتطلب اتخاذ قرارات حاسمة. ولعل هذا هو السبب في أن يطلق مهدي السودان على نفسه عبارة "خليفة رسول الله" (جاء في رسالة للمهدي بحسب ما جاء في منشورات المهدية التي حققها محمد إبراهيم أبو سليم: " لا يخفى عزيز علمكم أن الأمر الذي نحن فيه لا بد من دخول جميع المومنين فيه الا من هو خالي من الإيمان، وذلك مما ورد في حقايق غيبية واوامر إلهية وأوامر نبوية أوجبت لنا مهمات صرنا مشغولين بها... ...وثم تواترت الأنوار والبشاير والأسرار والأوامر النبوية والهواتف الالهية باشارات وبشارات عظيمة". المترجم). وقورنت كثير من سلوكيات المهدي وكثير من الحوادث التي وقعت له بصورة "صوفية / روحانية mystical" غامضة مع ما حدث للنبي وصحابته. وأسر محمد أحمد (المهدي) في أثناء مشاركته في بناء قبة على قبر شيخه إلى رجل آخر اسمه عبد الله بأنه رأى رؤيا خلاصتها أنه هو المهدي المنتظر، وأن عبد لله سيغدو حواريه الأول، ونشأت بينهما صداقة وثيقة. وفيما بعد صار عبد الله خليفته في الدعوة المهدية، تماما كما حدث مع أبوبكر (الصديق) أول خلفاء النبي. كذلك ربط إسماعيل عبد القادر في كتيبه عن سيرة المهدي بين كثير من الحوادث التي وقعت للحركة المهدية في مراحلها الأولى وبين تلك التي وقعت في زمن النبي. فقد كان أول من آمنوا بدعوة المهدي رجال من القطاعات الضعيفة في المجتمع، بينما رفضها بقوة أفراد وجماعات. وشبه الكاتب كذلك الرسائل المتبادلة بين المهدي والحكومة في الخرطوم (كانت إحداها مع إبي السعود) بتلك التي بعث بها النبي لكسرى (لعله برويز بن هرمز الذى قتله ابنه شيرويه. المترجم). وهنالك موقف آخر حدث لمهدي السودان في معركته الأولى في الجزيرة أبا ضد الحكومة فيه تشابه / تماثل مع ما حدث للنبي في موقعتي بدر (624م) وأحد (625م). فقد وقعت معركة أبا في يوم جمعة (16 رمضان)، ووقعت موقعة بدر في يوم جمعة أيضا (17 رمضان). ولم يكن مع صحابة النبي ولا أنصار المهدي في المعركتين غير فرس أو فرسين، ولم يتجاوز عدد أنصار المهدي 300 من الجنود، بينما كان عدد الصحابة 314. واستشهد في موقعة بدر 14، بينما استشهد في معركة الجزيرة أبا 12 رجلا. وجرت المعركتان في ليلة مطيرة وعلى أرض طينية، وأصيب المهدي بجرح في معركة أبا، مثلما حدث للنبي في موقعة بدر. وتحرك المهدي مع ثلة من أنصاره إلى جبل قدير في كردفان عقب انتصاره في معركة الجزيرة أبا، وسمى ذلك "هجرة"، محاكيا (متأسيا) بهجرة النبي وصحابته من مكة إلى المدينة في عام 622م. وكما هزم النبي أهل مكة لاحقا، انتصر المهدي على جنود الحكومة في سنار (عاصمة سلطنة الفونج) في واحدة من أهم المعارك التي خاضها. كذلك كان إسماعيل الكردفاني يصر دوما في كتيبه على أن المهدي كان شديد الالتزام باتباع ممارسات الرسول في الحياة والحكم. فقد كان النبي يخاطب الملوك والقياصر عن طريق الرسائل المكتوبة، ويستشير أصحابه ويقبل بنصحهم، ويدفن من يقتل من أصحابه في المعارك في ذات الأرض التي استشهدوا فيها (وكذلك فعل المهدي). لا بد هنا من الاشارة إلى أن المهدي قد أتى بأعمال خارقة للعادة تخالف ما هو مألوف، إلا أنه سماها "كرامات" ولم يسمها "معجزات" كما تسمي في حالة النبي. ويقول فقهاء المسلمين بأن الفرق بين المعجزة والكرامة بأن المعجزة آية النبوة ودليل الرسالة، وهي أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي في بعض الأحيان، وأما الكرامة فللأولياء وهي ظهور الأمر الخارق للعادة على أيديهم وليس على سبيل التحدي بل يجريه الله تعالى على أيديهم بدعائهم أو بدونه كرامة لهم. وعلى هذا فالمهدي يمكن أن يعد قريبا من كونه من أولياء المسلمين، وليس من نبيهم (هكذا!. المترجم). وبالنظر إلى الأمثلة العديدة التي سقناها لمقارنات إسماعيل عبد القادر (الكردفاني) بين أفعال وممارسات المهدي وأنصاره والنبي وصحابته، كيف لنا أن نفسر لإصرار الكاتب على تكرارالتشابه، بل التطابق في كثير من المواقف بينهما. قد يقال إن أي مسلم ينبغي عليه أن يتبع سنن نبي الاسلام، وأن ما سجل عن سلوك المهدي يمكن أن يعد مثالا لما ينبغي أن يكون عليه سلوك المسلم التقي الورع. ولكن الكاتب (إسماعيل عبد القادر الكردفاني) يصور أحيانا سلوك المهدي وكأنه أمر صوفي / روحاني غامض لا يعلمه إلا الله، ويخلص إلى أن محمد أحمد (المهدي السوداني) لا بد أن يكون بالفعل هو المهدي الحقيقي، ذلك الذي منحه الله قوة سحرية وبعثه (في آخر الزمان قرب خروج الدجال وقرب نزول عيسى عند اختلاف يقع بين الناس عند موت خليفة، فيخرج المهدي ويبايع ويقيم العدل بين الناس سبع سنوات أو تسع سنوات، وينزل في وقته عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام كما جاء في الحديث النبوي). ويبدو أن المهدي قد قبل التكليف الإلهي، وسلك سلوك المسلمين الأتقياء المتبعين للسنة النبوية، وفرض ذلك أيضا على أنصاره بصرامة شديدة. وشرع في استخدم المصطلحات الإسلامية في كافة نشاطه الجهادي ضد الحكومة، فأطلق كما ذكرنا على انتقاله إلى جبل قدير كلمة "هجرة"، وسمى أربعة من الرجال خلفاء له (رغم أن زعيم الطائفة السنوسية، أحد هؤلاء الخلفاء، لم يرد على تلك الدعوة) تشبهاء بالخلفاء الراشدين، وأطلق على أصحابه كلمة "الأنصار" عوضا عن "الدراويش" رغم أن تلك الكلمة كانت تستخدم في بداية عهد المهدية (وهي الكلمة المفضلة عند الغربيين المعادين للمهدية). وكان إسماعيل عبد القادر في كتيبه عن سيرة المهدي يستخدم كلمة "الأصحاب" لوصف أنصار المهدي، وهي كلمة قريبة من كلمة "الصحابة". وإن كان المهدي بالفعل هو ذلك الذي وصفه الحديث النبوي، فهو بحق مثال حي لكل المسلمين، وبمقدوره أن يكون مصدرا للقوانين الإلهية التي ينبغي على كل المسلمين اتباعها. وبالتأكيد كان المهدي قد شرع في ذلك، فألغى العمل بكل المذاهب الأربعة (والطرق الصوفية)، وتجاهل تماما سلطة "العلماء" الذين أنكروا دعوته. وبهذا فقد منح المهدي نفسه "شرعية إسلامية" قوامها صلة مباشرة بالنبي، وليس العلم الشرعي، ونصب نفسه مؤديا لدور "خليفة رسول الله". ومما يلاحظ على الحركة المهدي في القرن الماضي ميلها الشديد إلى استخدام رموز الإسلام من الجيل الأول (ممن يعرفون بالسلف). وهذا يقودنا للسؤال عما إذا كان ذلك التوجه السلفي ما زال موجودا في ايديلوجية قادة المهدية المعاصرين. وللإجابة على هذا السؤال نقرأ في كتاب الصادق المهدي وما ينصح به أنصاره في كتيبه "العادات". يقدم الصادق ستة إرشادات تتعلق بالعادات "الإسلامية". فهو ينصح بتقليل المهر (الصداق في قرية "المحمداب") وتخفيض منصرفات العرس وتكاليفه إلى حد معقول. وللتدليل على شرعية نصيحته، ذكر قصة زواج فاطمة ابنة النبي، وعائشة أم المؤمنين، وذكر أيضا ما قام به المهدي وإبنه عبد الرحمن من تحديد للمهور. كذلك نصح الصادق في كتيبه بالإقلاع عن سماع الأغاني المفسدة، وشرب الخمور، والإفراط في اللهو، واختلاط النساء بالرجال في حفلات الأعراس. لقد شهدت عددا من حفلات الأعراس في قرية "المحمداب"، وأشهد بأنها كانت في غاية البساطة، مقارنة مع تلك الحفلات التي تقام في القرية المجاورة، التي قيل أن نصف سكانها من طائفة الختمية والنصف الآخر من طائفة الأنصار. بل صرح أحد غلاة المهدويين في "المحمداب" بأنهم لن يقيموا أي حفل عرس عقب توقيع عقد القران. غير أن غالب سكان القرية يقيمون حفلات أعراس يشهدها الرجال يحيها مادحون من مدينة الدامر، ويولمون ("أَوْلِمْ ولو بشاةٍ"، بحسب الحديث النبوي). وفي تلك الاحتفالات يقوم العريس بجلد شباب القرية من غير المتزوجين على ظهورهم العارية، وهم يضحكون عاليا للتدليل على شجاعتهم. وقد بدأت الآن هذه العادة في الانحسار في القرية وفي غيرها. وخلافا لما يقوم به العِرسان (الجدد) في هذه المنطقة من زيارة للأضرحة في قرية مجاورة، لا يمارس عرسان "المحمداب" تلك العادة. وكذلك يخالف أنصار المهدي الوهابيين في اعتراضهم الشديد على زيارة أضرحة "الأولياء والصالحين" والتقرب إليهم وسؤالهم الحاجات، وفي إنكارهم للصوفية وممارستها. فالأنصار يمارسون ذلك، ولكن من على البعد. والعادة الثانية التي أشار إليها الصادق في كتيبه هي المآتم، وذكر في هذا المقام حديث نبوي عن حقوق المسلم على المسلم. (ما ورد في الحديث هو اتباع الجنائز "حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس". وينهي السلفيون عن إقامة المآتم بحسبانها بدعة منكرة. المترجم). غير أن المهدي كان قد نهى عن بعض العادات – غير الإسلامية- المصاحبة للمآتم السودانية. وأمر عبد الرحمن المهدي بأن لا تزيد أيام المأتم عن ثلاثة أيام. وذكر الصادق أيضا في نصائحه بخصوص العادات المتبعة عقب وفاة أحد المسلمين بضرورة شهود الصلاة على الميت، وزيارة أهله، والمشاركة في عملية الدفن، وأن لا تزيد أيام المأتم للرجال والنساء عن ثلاثة أيام. وأن يتقبل العزاء في مكان الدفن، وأن تلتزم أرملة المتوفى بالعدة الشرعية، ولكن دون الالتفات لغير ذلك من العادات المتشددة التي يفرضها البعض على الأرامِلَة. وبصورة عامة ينصح الصادق في كتيبه أنصاره بتسهيل الاحتفالات وتبسيطها، والبعد عن العادات السودانية التقليدية غير الإسلامية. وقد شهدت بالفعل الناس في قرية "المحمداب" يلتزمون أشد الالتزام بهذه النصائح، بل رأيت بعضهم يختصر أيام المأتم إلى يومين اثنين فحسب. وعلى الرغم من أن الصادق تلقى تعليمه في الغرب لعدد من السنوات، وزار كثيرا من الدول الغربية، إلا أنه يعارض بشدة أن يتشبه أي فرد في جنس ما بالجنس الآخر في الملبس والسلوك، بل يذهب إلى أن الانحرافات الجنسية في الدول الغربية هي مؤشر على تصدع تلك المجتمعات وانهيارها. وفي قرية "المحمداب"، بل في كافة أرجاء السودان يرتدي الرجال ملابس مختلفة تماما عن النساء، ويعيش الرجال – في كثير من المناطق- في منازلهم بجزء خاص بهم، وكذلك تفعل النساء. وأتى الصادق في كتيبه على عادة أخرى، هي عادة خفاض الإناث (وأشد صوره هو ما يعرف بـ "الخفاض الفرعوني")، على الرغم من أن ذلك النوع المنهك من الخفاض كان قد منع قانونا منذ سنوات عديدة. ويشجع الصادق ختان الذكور (هكذا!) إذ أنه يقول أن لها بعض الفوائد الصحية، وأنها من السنة، ويحرم الخفاض الفرعوني لما له من أضرار جسدية ونفسية للبنت، ولزوجها في المستقبل. وينصح الصادق بنوع مخفف من الختان يسمى "الخفاض السني" إن كان لا بد من الحفاظ على هذه العادة. غير أن أهالي قرية "المحمداب" يخالفون الصادق (ربما للمرة الأولى) في رأيه، ويمارسون الخفاض الفرعوني على بناتهم. لقد ظللت كل القبائل والأعراق السودانية تقريبا تمارس الكثير من العادات التجميلية مثل الوشم والشلوخ وارتداء الشعر المستعار وغير ذلك. ونصح الصادق في كتيبه بالإقلاع عن تلك العادات بسبب ضررها على بدن الإنسان، الذي خلقه الله في أحسن تقويم. ويبدو أن تلك العادات في طريقها للإندثار على كل حال في غالب مناطق السودان. كذلك نصح الصادق الأنصار بما نصح به المهدي أصحابه من الامتناع عن مناداة بعضهم بعضا بالفاظ مثل: شيخ، حاج، أو سيد. ونصح الصادق باستخدام الكنية (مثل أبو محمد) عوضا عن كل ذلك. ويستخدم سكان قرية "المحمداب" (والسودانيون على وجه العموم) الفاظ التوقير والاحترام بصورة تقل كثيرا عما يلاحظه المرء في مصر. غير أن سكان القرية يستخدمون، عند مخاطبتهم لبعضهم، بعض الألقاب من قبيل الاحترام. لذا فيمكن القول بأنهم يلتزمون بنصح الصادق لهم في بعض الأمور، ولا يلتزمون بها في أمور أخر. مما يلاحظ القاريء في كتيب الصادق أنه يستشهد بالآيات القرانية والأحادبث النبوية وبأقوال المهدي وولده عبد الرحمن، ولكنه لا يذكر أي قول لأي واحد من "العلماء" أو يذكر أي عمل من أعمالهم المنشورة، رغم تأكيده على أهمية القوانين الإسلامية. وذكر في مقدمة كتيبه ما جاء في واحد من منشورات المهدي من رفض لـ "التقليد" وحض على "الإصلاح" و"التجديد" في الدين. وكما ذكرنا آنفا، فقد شكل ظهور المهدية في السودان تحديا كبيرا لسلطة "العلماء" بالبلاد، وهم الذين كانوا، ولسنين طويلة، يفخرون بوصايتهم على الشريعة الإسلامية وحراستها. لقد ظل المهديون يتجاهلون تماما كل أعمال أولئك "العلماء"، ويقولون بأنهم يستقون شرعيتهم (وشريعتهم) الإسلامية من القرآن والسنة النبوية مباشرة. وقد يعد هذا الموقف أحد أمثلة ودلائل سلفيتهم. ولا يهاجم المهدويون تقليدية العلماء فحسب، بل يهاجمون غيرها من عادات وممارسات التراث السوداني، خاصة فيما يتعلق بالعادات المحلية، التي يرجع تاريخها لعصور ما قبل الإسلام بعقود طويلة، ويعدون تلك العادات عادات ذميمة ومنحلة وفاسدة يجب التخلص منها نهائيا في مجتمع إسلامي حقيقي. ويؤيد الصادق هذا الاتجاه، وعبر عن ذلك بوضوح في كتيبه حين اشار إلى ضرورة اتخاذ عادات بديلة تتفق مع القوانين الإسلامية (مثل المساواة بين المسلمين، وإدخار المال لمقابلة مناسبات الأفراح والأتراح، وحفظ الأبدان والعقول سليمة بالابتعاد عن الزنا والخفاض الفرعوني وتغيير خلقة الله الخ). ولا بد من القول هنا بأن ما نادى به الصادق في كتبيه من الدعوة لتبني عادات (إسلامية) صحية حميدة هي ذات ما يحاول "الحداثيون" تطبيقه في مجتمعاتهم. ويذكرني هذا بـ "الأخلاق البروتستانتية protestant ethics" والتي ذهب ماكس فيبر (في كتيبه " الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية") إلى أن لها علاقة وثيقة بالرأسمالية الحديثة، إن لم تكن قد أفضت إليها، وبما جاء في كتاب ارنست غيلينر في كتيبه "The Pendulum Swing Theory of Islam" .... وعند المقارنة مع المسيحية، أجد أن للمهدية توجهات سلفية لا تخطئها عين، ولكنها صورة محدثة modernized، على شكل ما، للإسلام. ويمكن للمرء أن يتخيل أن الشكل السائد للإسلام الذي كان سائدا قبل ظهور المهدية كان أكثر قدرة على التوفيق بين المعتقدات (syncretism)، واحتواءً لعناصر سودانية عديدة، مع ولاء وإخلاص للشيخ الصوفي أو الولي، وولع بالممارسات الطقوسية، مع جهل نسبي بما جاء في النصوص الدينية.