التوهان السياسي وغياب الرؤية

 


 

 

 

كانت مسيرة 30 يونيو بمثابة وقفة للمراجعة، و التذكير بأهداف الثورة، و البطء في التنفيذ، و محاولة معرفة الجهات المقصرة في أداء دورها، و كان رئيس الوزراء قد سبق المسيرة بساعلت لكي يعلن أنه سوف يتخذ من الإجراءات التي تعجل بانجاز أهداف الثورة. و لكن ظل البطء هو العامل الثابت في أداء جميع مكونات الفترة الانتقالية. و اعقبتها مسيرة 17 أغسطس تحت شعار " جرد الحساب" و بعدها تعددت الخطابات السياسية، و البيانات الحزبية، و المؤتمرات الصحفية لمكونات الفترة الانتقالية في منابر متعددة، و جلها تؤكد أن الهوة واسعة بين الجميع، و الخلاف ليس في تفاصيل التنفيذ و لكنه يتعلق بقضايا جوهرية، الأمر الذي أربك الساحة السياسية. و كل جهة تحاول أن تعلق الفشل في شماع الأخر، رغم أن الفشل يطال الجميع.

كان المتوقع أن تكون الوثيقتان التي وقعت عليها قوى الحرية و التغيير و المجلس العسكري تعتبران المرجعيتان للفترة الانتقالية، و أن يسقط الخلاف الذي كان قبل التوقيع و يتقيد الجميع بهما، و يتغير الخطاب السياسي لكي يتلاءم مع الوثيقتين " اللتان تمثل الحد الأدني للاتفاق" حتى يؤدي إلي التناغم بين جميع المكونات، لكن بعض القوى تحاول الرجوع لخطابها ما قبل الوثيقتان، و هو الخطاب الذي يعبر عن رؤيتها و ليس عن الرؤية المتفق عليها. و هذا يحدث إرباك للساحة السياسية.
الايام القليلة الماضية؛ حاول الكل أن يخرج الهواء الساخن من الصدور، و كما قال البرهان في خطابه نتحدث بوضوح و دون "دسدسة". و نجده قد تحدث ما كان يعتقده بأنه الوضوح، و بين موقفه من تحالف قحت، حيث قال عنه، الهرول نحو المحاصصة و البحث عن الوظائف و الخلافات بين القوى السياسية، و قال أنهم مع الشارع و ما يريده، اعتبره البعض أنه دعوة للانقلاب العسكري. و كان قد سبقه رئيس الوزراء عبد الله حمدوك و تحدث بذات النبرة، و أيضا تهم العسكر بأنهم يسيطرون علي 82% من اقتصاد البلاد من خلال الشركات التي يمتلكونها، و لا تصب إيرادتهم في الميزانية العامة، و أكد أن الخلاف في الحاضنة السياسية يربك الساحة السياسية. و في المؤتمر الصحفي الذي عقده الحزب الشيوعي السوداني في وكالة الأنباء السودانية " سونا" قال محمد مختار الخطيب سكرتير الحزب أن الاختلالات التي تصاحب العمل السياسي منذ سقوط النظام، هو الخلاف داخل الحاضنة السياسية بين القوى التي تسعى للتغيير الجذري و قوى الهبوط الناعم التي تسعى لتسوية سياسية. و نسأل الخطيب نفسه، هل توقيع الوثيقتان بين قحت و العسكر تغيير جذري أم هبوط ناعم؟ إذا كان تغييرا جذريا لماذا الدعوة لمسيرات و أصدار البيانات و حالة الاستقطاب؟ و إذا كان هبوطا ناعما لماذا شارك الحزب الشيوعي فيه لكي يصبح عضو مكتبه السياسي صديق يوسف عضو في المفاوضات؟ هل غاب عن القيادة الارثوذكسية الاستالينية أن أي تفاوض بين مجموعتين سوف تؤدي إلي " مساومة بين الجانبين" و هو الهبوط الناعم؟ حيث التفاوض يتطلب التنازل من قبل الجانبين لكي يتم الاتفاق. و في جانب أخر أيضا تنتقد الجبهة الثورية بفصيليها قحت أنها سعت إلي المحاصصة، و كان حزب الأمة أول الأحزاب التي انتقدت الخلافات داخل قحت، و طالب بعقد اجتماعي و مؤتمر للتحالف لتصحيح المسار، و لكنه قد واجه هجوما كاسحا من قبل بعض القوى، الكتاب المنتمين لهذه القوى، دون قراءة ورقته و فتح حوار سياسي حولها دون اللجوء إلي الاتهامات التي لا تفيد الديمقراطية في شيء، لأن الديمقراطية تتطلب سماع الرآي الأخر مهما كان خلافك معه و نقده تحقيقا للمعرفة و ترسيخ لقيم الديمقراطية، خاصة أن البلاد تعاني من ضعف في الثقافة الديمقراطية، الآن الكل يتحدث عن الخلافات و وجوب الحوار لتصحيح المسار، مما يؤكد أن هناك قوى سياسية لا تقبل الرآي الأخر. في الفترة الانتقالية لا تستطيع قوى سياسية أن تفرض رؤيتها علي الأخرين. و قد درجت بعض القيادات السياسية نشر الوعي الزائف عندما تحاول أن تؤكد أن رؤيتها هي رؤية الثورة و الشارع، رغم أن اختيار الشارع سوف يتم التعرف عليه بعد الفترة الانتقالية.
كان الفهم السياسي و القناعة عند الجميع، أن القوى السياسية في صراعها مع الإنقاذ، قد قرأت الساحة السياسية قراءة علمية، و استطاعت رصد كل التغييرات التي حدثت في المجتمع، من جراء سياسات الإنقاذ السالبة التي استطاعت أن تعيد المجتمع إلي مكوناته الأولية بعد ما تجاوزها أثناء نضاله ضد المستعمر منذ الثورة المهدية، حيث سياسة الإنقاذ أدت إلي انتشار النزاعات القبلية و العشائرية و الحروب في العديد من مناطق السودان المختلفة، إلي جانب عدم احترام القانون، و تقديم آهل الولاء علي الآخرين، أن كان في الوظائف الدستورية أو القيادية في الخدمة المدنية. و بعد الثورة كان يجب علي قحت أن تجعل كل تلك المخلفات نصب أعينها، و كيف يتم معالجتها، و تحاول في الفترة الانتقالية أن تقدم القضايا التي لا تثير هذه النعرات القبلية، و تهيج الشارع، و تحاول أن تستغل الفترة الانتقالية في توعية الجماهيرية للخروج من تلك الثقافة، و تعريف الجماهير بمضارها، حيث أنها تعطل عملية بناء الوطن و التنمية، و هذه تتأتى من خلال قيام كل القوى السياسية بندوات و حوارات مع القاعدة الشعبية في مختلف مناطق السودان، و تبصيرهم أن عملية التحول الديمقراطي تتطلب خلع ثوب القبلية و العشائرية و المناطقية و الالتحاق و الانضمام للأحزاب السياسية، باعتبارها مواعين أكثر شمولا، و تضم التنوع داخلها. لكن للأسف أن الأحزاب ركزت عملها في العاصمة، و داخل المواعين التي تؤدي إلي المحاصصات و توزيع الوظائف. و النزاعات التي تنتشر الآن في العديد من الأقاليم، ترجع لتقاعس القوى السياسية، و ذهبت في الاتجاه الذي يثير و يهيج النعرات القبلية و المناطقية، هذا فعل فاضح أن تكون القيادات السياسية في قحت غير مدركة لدورها في الفترة الانتقالية، و تربك الساحة السياسية، و تعين ولاة حزبين في الولايات مما يؤدي إلي إثارة روح العصبية، في ظل ثقافة شمولية قد ترسخت في ثلاث عقود الإنقاذ، قد تدثرت بثوب القبلية. و عندما يتم التعين من خلال محاصصات حزبية لابد أن تهيج ثقافة الإنقاذ السائدة.
الكل يقول أنه يعبر عن أهداف الثورة، و أنه ينطلق من منصة الثوار، لكن الكل ينطلق من منصته الخاصة، و يعبر عن رؤيته الخاصة، و التشبث بأهداب الثوار تبين الضعف الأخلاقي بعدم الحديث عن الرغبات الحزبية و المكونات الأخرى عسكرية و غيرها. و كان علي الجميع إذا كانوا بالفعل متمسكين بطريق الثورة و الثوار التمسك بحرفية الوثيقتين و احترامهما، و العمل في تناغم دون أرباك الساحة السياسية، و تنفيذ أهداف الثورة كاملة، و أجراء المحاكمات علي أسس العدالة، و خاصة العمل من أجل أنجاح عملية التحول الديمقراطي. نسأل الله حسن البصيرة.


zainsalih@hotmail.com

//////////////////////

 

آراء