التُّخُم بين الرزيقات ودينكا ملوال في سنوات الحكم الثنائي .. ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
The Rizeigat –Malual borderland during the Condominium - 1
دكتور كريستوفر فونDr. Christopher Vaughan
مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص لبعض ما جاء في مقال نشر في الفصل السابع من كتاب بعنوان "تخوم جنوب السودان The Borderlands of South Sudan" والذي حرره كريستوفر فون وماريك شومرس ولوتج دي فارس، وصدر في نهاية عام 2013م عن دار نشر بالقريف ماكميلان ببريطانيا. ويعمل دكتور كريستوفر فون حاليا محاضرا لعلم التاريخ في جامعة درام ببريطانيا متخصصا في تاريخ أفريقيا في القرن العشرين. وكان الكاتب قد أنجز رسالته للدكتوراه عام 2011م بجامعة درام بعنوان:" ثورات دارفور في سنوات الاستعمار الباكرة"، وسيصدر له قريبا كتاب بنفس العنوان مستل من تلك الأطروحة.
وقد يجد القارئ في ثنايا هذه السطور بعض جوانب الأبعاد والجذور التاريخية لمشكلة نزاع قبلي حول الموارد (وغيرها) قد يكون هو من أكبر المشاكل التي تواجه البلاد في هذا العصر، ولا يمكن تصور إيجاد حلول له دون النظر الفاحص لجذوره وتاريخه. وسيجد القارئ أيضا مقولة "فرق تسد divide and rule" ماثلة في سياسة الحكم الاستعماري في المنطقة التي يتناولها هذا المقال.
المترجم
****** *********** ***************
نتناول في هذا الفصل أمر التخوم الفاصلة بين جنوب دارفور وشمال بحر الغزال في غضون سنوات الحكم البريطاني – المصري (والذي كان في حقيقة الأمر حكما بريطانيا خالصا بحكم الواقع). وغدت تلك التخوم، ومنذ عام 2011م موقعا لنزاعات حادة حول الحدود الدولية في المنطقة. غير أن تلك الحدود في عهد الاستعمار كانت حدودا تفصل بين مديريات شمال السودان وجنوبه، وكان مسؤولو الدولة يتخيلون أنها حدود فاصلة بين قبائل (بل أعراقا) مختلفة، مثل بقارة الرزيقات (العرب) ودينكا ملوال (غير العرب). واكتسبت تلك الحدود أهمية خاصة بعد إقرار الحكومة لما سمته "السياسة الجنوبية" في عام 1930م، والتي عدها الموظفون الاستعماريون والمؤرخون محاولة لتقييد الاتصال والتواصل والاختلاط بين ما تخيلوه من "سودان شمالي عربي مسلم" و"سودان جنوبي غير عربي وغير مسلم". غير أنه لم يكن هنالك من بد من الاتصال والتواصل والاختلاط بين الشعبين رغم القيود التي فرضتها "السياسة الجنوبية"، إذ أن تلك الحدود كانت قريبة من النهر الذي يسمى باللغة العربية "بحر العرب" وباللغة الدينكاوية "كيير"، وذلك النهر وما حوله هو مصدر مهم للمياه والكلأ لرعي قطعان بهائم الشعبين. ومثلت إدارة الأنماط المتداخلة لاستخدامات تلك المصادر من قبل الشعبين تحديا رئيسا لإدائرتي دارفور وبحر الغزال.
غير أن الهدوء النسبي الذي ساد في تلك الحدود في غضون سنوات الحكم الاستعماري دعا المحللين لبحث الدروس المستفادة والتي يمكن تطبيقها اليوم في مجال إدارة العلاقات على طرفي تلك الحدود الدولية. وفي سبيل حفظ السلم المحلي أقترح دوغلاس جونسون (أحد الخبراء الغربيين الذين استشيروا في اتفاقية السلام الشامل لعام 2003م) إعادة التقليد الذي كان ممارسا عند الإداريين على جانبي الحدود في سنوات الحكم الاستعماري، والقاضي بعقد اجتماعات دورية للجان الحدود المشتركة. وأقترح أيضا تشجيع الاتفاقيات الشفهية والوساطات المحلية واستخدام نفوذ الزعماء المحليين (وليس الدولة) للحفاظ على الاستقرار المحلي.
وكتب بعض الخبراء الغربيين عن أن تخطيط الحدود بين الرزيقات ودينكا ملوال يكشف عن ميل البريطانيين وتحيزهم لجانب الرزيقات، والذين تحالفوا معهم في غزوهم الأول لدارفور عام 1916م. فقد كان البريطانيون يعتقدون بأن دينكا ملوال قد خسروا الأرض، وكانت تلك ضربة مؤذية لهم بقيت آثارها حتى الآن. وقد يكون مرد لك هو أن الرزيقات كانوا قد ظفروا في التفاوض مع الدولة بصفقة أفضل من تلك التي حصل عليها دينكا ملوال. ولعب الزعماء المحليون (local elites) دورا كبيرا في عمليات التفاوض مع مسئولي الدولة بخصوص الحصول على الموارد الرئيسة. ولعب التداخل والتفاعل (interaction) بين الدولة والأجندة المحلية (للقبيلتين) دورا مركزيا في تشكيل طبيعة الصراع الدائر الآن بين السودان وجنوب السودان حول تلك التخوم، وهو صراع يناهض شرعية الحدود التي رسمتها الدولة الاستعمارية. وقام دينكا ملوال بالتعبير (العنيف) عن توقعاتهم بتلقي العون من حكومة الحركة الشعبية لتحرير السودان والمنافحة والحفاظ على مطالباتهم في ملكية الأرض التي استولوا عليها (أو استردوها) عمليا من الشمال في حرب أهلية طويلة. وبذا يكون الماضي الاستعماري حاضرا في المشهد الحالي في صور وأشكال عديدة.
ترسيم الحدود
كان واضحا، ومنذ سنوات الاستعمار الثنائي الباكرة، أن الرزيقات كانوا أكثر قربا وصلة (وبالتالي تأييدا) للإدارة الحكومية من دينكا ملوال. وكان أولئك الدينكا بعيدين عن مراكز السلطة الاستعمارية في شمال بحر الغزال. ولم تكن الإدارة الحكومية في ذلك الوقت تتحدث اللغة الدينكاوية. وعلى العكس من ذلك فقد كان الرزيقات (بقيادة عائلة مادبو) أقوى حلفاء البريطانيين منذ عام 1916م وما بعد ذلك، وعاونوهم في انتصارهم الباكر في دارفور. ويعتقد دوغلاس جونسون أن ذلك التعاون قد ساهم، وبقوة، في تشكيل الحدود بين الرزيقات ودينكا ملوال. وكانت حكومة العهد الثنائي في عام 1912م قد عرفت الحدود بين القبيلتين بأنها الحدود المقامة بين شطي بحر العرب / كيير. غير أنه، وفي عام 1918م (أي بعد عامين من مساعدة الرزيقات للبريطانيين في غزو دارفور) قام البريطانيون بتغيير تلك الحدود وزيادة مناطق الرزيقات لمسافة قدرها أربعين ميلا جنوب النهر. وأسفر ذلك عن حركة تمرد احتجاجية للدينكا في عام 1921م، وتم في عام 1924م عقد مفاوضات بين حاكمي دارفور وبحر الغزال لبحث أمر إعادة ترسيم الحدود. وحاول الحاكمان الاستماع لما يقوله زعماء وكبراء المنطقتين بخصوص تاريخ الحدود المشتركة، ليعثرا على سابقة تاريخية مؤكدة وموثوقة، غير أن تاريخ المنطقتين كان يتميز بـ "السيولة" والصراع وعدم الاستقرار، وبالقطع بأنماط من التداخل في حقوق الرعي. ولم يسفر اجتماع عقد في عام 1924م لزعماء القبيلتين عن أي اتفاق، بل كانوا، كما وصفهم البريطاني ستبس (مفتش شمال بحر الغزال) في تقرير له في عام 1930م: " أفرادا معزولين / غريبين؟ (odd individuals) لا فرق بينهم بين العرب أو الدينكا (الذين يدعون تمثيلهم) والذين يزعمون بأنهم من الشات (Shatt) ملاك النهر الحقيقيين. (الشات هم فرع من الداجو، والذين تزعم بعض المصادر أنهم هم من أوائل سكان دارفور، ويعيشون على مناطق الحدود السودانية – الشادية وفي جبال جنوب كردفان (أرض النوبة)، وهاجروا ليستقروا في منطقة أبيي الحالية. المترجم). ويبدو أن كلا من الرزيقات ودينكا ملوال كان يحاول الادعاء بأنه امتص / استوعب الشات في مجتمعه، وبذا يجب أن تكون له كامل الملكية والسيادة على النهر. غير أن كل تلك المزاعم كانت أضعف من أن تقنع المسئولين الاستعماريين. وحاول دينكا ملوال والرزيقات ادعاء ملكية الأرض بذريعة الانتصار في المعارك السابقة. وكان من المعروف تاريخيا أن الدينكا كانوا قد استولوا على أراضي تقع تحت سيادة الرزيقات في تلك الأيام التي كان فيها الخليفة عبد الله التعايشي يطارد الرزيقات، وحدث عكس ذلك عندما انفرط عقد جيش دينكا ملوال وساءت أحوالهم القبلية بفعل إجراءات حكومية في مركز نيامليل (Nyamlell)، وبفعل قيادة العرب لحملات تجارة الرقيق في أوساطهم. وأخيرا تمت موافقة حاكمي المديريتين على تثبيت الحدود بين المديريتين عند أربعة عشر ميلا جنوب بحر العرب / كيير، وهذا هو ما بقي عليه الحال حتى الآن.
وظلت هذه الحدود بالنسبة لدينكا ملوال مصدرا لا ينضب للغضب والضغينة، وظل أولئك الدينكا يصفون حاكمهم البريطاني ويتلي بأنه الرجل الذي " تَبَرَّعَ بالنهر". غير أن اتفاقية عام 1924م كانت قد أكدت حق دينكا ملوال في الرعي في المنطقة الوقعة جنوب شاطئ بحر العرب / كيير، وفي صيد الأسماك فيه. ولم تكن تلك الاتفاقية مجرد اتفاقية ألغت فعليا حقوق دينكا ملوال في المنطقة، بل كانت بالفعل اتفاقية قلبت ما ورد في التسوية التي وقعت في عام 1918م وأبطلته، وهي تسوية كانت في مصلحة الرزيقات. وأفلح الحاكم البريطاني ويتلي في الحصول على بعض التنازلات من إدارة دارفور لصالح دينكا ملوال، كان من أهمها ضمان حق القبيلتين في بحر العرب / كيير، والرعي في الأرض الممتدة لأربعة عشر ميلا جنوب ذلك النهر. وبالطبع كان هذا يعني أن لا مفر من حدوث اتصال وصلات (واحتكاكات. المترجم) بين أفراد القبيلتين، والتي كانت تتطلب بدورها حسن إدارة من المسئولين بالمديريتين.
إدارة العلاقات العرقية (الأثنية)
كان المسئولون البريطانيون في المناطق الوقعة على طرفي الحدود بين الرزيقات ودينكا ملوال يهتمون كثيرا بالاجتماعات السنوية المشتركة بين زعماء القبيلتين، ويداومون على اللقاء بهم لبحث حلول المشاكل بين القبليتين. ولعب الزعيم القبلي القوي الناظر إبراهيم موسى مادبو أدورا مهمة في تلك الاجتماعات، بينما كان يمثل دينكا ملوال مجموعة من "السلاطين" والزعماء القبليين. ولم يكن هنالك لدينكا ملوال قائد واحد، بل كان يشار لزعاماتهم بصورة جماعية، دون ذكر اسم أي واحد منهم. وكان ذلك هو أحد الأدلة على لامركزية هياكل السلطة المحلية عند دينكا ملوال. وكانت تلك الاجتماعات المشتركة، ومنذ عام 1920م وحتى 1956م، تعقد سنويا (مع بعض الاستثناءات القليلة) في "سفاهة" وهي نقطة تجمع سكاني مهم في منطقة بحر العرب / كيير. ولم تكن مثل تلك الاجتماعات غريبة على سكان المناطق حول الحدود في دارفور، فتلك كانت هي الطريقة المفضلة لفض النزعات بين العرقيات المختلفة في تلك المديرية، وكانت كثيرا ما تعقد في الثلاثينيات بين زعماء القبائل الرعوية التي تسكن في مناطق الحدود بين كردفان ودارفور. وكانت تعقد لتعضيد ما يسمى "محنة" تدوم بغض النظر عما تصدره الحكومة من مراسيم. وكان المسئولون البريطانيون يؤثرون التأكيد والتعويل على العلاقات الشخصية بين الزعماء القبليين أكثر من التعويل على قبضة الدولة وسلطتها على الحدود.
وكان لتلك الاجتماعات الثنائية غرضا آخر كذلك. فالاجتماعات الثنائية بين مسئولي المديريتين (مثل دارفور وكردفان) كانت تهدف للتأكيد بأن الحكومة واحدة، وبأن المسئولين على جانبي الحدود ليسوا في حالة تنافس أو تسابق، وليسوا حكاما مستقلين أو شبه مستقلين، بل هم مسئولون في حكومة واحدة وموحدة، وليس فيها انشقاقات تقوم على أساس شخصي. وقال أحد المسئولين بمديرية دارفور بأن تلك الاجتماعات أثبتت أنه من المستحيل استغلال أي مسئول ليعمل ضد مسئول آخر.
وكان ذلك هو ذات غرض الاجتماعات التي كانت تتم بين الرزيقات ودينكا ملوال، والتي حرص فيها المسئولون البريطانيون من الطرفين على تأكيد عدم تحيزهم لمن يحكمونهم. وقال نائب حاكم دارفور في عام 1933م بأن تلك الاجتماعات "أثبتت خطل الأفكار البالية التي عفَّى عليها الزمن، والتي تسعى لتأكيد تفوق العرب النسبي على السود أو العكس، وأكدت مساواة الفريقين في نظر الحكومة، والتي تصر إصرار قويا على ضرورة أن يعيش السود والعرب معا في وطن موحد". ولكن في الواقع لم يف المسئولون بتلك الوعود المثالية. فقد ساد الاحساس بأن كل مسئول كان ينافح عمن يحكمهم. بل كادت تلك الاجتماعات أن تظهر للسطح الصراعات والتوتر بين الزعماء القبيلين والمسئولين البريطانيين. وأحس الزعماء القبليون ومواطنوهم بأن الحكومة ليست على قلب رجل واحد، بل ظهرت جلية لديهم طبيعة ممثلي الحكومة التي تتسم بالفرقة والشتات والمطامع والمصالح الشخصية، بل وحاولوا من خلال ما شاهدوه وأحسوه من تلك المفاوضات أن يستغلوا تلك الصراعات والخلافات التي لاحظوها بين أجنحة الحكومة المتصارعة المتنافسة لصالحهم. وقد لاحظ دوغلاس جونسون أن ذات الشيء قد حدث في صراعات الحدود الإدارية التي حدثت (لاحقا) في داخل جنوب السودان.
أثر "السياسة الجنوبية" على الصراع بين الرزيقات ودينكا ملوال
كان السياسة التي وضعتها الحكومة الاستعمارية بعد عام 1930م وسمتها "السياسة الجنوبية" من وراء المضاعفات التي أضرت بالحدود بين الرزيقات ودينكا ملوال. فقد كان الافتراض هو منع الاتصال والتواصل والاختلاط بين الجنوبيين والشمالين بقدر ما هو ممكن. غير أن تخصيص مساحة تبلغ أربعة عشر ميلا جنوب بحر العرب / كيير لتكون أرضا مشتركة بين القبيلتين للرعي جعلت من التواصل والاتصال (والاحتكاك) بين أفراد القبيلتين أمرا محتوما. لذا اقترحت السلطات الإدارية بالجنوب في عام 1930م مراجعة التسوية الحدودية بين القبيلتين بحيث تقسم الأراضي جنوب بحر العرب / كيير إلى قسمين عبر المحور الشرقي / الغربي، وهذا من شأنه أن يمنع (على الأقل نظريا) الاتصال والصلة بين الشعبين. وكان استبس الإداري البريطاني في شمال مديرية بحر الغزال يؤمن بأن الاتصال والصلة بين الشعبين من شأنه الإضرار البالغ بدينكا ملوال. ويعلل الرجل رأيه هذا على أسس عنصرية منها أن "اختلاط الشعوب الوثنية بالعرقيات العربية سيؤدي لا محالة لتأثر الشعوب الوثنية ببعض عادات العرق المتفوق". وستكون في رأيه نتيجة ذلك التواصل والصلة والاختلاط هو خلق جيل من أناس مُقتاءُ، لا يقبلون بعادات قبيلتهم التليدة وقوانينها العرفية. وكانت تلك هي النقطة الرئيسة التي ظل يكررها إداريو الاستعمار بالجنوب من أن اختلاط العرب مع غير العرب سيعمل على تقويض سلطة الزعماء القبليين الجنوبيين، وخلق جيل من "المنبتين" أي منقطعي الصلة بقبيلتهم (detribalized)، وهذا من أخطر مهددات السيطرة الاستعمارية.
وعلى عكس ذلك، كان الإداريون في دارفور يشككون في السياسة الجنوبية ومراميها، وكانوا يؤمنون بضرورة تقوية الصلات والاختلاط بين الشعبين، إذ أن الفصل لا يصلح البتة عند الرعاة الرحل. وأقترح ديدلي لامين الإداري بدارفور فتح الحدود بين المديريتين والسماح للجميع بحرية الحركة في كامل المديريتين، ورأى أن ذلك أدعى لاستدامة الأمن والسلام بين المديريتين، خاصة على الحدود المشتركة، وأن الشعبين في المديريتين سيقيمان - ودون تدخل حكومي- تسوية مؤقتة modus vivendi فيما بينهما تكون أكثر استدامة من الفصل التام بين الشعبين.
وتنبأ الإداري البريطاني ج. مورسن بأن محاولة الحكم الاستعماري فصل الرزيقات عن دينكا ملوال ستؤدي إلى صراع يشبه ذلك الصراع الذي سببته محاولات البريطانيين لتحديد إقامة عرب نجد في داخل الحدود العراقية في الشرق الأوسط.
alibadreldin@hotmail.com