الثبات على المبدأ: رحلات مع نساء السودان: د. ليليان كريغ هاريس.. عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
بدر الدين حامد الهاشمي
27 January, 2012
27 January, 2012
الثبات على المبدأ: رحلات مع نساء السودان
Keeping the faith: Travels with Sudanese Women
د/ ليليان كريغ هاريس
عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه السطور هي بعض ما جاء في فصل من كتاب متوسط الحجم عنوانه: الثبات على المبدأ: رحلات مع نساء السودان، صدر عام 1999م من دار نشر بولينز-أفريقيا، لامرأة منحدرة من عائلة عمل كل أفراد أجيالها المتعاقبة بالتبشير المسيحي هي ليليان هاريس (والحاصلة على درجة الدكتوراه في تاريخ الصين من جامعة جورج تاون)، والمتزوجة من السفير البريطاني في الخرطوم (الن قولتي)، مع احتفاظها باسمها على غير عادة الغربيين. قضت المؤلفة مع زوجها السفير في السودان أربعة أعوام متصلة (1995 -1998م). قد يذكر الناس أن ذلك السفير البريطاني كان قد أمر بمغادرة السودان بعد تأييد بريطانيا لعملية القصف الأمريكي لمصنع الشفاء.
تخصصت الدكتورة ليليان هاريس في السنوات الأخيرة في قضايا الدفاع عن المرأة في أرجاء العالم المختلفة، وتقول إنها ملتزمة بأمر حل النزاعات، والتعايش (السلمي) بين المسلمين والمسيحيين، وأنشأت العديد من الجمعيات الخيرية خدمة لقضايا المرأة، إحداها مخصصة لتقديم منح دراسية لنساء النوبة.
في هذا الفصل المعنون "نار على الجبل: زيارتي الأولى لجبال النوبة" قامت المؤلفة بتسجيل انطباعاتها عن زيارة قامت بها وزوجها – السفير البريطاني في السودان - مع ثلة من الدبلوماسيين الأجانب لمنطقة جبال النوبة، وأنقل هنا بعض انطباعاتها الشخصية دون تعليق. المترجم
----------------------- -----------
نوفمبر 1995م:
كان الجو العام مفعما بحزن معد عميق. حزن كنت تراه في عيون الناس وفي مبانيهم المهدمة، وتسمعه في أصواتهم، بل وتشمه في ما تبقى من أسواقهم البائسة، وقطاطيهم المهدمة. رغم أن شعلة الغضب لا تزال حية ومتوقدة – كما قيل لنا- في أماكن قليلة هنا وهناك، خاصة في بعض مناطق الجبل الحصينة، إلا أن هذه المنطقة تبدو كأرض محروقة. لا فائدة الآن من التحذير من أن ثقافة النوبة باتت مهددة، أو أن الناس يواجهون خطر الإبادة. لقد خمدت النيران الآن، ونحن الآن نقلب في ما بقي من رماد.
كنا قد يممنا شطر "جبال النوبة" مع خمسة عشر دبلوماسيا أجنبيا (مع مساعديهم)، أغلبهم في رتبة السفراء، وبرفقتنا عدد من "عيون" الحكومة وعسسها ومسئوليها.
خطر لي أن أكتب تقريري عن تلك الرحلة التي ضمت أصنافا عديدة متنافرة من البشر على طريقة الروائي البريطاني لورنس دوريل (هو مؤلف بريطاني عاش بين عامي 1912 – 2000م، وأشهر أعماله هي "رباعية الإسكندرية" المترجم). فعلي سبيل المثال كان معنا ذلك السفير السوداني المسلم المتيم بالويسكي، ومعه قائم بالأعمال، مفرط البدانة، ما كان يطفئ نار سيجارة حتى يشعل أخرى. كان معنا أيضا سفير أجنبي يربط حول وسطه حزاما وضع فيه خنجرا سويسريا ضخما حاد النصل، وبقربه حارسه الشخصي وهو يحمل سيخة حديدية ضخمة. كان هنالك بالطبع أيضا زوجي (السفير البريطاني. المترجم) وهو في بذلته التي كانت تصفها عقيلة أسقف برادفورد بأنها "بذلة مهرج". ماتت ضحكتي في مهدها وأنا أمام مشهد "جبال النوبة" البالغ الحزن.
كاد السفير الكوري يصاب بالإغماء وهو يعلن لنا أن رحلتنا البرية من الأبيض إلى كادقلي كانت أقسى رحلة عذاب قام بها في حياته. لم أشأ أن اسأله لماذا لم يقم أبدا بزيارة الصين! ناولني القائم بالأعمال المغربي – وأنا السيدة الوحيدة في تلك المجموعة من الذكور- بوكيه من أزهار برية قوية الرائحة قطفها من حديقة والي شمال كردفان. لم أضع البوكيه بين أسناني، بيد أني استخدمت صندوقها لوضع غدائنا فيه لتناوله فيما بعد في الدلنج. كان ممكنا أن يكون وضعنا ذاك مدخلا طيبا للروائي لورنس دوريل. لكنا جلسنا دون أن نتمكن من الأكل أو الضحك، فقد كنا محاطين بكثير من العيون والبطون الجائعة.
بدأت الرحلة في ظل أجواء كئيبة. وصلنا للأبيض من الخرطوم بطائرة روسية قديمة ذات مراوح (غير نفاثة) قامت باستئجارها حكومة السودان، ودفع الدبلوماسيون الأجانب قيمة استئجارها. قضينا في مطار الخرطوم، ومنذ الصباح الباكر، أكثر من ساعة كاملة في الانتظار، مما جعل صبر بعض الدبلوماسيين ينفذ، وبدا ذلك واضحا عليهم. ما أن بدأت الطائرة في التحرك في مدرج المطارحتى هتفت عاليا فتاة ضخمة ترتدي اسكيرتا أخضرا وتغطي شعرها: "الله أكبر" ثلاث مرات، مما دعاني لتبادل نظرات خوف وارتعاب مع السفير التركي، والسكرتير الأول الألماني. مرت الرحلة دون حدث يذكر، رغم مررونا ببعض المطبات الهوائية، ولم يمس كثير منا أكوام الكيك والفطائر اللزجة التي أمطرتنا بها مضيفتان جويتان في زيهما الأخضر.
استقبلنا عند باب الطائرة في مطار الأبيض والي شمال كردفان الشاب. لعله كان يعلم أن اليومين القادمين سيكونان "كابوسا" برتوكوليا لنا، بيد أنه – إن سارت الأمور كما يشتهي هو - " فسيكون ذلك "انقلابا" في جانب العلاقات العامة. كان هدف الحكومة هو أن تذهب تلك الثلة من "الخواجات" وغيرهم من الدبلوماسيين إلى "جبال النوبة" وتعود دون أن تسمع أو ترى أي أثر لفعل شرير أو غير حميد. وإن حدث ذلك ، فلن يستطيع هؤلاء الدبلوماسيون بعد ذلك الحديث بسوء عن أحوال حقوق الإنسان وانتهاكاتها. لابد من إحكام الرباط الأسود حول أعينهم. سيكون هنالك الكثير من الصور التذكارية وشرائط الفيديو لمصافحات حارة، وابتسامات ودودة، ورقصات قبلية، وهدايا تذكارية لإسعاد (وإسكات) هؤلاء القوم المغرورين المتنطعين المحبين للإعلام والشهرة. تلك كانت هي خطة الحكومة. ولضمان نجاح تلك الخطة، بعثت الحكومة أيضا بالقس جبريل ريوك كعين لها علينا، وقد كان وزيرا في الحكومة، وقسيس الكنيسة الأسقفية بالسودان.
من جانبنا توقعنا أن تكون الحكومة قد قامت بسجن من تشك في ولائهم من رجال ونساء القبائل غير الموالية، وهيأت لنا مقابلة عدد مقدر من "الشهود" الذين سيحدثوننا عن السلام والتقدم والاستقرار وحسن النية الذي بدأ يحدث في المنطقة. كانت تلك أشبه بلعبة "القط والفأر" التي كان الدبلوماسيون على كامل الاستعداد لها. كان كثير منهم لم يغادر الخرطوم من قبل، وبعد رحلتنا هذه لا أظن أنهم سيفعلون!
كان الواجب المفروض على والي شمال كردفان، عدا توفير المواصلات بالطبع، أن يطيل بقاءنا في الأبيض لأطول فترة ممكنة، إذ أن ذلك كان سيقلل بالضرورة من فترة بقائنا في جبال النوبة. كانت هنالك فترة انتظار طويلة بعد وصولنا للأبيض قبل ظهور "الإفطار"، والذي أعقبته فترة انتظار أخرى. ما أن بلغ الوقت منتصف النهار، بعد أن فرغت جعبة الوالي من البرامج "الترفيهية" التي يمكن أن يستخدمها لتأخيرنا في الأبيض، حتى لاحت لنا بداية موكب سياراتنا العشر ذات الدفع الرباعي، والتي كان كثير منها "مستلفاً" من المنظمات غير الحكومية العاملة في الأبيض. بدأ الموكب في السير جنوبا نحو كادقلي في طريق "الكابوس". ظللنا بعد ذلك متأخرين دوما عن ما هو مسجل في برنامجنا المعتمد بيوم ونصف، وكان هذا هو المقصود بالطبع حتى لا يتبقى لنا إلا وقت قليل لـ "نتحدث مع أي فرد"، أو"نذهب لأي مكان" أو"نرى كل شيء" كما جرت عبارات الدعوة الرسمية التي وجهت إلينا. مررنا بمناظر طبيعية جميلة ونحن نستمع لدعايات المسئولين الحكوميين المكرورة، ونشارك في تناول ما تقع عليه أيدينا من طعام. رغم كل ذلك لم تفت علينا ملاحظات هامة عن حال الناس في المناطق التي مررنا بها. كانت ملاحظاتنا الشخصية تلك تغني عن كل سؤال.
عندما غادرنا الأبيض، كان حال الطقس، كما هو معتاد، حارا وجافا ، وبدا الجميع (عدا الدبلوماسي الجزائري الذي لم يجد من يتحدث معه سوى اليمني والمغربي، والأفغاني الذي لا يتحدث غير لغته) مستعدين للمشاركة. مضت سياراتنا المكيفة تنهب الأرض في ذلك الطريق البائس، مع تغير المناظر من حولنا؛ فاختفت الأرض المسطحة المغطاة بأشجار الهجليج، ودخلنا في منطقة جبلية بنفسجية اللون أسمها "جبال النوبة". استغرقت رحلتنا ساعتين للوصول إلى مدينة الدلنج (على بعد 140 كيلومتر من الأبيض)، وبالنظر إلى حالة الطريق كانت تلك معجزة صغيرة. عند وصولنا للدلنج أخذنا مباشرة إلى أكبر قاعة للمحاضرات بجامعتها حيث التقى بنا محافظ المنطقة ومدير الجامعة وبعض شيوخ "الإدارة الأهلية" وغيرهم، وسمعنا كثيرا من الآيات القرآنية في البرنامج الذي قيل إنه لتنويرنا. جلس الدبلوماسيون "المبهورون" في مقاعد الدراسة الخشبية وهم يقاومون الرغبة في الذهاب للحمام! وصلنا أخيرا في البرنامج لبند ما سموه "الاستفسارات"، بيد أنه لم يسأل أحد أحدا! لذا قمت من مقعدي في الصف الأول والتقطت صورة سريعة لأذن الملحق السويسري اليمنى! أتاح لي ذلك رؤية كل الحضور في تلك القاعة، وتبينت أن هنالك من بين مئات الرجال في القاعة لم يكن هنالك سوى عدد قليل جدا من النساء يعد على أصابع اليدين.
قمنا بعد ذلك بزيارة سريعة للمستشفى ولكنيستين في المدينة، ثم أخذنا إلى حظيرة غابة.. ما أن دخلناها حتى بدأ راقصون قبليون في تقديم عرض بالغ الصخب، صاحبته فقرة مصارعة حرة. صافحنا الكثير من الأيدي الخشنة (في الأصل الجلدية. المترجم) وتجرعنا الكثير من البيبسي كولا، وتقبلنا الكثير من الهدايا التذكارية. تلقي كل واحد من السفراء وممثليهم هدية كانت عبارة عن عصاتين خشبيتين (ربما أملا في أن تستخدم واحدة منهما في الهز والتلويح بها في المناسبات السعيدة، وهي علامة للرضاء والقبول). بصفتي (المحرجة) كالمرأة الوحيدة في الوفد الزائر، فقد أهديت لي محفظة نسائية مصنوعة من جلد جمل، وكثير من الأغراض والأقمشة النسائية، قمت بحشرها جميعا بصعوبة في السيارة لأوزعها فيما بعد على النساء في الخرطوم.
بعد التظاهر بتناول بعض الطعام مع النساء، والرقص معهن، وتبادل القفشات مع بعض العواجيز اللواتي فقدن أسنانهن، خاصة حول قبعتي التي يبدو أنها أثارت فضولهن، عدنا للسيارة. في السيارة بدأت في التفكير في أن السعادة من المشاعر الإنسانية التي يصعب انتحالها أو التظاهر بها.، وأن الفرح المصطنع لا يمكن إخفاؤه. بدا واضحا جدا أن هنالك حزنا دفينا في نفوس النساء، رغما عن كل مظاهر الفرح من رقصات وقفشات وضحكات. تدربنا كل الثقافات على الانتحال والتظاهر والتغطية على الحزن الدفين في داخل سويداء نفوسنا، وتمنعنا من الاعتراف بالألم الذي نقرأه في عيون طفل أجبره والده على ترديد مقولات ما، وفي سلوك المرأة التي تظل تخدم زوجها رغم قسوته عليها، وفي تحركات دب يرقص على حلبة السيرك وهو مربوط من أنفه بسلسلة حديدية.
لا شك عندي في أن النساء اللواتي كنت أرقص معهن كن يتظاهرن بالفرح، بيد أنهن لم ينجحن في إخفاء خوفهن وحزنهن بكل ما كن يرتدينه من ملابس فاقعة الألوان، ولم تنجح ضربات الطبول وأصوات الأجراس الصغيرة حول كواحل أرجلهن في إدخال المسرة على نفوسهن.
ركب معنا نائب والي جنوب كردفان (وهو من أبناء النوبة) في سيارتنا، ربما كنوع من التكريم لنا، وبدا حريصا على الكلام دون انقطاع طوال وقت الرحلة إلى كادقلي (المسافة بين الأبيض وكادقلي هي 290 كيلومتر). أعاد والي جنوب كردفان على مسامعنا فيما بعد نفس كلمات الرجل. أشار نائب الوالي إلى سوء حال الطريق، إذ أنه لم يصن منذ نحو عقدين من الزمان، وقال إنه يأمل في أن يفكر السفراء في حل لهذه المشكلة بعد أن شاهدوا حاله "على الطبيعة"!
لاحظنا قلة عدد السكان في المنطقة بين الدلنج وكادقلي وكنا نرى بين حين وآخر قليلاً من الرعاة والمشاة يحملون على أكتافهم أسلحة اتوماتيكية. على مدى يومين لم نر حيوانا بريا (وحشيا) رغم تأكيد نائب الوالي على أنه ما زالت هنالك فهود تعيش في الجبال. أشتكى نائب الوالي من أن الإعلام الخارجي يقدم دوما صورة قاتمة ظالمة للحال في جبال النوبة، بينما اشتكي مسئول الأمن الحكومي (والذي كان يجلس خلف مقعدي) وهو يحدث زملائه بالراديو في سيارات وفدنا الأخرى من كثرة الهدايا التي تلقيتها. لم يلق السفير (زوج المؤلفة. المترجم) بالا لذلك، فقد تعود على أن لا يناقش حائطا حجريا، وظل يراقب الطيور على الطريق ويتعرف على أنواعها.
تمنى نائب الوالي أن يتوقف "الناس" عن إمداد المتمردين بالسلاح، وقررأنه إن حدث ذلك فإنهم سيهبطون من الجبال، ويعيشون في سلام، إذ ليس هنالك تفريق بين المسلمين والمسيحيين، ولا تمييز بين العرب والنوبة. عزا الرجل كل ما حدث من قتل وتدمير وعدوان إلى المتمردين، ولكنني جادلته – دون جدوى- بالقول إن هنالك الكثير من التقارير التي تشير إلى أن تمييزا يحدث بين النوبة (المسلمين وغير المسلمين) وبين عرب الشمال. رد نائب الوالي في بساطة بأن كل ذلك هو مجرد " كلام فارغ".
وصلنا كادقلي مع حلول الظلام، وكانت استراحتها قصرا منيفا مقارنة بمثيلتها في ملكال. وجدنا فيها غرفا مقبولة، حيث اغتسلنا، وتجمعنا للذهاب لبرنامج المساء. قبيل العشاء قابلنا والي جنوب كردفان الممتلئ الجسم، والذي رحب بنا وتمنى أن نكون رسل سلام عالميين لجبال النوبة، وللحب، والنوايا الحسنة. شدد على أنه بهذه الطريقة سوف نعمل سويا للانتصار على الذين ينشرون على الناس (ربما بدافع الجهل أو سوء القصد) صورة خاطئة ظالمة عن الأوضاع في الإقليم. أعقبه "أمير قبلي" كان- للغرابة- يرتدي زيا عربيا مكونا من جلابية وعمة، بالقول إن أفراد الجماعات المتمردة سوف يقبلون ضمن "النسيج الوطني"، وسيتم العفو عنهم إن أعلنوا توبتهم. كانت كاميرات التلفزيون والفيديو حاضرة بالطبع في ذلك الحفل. تولي بابال نونسيدو مهمة كان الجميع حريصون على تحاشيها، وهي التحدث بالإنابة عن الوفد الدبلوماسي للرد على كلمة الوالي. شكر بابال نونسيدو (وهو ألماني ورجل دين مسيحي) مضيفينا على الدعوة وعلى حسن الضيافة، وأعترف بعدم رؤية الوفد الزائر لأي مظهر من مظاهر الإبادة العرقية أو انتهاكات حقوق الإنسان في المناطق التي سمح لهم بزيارتها، وأكد أن الحكومة مسيطرة تماما – فيما يبدو- على الحالة الأمنية في تلك المناطق. شكا الرجل من أن الوقت المخصص للزيارة كان ضيقا جدا، وأن ما شاهده أعضاء الوفد كان محدودا جدا، ودعا للسماح لمن طرد من الأجانب المسيحيين من الدلنج بالعودة مرة أخرى لها للعمل في المدارس الكنسية والمستشفى.
نقلا عن "الأحداث"
Badreldin Ali [alibadreldin@yahoo.com]