الثبات على المبدأ: رحلات مع نساء السودان (2) .. عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
الثبات على المبدأ: رحلات مع نساء السودان (2)
Keeping the faith: Travels with Sudanese Women
د/ ليليان كريغ هاريس
عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه السطور هي بعض ما جاء في فصل من كتاب متوسط الحجم عنوانه: الثبات على المبدأ: رحلات مع نساء السودان، صدر عام 1999م من دار نشر بولينز-أفريقيا، لامرأة منحدرة من عائلة عمل كل أفراد أجيالها المتعاقبة بالتبشير المسيحي هي ليليان كريق هاريس (والحاصلة على درجة الدكتوراه في تاريخ الصين من جامعة جورج تاون)، والمتزوجة من السفير البريطاني الأسبق في الخرطوم (الن قولتي)، مع احتفاظها باسمها على غير عادة الغربيين. قضت المؤلفة مع زوجها السفير في السودان أربعة أعوام متصلة (1995 -1998م). قد يذكر الناس أن ذلك السفير البريطاني كان قد أمر بمغادرة السودان بعد تأييد بريطانيا لعملية القصف الأمريكي لمصنع الشفاء.
تخصصت الدكتورة هاريس في السنوات الأخيرة في قضايا الدفاع عن المرأة في أرجاء العالم المختلفة، وتقول إنها ملتزمة بأمر حل النزاعات، والتعايش (السلمي) بين المسلمين والمسيحيين، وأنشأت العديد من الجمعيات الخيرية خدمة لقضايا المرأة، إحداها مخصصة لتقديم منح دراسية لنساء النوبة.
في هذا الفصل المعنون "الأبيض: زوجة الوالي" قامت المؤلفة بتسجيل انطباعاتها عن زيارة قامت بها وزوجها – السفير البريطاني في السودان – إلى الأبيض، حاضرة كردفان، وأنقل هنا بعض انطباعاتها الشخصية دون تعليق (فالحكم للقارئ). من المفيد في رأيي التأمل في ما كتبته هذه الكاتبة، عملا بالحكمة الأزلية: "اعرف عدوك " لمن يراها "عدوة"، وأضيف أيضا "اعرف صديقك" لمن يعدها "صديقة". آثرت أن لا أذكر هنا أسماء الذين أوردتهم الكاتبة في هذا الفصل لأسباب عديدة. المترجم
سبتمبر 1995م
كانت اللوحة المعلقة على جدار مكتبي هي لشجرة تبلدي هرمة أصابها الجفاف. مثلت تلك الشجرة كأصدق ما يكون التمثيل الحال في كردفان، فهي ضخمة صلبة ملتفة، وبلا أوراق، وهي أيضا صورة مرعبة ترمز للموت في ذلك القفر البني والأصفر اللون، والذي تصليه الشمس دوما بشواظ لهيبها الحارق. يجدر بالذكر إن شجرة التبلدي هي الرمز الرسمي لأقليم كردفان، وهي تجسد لي بصورة دقيقة أيضا ذكريات زيارتي الأولى للأبيض في عام 1988م، حين ضربت المنطقة موجة جفاف مروع. يبدو أن التصحر والموت يلاحقان كردفان ويلازمانها.
بعد سبعة سنوات من زيارتي الأولى، وفي زيارتي هذه لاحظت أن الأمطار قد أعادت بعض الحياة للريف، ولأشجار التبلدي، فغدت الأراضي الجرداء مروجا خضراء ترعي فيها الأبقار والأبل والمعز، وتروح بطانا. تجمعت قبائل البقارة من أجل الاحتفال بنا. لم يكن بمقدور أحد منهم أن يرفض للوالي الشاب القادم من الخرطوم طلبه أن يرقصوا لنا. كان التوصيف الحكومي لذلك الجزء من برنامج زيارة السفير (هو الن قولتي زوج الكاتبة. المترجم)، والمقام على بعد مسيرة نصف ساعة بالسيارة من الأبيض هو "زيارة إلى منطقة رحل".
كانت في مرافقتنا في عصر ذلك اليوم زوجة الوالي، والتي كانت قد أبلت لتوها من ملاريا اصابتها قبل أيام. كان الوفد مكونا من خمس سيارات ضخمة (ذات دفع رباعي) تقدمت الموكب سيارة "بك آب" انحشر فيها عدد كبير من حراس الوالي الشخصيين. تبع تلك السيارة سيارة تايوتا (من نوع لاند كروزر) خصصت للوالي والسفير . لاحظت أن سيارة اللاند كروزر هي السيارة المفضلة عند رجالات الجبهة الإسلامية القومية في كل المناسبات والأماكن!
ركبت مع زوجة الوالي، ومعنا المكلفة بمرافقتي (minder) وكانت شابة مفعمة بالحيوية تعمل موظفة بوازرة المالية. سارت خلفنا عربة لاند كروزر (بالطبع)، وخلفها عربة لاند كروز أخرى بها عدد من كرام مواطني كردفان من ذوي الشأن والحيثية، واطفال الوالي. في ذيل الموكب كانت هناك سيارة من نوع آخر تحمل عددا من المواطنين الأقل شأنا، مع عدد من رجال الأمن.
عند وصولنا وجدنا أن المئات قد تحلقوا في ساحة كبيرة، وخصصت لنا (كأصحاب سعادة) كراسي في المقدمة. ظهر أمامنا في "المسرح" شباب في مقتبل العمر، عراة الصدور، مفتولي العضلات، يقفزون ويثبون في مرح. استخدم حراس الوالي عصيهم وسيطانهم ليدفعوا الراقصين على بعد مسافة مأمونة من مجلس الوالي والسفير.
سمعت أحدهم يقول: "هم مصارعي النوبة".
رد عليه أحدهم: "لا لا لا لا...هؤلاء بقارة".
لم يكن بوسعي أن أدرك الفرق، بيد أني رجحت الاحتمال الثاني. كان الراقصون الشباب يمثلون أنهم أبقارا، و يتقدم كل فرد فيهم نحو الآخر وهو يهز قرونه المستعارة، ويصدر خوارا من الحلق، ويتقدم مرة ويتقهقر أخرى. بدأت أدرك أن لا شيء في كردفان يبدو كما هو في حقيقة الأمر. بدت حرم الوالي، واسمها... وكأنها تعاني من صداع فظيع، ولكنها لم تكن لتعلن عن ذلك. ظلت تلك السيدة صابرة وصامتة وصامدة وهي تجلس بجانبي.
فجأة حدث كل شيء في وقت واحد.كان الرجال يرقصون وهم يرتدون قرون الثيران وتنانير (اسكيرتات) من القش، والنساء يضربن على قرع جاف يطفو على حوض مائي، وعشرات الشباب الصغار من الجنسين وهم يضربون بأرجلهم بطريقة إيقاعية متحمسة، وينفخون في صفاراتهم، وبدأ الشباب يقفون في دوائر، يمسك كل واحد منهم بالآخر، ويتلوى، ويصرع صاحبه ويرميه أرضا. فجأة قامت زوجة الوالي وألصقت ورقة مالية على جبين إحدى الراقصات كما هي العادة في مثل هذه الحالات. وفجأة توقف الرقص وهدأت الساحة.
كنت قد شاهدت ذات المجموعة الراقصة من قبل عندما أتت للخرطوم لحفل افتتاح أحد المباني الحكومية. في ذلك الحفل أيضا كانت هوية أولئك الراقصين ملتبسة. قال أحدهم إنهم من "قبائل أفريقية سوداء"، بينما نفى آخر ذلك وقال إنهم "مسلمون من كردفان". نعم. الاثنان صحيحان. نعم كانوا من قبائل البقارة. قال لي أحدهم في الأبيض: "لقد كنا دوما مسلمين ... منذ البداية". كان ذلك التصريح بالنسبة له بالطبع "صحيح/مؤام سياسيا" ليؤكد على تلك الهوية، لكني قدرت له تمسكه بعقيدته.
كان البقارة يعملون، وعلى مدي قرون، لصالح مستعربي شمال السودان كتجار رقيق في أقصى الجنوب. في أواخر ثمانينات القرن العشرين قامت الحكومة، وهي تؤمل في توطيد نفوذها، بتزويد هؤلاء البقارة الرحل بالأسلحة الأوتوماتيكية، وأطلقت أيديهم ضد أعدائهم التقليديين، الدينكا، وهم مثلهم قوم مشاكسون، يرعون الأبقار ويحبونها، ولكنهم وثنيون ومسيحيون. لا يمكن وصف الفظائع التي أرتكبها هؤلاء الناس، فقد أحدثوا شرخا عميقا (وربما دائما) في العلاقات بينهم وبين جيرانهم الدينكا، وربما كان أثر ذلك على ثقافة الدينكا غير قابل للإصلاح.
بعد عودتي من الأبيض سعيت لمقابلة من كان مسئولا عن تسليح قبائل البقارة. كان ذلك الرجل الدمث، قد عمل وزيرا للدفاع بين عامي 1986 – 1989م في العهد الديمقراطي الذي تلا حكم الرئيس نميري. كان الرجل قد سجن مع بداية هذا العهد الحالي ولم يطلق سراحه إلا قبل فترة وجيزة. كانت الطاقية المدببة المميزة للأنصار تظهر عالية وسط عمامته التي تدلى – في تحد- جزء من أهدابها قرب أذنه اليسرى. لا يمكن لأحد أن ينكر أن الرجل فخور وغير هياب. لكن بالعودة إلى نقطتي الأولى، لماذا قام بمذبحة ضد الدينكا (وهم من القبائل السوداء مثله) خدمة لمصالح "عرب" الشمال النيلي؟ كانت الإجابة بالغة الوضوح: الجنرال... هو من البقارة.
بالإضافة إلى ذلك، فكرت في أنه إن تعود المرء على القتل، فإنه يصعب عليه التوقف. بدا أن حراس الوالي الشخصيين يشاطرونني تلك الفكرة، فما أن آذنت شمس ذلك اليوم بالمغيب حتى أسرع الحراس بوضعنا في سياراتنا التي ستقفل راجعة بنا للأبيض. في منتصف الطريق توقفت السيارات في ساحة خضراء لأداء الصلاة. أصف الوالي ومن معه للصلاة على حصائر وسجادات فرشت على الأرض على ضوء مصابيح السيارات الأمامية. لم يؤد الصلاة الدبلوماسيين الأجانب ولا النساء والأطفال. كان من الممكن ببساطة أن يؤخر الوالي الصلاة لمدة عشرين دقيقة أو نحوها حتى يصل لقصره. بيد أن ذلك التوقف كانت له أسبابه، فهو بيان/ إعلان سياسي political statement كما هو واجب ديني (أضافت الكاتبة هنا فقرة في الهامش تشرح وجهة نظرها بالقول إنها تعد صلاة الوالي في منتصف الطريق، وهو على بعد عشرين دقيقة من داره، نوعا من "الصلاة المتكبرة arrogant prayer " التي يستخدم فيها المرء الصلاة ليبين للناس "من هو معنا" ومن هو ليس كذلك. شبهت ذلك بالمسيحيين الذين يؤدون الصلاة في المطاعم العامة بصوت عال، وأيضا بالمسيحيين في الكنيسة الكاثوليكية بالأبيض الذين قاموا بطرد نسوة مسلمات ساقهن الفضول لدخول الكنيسة من أجل رؤية فسيفساء "القدسية بخيتة" التي كانت قد وصفتها لهن من قبل. ذكرت كذلك حالة أخرى عندما كان أفراد جمعية خيرية من السودانيين يجتمعون في دار السفير البريطاني بالخرطوم، ويصرون على إيقاف الاجتماع من أجل أداء صلاة العشاء جماعة، وتضايقت هي من الأمر فقامت بإقناع السفير بتحويل مكان الاجتماع إلى مكان آخر، فتوقف المجتمعون بعد ذلك عن تعطيل الاجتماع لأداء الصلاة جماعة).
عندما قضيت الصلاة، عاد الموكب للسير مرة أخرى. كانت ... (زوجة الوالي) تحاول الإمساك برضيعها وهي تتجاذب أطراف الحديث معي. كانت لغتها الانجليزية متعثرة قليلا ولكنها مقبولة، وبالقطع أفضل من لغتي العربية. كانت حالتها لصحية ليست على ما يرام، وكأن ذلك لم يكن كافيا، فقد أصيب طفلها بجرح في جبهته عندما وقع في صباح ذلك اليوم، وحرارة جسمه الآن مرتفعة، ولكن رغم كل مصاعبها فقد كان من واجبها أن ترافقني في تلك الزيارة، وإلا ستعد سيدة غير مهذبة. لم تستطع أن تقول هذا فعبرت عن ذلك بطريقة أخرى. قالت: "زوجي يعمل لساعات طويلة. لا أكاد أراه في بعض الأحايين". ضحكنا معا لهذه الشكوى التليدة المتكررة التي تجمعنا سويا، وتناقشنا (في مودة أخوية نسائية خالصة) في تلك المشكلة التي تتخطى حواجز الثقافة واللغة و الصراع مع السلطة الذكورية. حدثتني عن مشرعها الخيري لبناء مساكن لكبار السن الفقراء. بدأت العمل في ذلك المشروع بعد أن أمرت حرم الرئيس زوجات كل الولاة بأن "يبحث لهن عن عمل مفيد يقمن به". وجدت ... أنه يصعب عليها الإشراف على تربية عيالها الكثيرين والقيام بواجب الضيافة للضيوف الرسميين. أعلم أن وقت المرأة السودانية ليس ملكا لها.
سألت نفسي: من هي ...فعلا؟ ماذا تري؟ وإلى أي مدي تشعر بالأمان؟جذبت تلك السيدة المريضة ثوبها (قطعة القماش التي يبلغ طولها 9 أمتار) وشدته حول رأسها، وحولت رضيعها إلى وضع أكثر راحة. أحسست فجأة بأنني أجنبية وغريبة جدا (عن عالمها)، وبأني عارية وشديد التطفل، وأحس بأسف عميق لكلينا، ونحن نتجول في الأرياف ومحاطين برجال مسلحين، ونجلس لنشاهد رجالا يمثلون أنهم بقر. لا شك أنني و ... كنا نفضل أن نكون جالستين في المنزل نحتسي كوبين من الشاي.
لا ريب أنه تحت غطاء كردفان النباتي (المؤقت)، وخلف كلمات الوالي المعسولة، تقبع أرض صحراوية جرداء، وشكوك أزلية، وإنكار للحقائق والصعاب، وتخوف سياسي وشخصي متبادل. لم تكن الثماني والأربعين ساعة التي قضيناها هناك كافية لسبر غور كل تلك المشاكل، بيد أنها كانت كافية لنا لندرك أن أهل الأبيض كانوا يتأرجحون بين أمرين: بين الحقيقة والكذب ( ومن منا براء من ذلك؟) وبين الحقيقة والخيال، وبين العمل والتظاهر بالعمل.، والدين والسياسة، التحديث والتقليد، و أيضا (وكثيرا) بين الحياة والموت. إن كثيرا مما هو حادث في كردفان هو بالضبط ما يقرر المشاهد أنه كذلك، وإليك بعض الأمثلة:
1. ينكر المسئولون في الأبيض أن هنالك الكثير من النازحين في المنطقة، رغم أن هنالك الكثير من النوبة ومن الجنوبيين يملأون ساحة الكنيسة الكاثوليكية. هنالك قسيس عجوز يمكنه أن يحكي عن مضايقات الرسميين له، والتعطيل المتعمد للخدمات الإنسانية لهؤلاء.
2. تتحدث امرأة شابة عن مشروع حكومي يخص "المساواة بين الجنسين". لما سئلت تلك المرأة عن تفاصيل المشروع، زعمت – مستخدمة عبارات رنانة- أنها تعمل في "مشروعات تكاملية، ومفاهيم هيكلية ، وتوقعات الميزانية..." ولكن لأن مشروع المساواة هذا ما زال يحبو (في عامه الثالث!)، فإنه لم يحظ بأي تمويل رغم كثرة الاجتماعات التي اتفقت على قيامه.
3. زعم مسئول في إدارة التعليم بأن أعداد الطالبات في مدارس كردفان تفوق أعداد الذكور، بينما تحدث أحد رجال الخدمة الاجتماعية عن جهودهم من أجل ردم الفجوة بين الجنسين، والتي خلقتها المقاومة التقليدية لتعليم البنات.
4. قص السفير (البريطاني) الشريط التقليدي معلنا عن افتتاح "المركز الثقافي البريطاني- السوداني". ظل أحد موظفي "المجلس البريطاني" القدامى يتلقى التهاني بهذه المناسبة، فقد كان من الذين حرسوا وحافظوا على ممتلكات ذلك المجلس الذي كان قد أغلق أبوابه في الأبيض منذ ثلاثة أعوام،. شد ذلك الرجل على يد السفير والدموع تكاد تطفر من عينيه، وهو في غاية الارتياح لإعادة الحياة لذلك المركز. جلس المسئولون المحليون في المقدمة وهم يزدردون بشهية مفتوحة قبضات التمر التي وضعت أمامهم، وهم يهزون رؤوسهم ويؤمنون على يسمعون ويرون من صفوف المجلات والدوريات البريطانية. لم يأت أحد البتة على ذكر أن المكتبة قد آلت الآن للسودانيين، ولن تحصل بعد الآن على أموال أو كتب أو صحف أو مجلات جديدة. كان تاريخ المجلات المرصوصة أمامهم هو إبريل من عام 1992م! (أضافت الكاتبة في الهامش أن السفارة البريطانية - وخلافا لما توقعته - استمرت في إمداد ذلك المركز وغيره بالكتب والمجلات الإنجليزية).
5. أشاد مسئول ب"الأعمال الحرة" والبنوك الخاصة التي ساهمت في بناء سوق تعاوني. أمن نائب الوالي على ذلك، وأضاف بأن الحكومة قدمت منحة كبيرة عند اكتتاب مشروع البناء. قال مندوب منظمة العون البريطاني الإسلامي في فخر إن منظمته لا علاقة لها بالحكومة (البريطانية)، ثم أعقب ذلك بحديثه عن العون الذي تلقته منظمته من وكالة التنمية لما وراء البحار Overseas Development Agency (ODA)
(لعل اسم المنظمة قد تغير الآن إلى Official Development Assistance).
6. قيل لنا أن الاستراحة التي تمت استضافتنا فيها قد تم بنائها مع بداية القرن العشرين، وقال آخرون إنها بنيت قبل الاستقلال بسنوات عديدة، بينما أكد آخرون إنها بنيت خصيصا بمناسبة زيارة الملكة إليزابيث الثانية في عام 1965م.
7. قدم لنا في وجبة الإفطار أصناف عديدة شملت بيضا مسلوقا وبيضا مقليا، وطماطم وخيار، وكبد غنم، وسلطة باذنجان، وفاصوليا وزبادي وجبن أبيض شديد الملوحة، وزيتون وتمر وبرتقال وموز، مع طبق من مربى مخلوطة مع زبد، ومعها خبز. وصفت لنا تلك الوجبة العامرة بالطعام على أنها "فطور سوداني نموذجي “a typical Sudanese breakfast” . أضيف للغداء عدد من الدجاجات (المحمرة) وخروف مشوي كامل، وسمي هذا "غداء سوداني نموذجي".
8. "نأكل مما ننتج". هكذا تحدث أحد المسئولين لنا بفخر بائن. كان يكرر (كالببغاء) ما قاله رئيسه قبل سنوات، في وقت كانت فيه منظمات الإغاثة تنقل الغذاء لآلالف الجياع من السودانيين.
9. سألنا الوالي عن وضع إمدادات الغذاء في ولايته فقل لنل إن حصاد هذا العام (1995م) سيغطي نحو 60% فقط من إنتاج العام الذي سبقه، وأن ذلك الوضع "سيخلق صعوبات". قام ذات الرجل بالإعلان لاحقا عن أن ولايته لديها مخزونات من الأغذية تكفيها لمدة ثلاثة سنوات على أقل تقدير!
كان الغالب على أجواء زيارتنا تلك هو التناقض والمراوغة وفقدان الأمل والتحدي والشك والنفاق. كل ذلك ترك أثرا على أفكاري فشوش عليها وشتتها. وقع الوالي نفسه في أشراك عدد من التناقضات. فبينما عمل جاهدا كي يبرز لنا ما أنجزه (من معجزات) في الولاية خلال عام واحد من حكمه، فإنه سعى، وبخطة غير محددة المعالم، للحصول على عون من بريطانيا. كان يكرر بأن كردفان لديها كل ما تحتاجه، بيد أنه يقول أيضا إنها في الحقيقة تحتاج إلى المزيد. قال متفائلا: " بما أن السفير البريطاني قد عاد للخرطوم مرة أخرى، فالعلاقات بين بريطانيا والسودان ستشهد تطورا أكيدا". رد عليه السفير البريطاني بالقول: "إن سياسة بريطانيا لم تتغير، وأنه لن يكون هنالك أي تطور في العلاقة بين البلدين، ولن تقدم بريطانيا أي مساعدات حتى تراجع حكومة السودان مواقفها وأفعالها في أمور هامة مثل الإرهاب العالمي، وأحوال حقوق الإنسان، وإيقاف الممارسات المنافية لتلك الحقوق." لم يحر الوالي جوابا، فلزم الصمت وظل عابسا متجهما لمدة خمسة دقائق يفكر في وقاحة هذا السفير التي يصعب تحملها.
أما بالنسبة لي، فإن الوالي لم يكن لديه من الوقت ليضيعه في الحديث معي، ولعله عجب من أن تسأله امرأة في شأن عام. كان يرد صارخا على أي سؤال اسأله إياه بصوت عال: "ماذا؟ What?". تحدثت مرة فقلت إنه من المؤسف أن حيوانات السودان البرية النادرة معرضة للانقراض. لم يدرك الوالي ما قصدت، وحائط مكتبه "مزين" بجلد فهدين، ولم يفهم أنه قد قتل (بضم القاف) من البشر والحيوانات عدد كبير، وأن التوازن البيئي والسياحة (في المستقبل) وجمال الطبيعة...كل ذلك معرض للخطر.
بالطبع كان من الغرور والاعتداد غير المبرر بالذات أن أحاضر الوالي، لكن صبري كان قد نفذ، وطفح بي الكيل. في نهاية المطاف كانت للوالي الكلمة الأخيرة: "أنا الوالي، وبمقدوري أن افعل ما أريد."
لا شك عندي إن ذلك صحيح جدا، ولكن لفترة قصيرة، وسيأتي يوم يختار فيه رجل آخر ليلعب دور الوالي، من قبل شخص يلعب دور الرئيس، وهكذا دواليك...ولكن ما هو الجديد في كل هذا؟ لقد رأيت ذات الشيء يحدث في واشنطن ولندن.