الثقافة السودانية اقل جدلا عند منصور خالد وأكثر وسامة وحضور عند عَبَد الله علي ابراهيم

 


 

 

 

اتيحت لي الفرصة هذا العام لزيارة معرض القاهرة الدولي للكتاب، بعد غياب دام عدة سنوات. كنت شديد الحرص علي قراءة توجهات الفكر العربي المعاصر من خلال الاصدرات والمؤلفات الجديدة بعد التحولات العميقة في المنطقة . لم يخرج المعرض عن التوقعات السائدة التي تم رصدها في تقارير التنمية البشرية ومسوحات معدلات القراءة وسط المثقفين في المنطقة العربية، اذ يقرأ المواطن العربي حوالي صفحة في كل العام. مقابل ثلاثون كتابا للفرد في بعض دول العالم. 

رغم التحولات العميقة في المنطقة الا ان الفكر العربي ما يزال هيابا من سبر غور هذه الظواهر والتحولات. اذ ما يزال يلجأ الناس لقراءة كتب التراث الاسلامي والعربي التي شهدت أقسامها اقبالا متزايدا في المعرض، كأن الناس يهربون عن أسئلة الحاضر ويلوذون بالتراث للحصول علي اجابات مقنعة من أئمة عصر التابعين . يلي الاهتمام بكتب التراث الإقبال علي كتب التراجم خاصة في موضوعات السياسية والتنمية الذاتية لا سيما من الكتب الصادرة باللغة الانجليزية ولاحظنا ضعفا في تراجم الكتب الصادرة باللغة الفرنسية.
رغم الاهتمام البالغ بالتراثيات والتراجم ، برزت الرواية ايضا كأحد مراكز الاهتمام الثقافي اذ تخصصت دور نشر وليدة في روايات الشباب، مع نزعة واضحة لثقافة السوشيال ميديا اي الوسائط الاجتماعية .
هناك نزوع واضح في الهروب من قضايا الواقع السياسي الراهن في المنطقة، اذ تكاد تنعدم الكتب التي تناقش بجدية قضايا وتحولات المنطقة بعد ثورات الربيع العربي وفشل النخبة العربية في ادارة التغيير.
ازداد المطبوع في نقد تجربة الاسلام السياسي، وبرزت مؤلفات ودور نشر جديدة تحاول ان تقدم بديلا فكريا لظاهرة التطرّف ومحاولة ربطه بالإسلام السياسي. وكذلك هناك خنوس في إصدارات الاسلام السلفي مع ترويج واضح لتيار عقلاني حداثوي راشد يبدو متصالحا مع قيم الحضارة الغربية.
وحسب ملاحظاتي المعرفية في ارجاء المعرض فان ادانة الاسلام السياسي وتجاوز ظاهرة الاسلام السلفي صحبه بروز لاحياء الروحانيات والفلسفة الاسلامية القديمة بما في ذلك التصوف الفلسفي.
كان الانتاج الثقافي والمعرفي في السابق جزء من حركة المجتمع ووعيه الذاتي ، لكن اصبح السائد الان اصطناع دور نشر تمولها الحكومات لمحاربة الفكر المغاير ، وتكاد تشم من جودة المطبوع ورخص ثمنه وبريق موضوعاته وصقل اوراقه ان هناك جهد فكري مبذول وثمن مادي مدفوع لإحالة الفكر السلفي و تمظهرات الاسلام السياسي الي متحف الاستيداع الفكري التاريخي من اجل محاربة التطرّف حسب الخطة المعلنة.
ويبقي السؤال هل احياء وبعث ادبيات التصوف الفلسفي والروحانيات ، و اختراط خيط فكري جديد تجاه الاسلام العقلاني والحداثوي والمتصالح مع القيم الغربية كفيل بإطفاء جذوة الاحتجاج والتطرف والعنف في المنطقة العربية؟
اكد لي باحث فرنسي متخصص في أزمات المنطقة ان المعادل الفكري الموضوعي لمحاربة التطرّف ليس احياء الفكر الفلسفي الصوفي في العقل التجريدي بل توفير العدالة الاجتماعية وفتح طاقة الأمل لجحافل الشباب الذين يشكلون الأغلبية في التركيبة السكانية القائمة للمشاركة الاجتماعية والسياسية الفاعلة واعطائهم دور مرموق في تشكيل خارطة المستقبل.
شهدت دار ( الرؤية) اللبنانية للنشر في معرض الكتاب اقبالا متزايدا من بعض السودانيين آملين الحصول علي نسخة من مذكرات الدكتور منصور خالد. واعتذرت دار النشر عن صدور المذكرات اثناء فترة المعرض من اجل مزيد من التدقيق والتجويد، ووعدت بنزول الكتاب الذي يتكون من اربعة اجزاء للاسواق في غضون هذا الشهر. ويتوقع ان تحظي المذكرات باهتمام كبير وسط المثقفين والقراء، اذ انها تحتوي علي اسرار كثيرة في تاريخ السياسة السودانية مدعمة بالصور والوثائق.
وفي حديث متصل مع الدكتور منصور خالد الاسبوع الماضي وانا ارمي في وجهه سؤال عن قسوة شهادته في بعض الشخصيات ذات الاثر في تاريخ السودان الحديث من مجايليه مثل الشيخ الراحل الدكتور حسن الترابي والامام الصادق المهدي قال انه لم ينزع لتجريح الأشخاص بل حرص علي تقديم الحقائق المجردة.
وفي رده علي تساؤلي بشأن الجدل الدائر في أوساط النخب بشأن موقعه التاريخي والفكري في كتابة المذكرات ولماذا يحب ان يختزل تاريخه في انه مجرد مؤرخ محايد لا يتحمل اي مسئولية تجاه مواقفه والاحداث التي ساهم في صنعها اثناء مايو او بعد انضمامه للحركة الشعبية؟
قال د. منصور خالد في رده علي تساؤلاتي انه لم يدع يوما انه مجرد مؤرخ سياسي محايد ، مؤكدا انه يتحمل مسئولية مواقفه التي اتخذها وانه قمين بإيراد الحقائق المجردة وعلي القاريء والمحلل ان يحكم بنفسه.
بدأ الجدل يصطرع علي موقف منصور من جديد قبل ان تصدر مذكراته ، وذلك يعود لشخصيته التي اثرت علي الاحداث وبعض الخيارات السياسية اثناء فترة مشاركته في مايو وبعد انضمامه للحركة الشعبية. لكن الأهم موقفه كمفكر تجاه ازمة النخب واعتوارات النهضة الوطنية وأسباب القعود والقنوط.
في سياق متصل بأمر الثقافة نجح الاستاذ والإعلامي الكبير الطاهر حسن التوم ان يفاجىء البروفيسور عبدالله علي ابراهيم في نهاية حلقته الحوارية معه في قناة سودانية ٢٤ عن الاستاذ عبدالخالق محجوب ان يستضيف داخل الاستديو وعبر الهاتف جماعة من المثقفين ليقدموا شهاداتهم علي الهواء مباشرة عن فكر وإسهام بروف عبد الله علي ابراهيم في اثراء الثقافة السودانية.
مثل المتحدثون اجيال مختلفة منهم من تلقي منه كفاحا في قاعات الدرس ومنهم من تتلمذ علي أفكاره في الفضاء الثقافي العام.
تحدث الدكتور الخضر هارون و الاساتذة عادل الباز وخالد موسي و غسان علي عثمان والسر السيد.
وقف الدكتور الخضر هارون علي جزالة اللغة التي تمازج بين الفصيح والعامي و مشروعه الثقافي الكبير ووفائه للاصدقاء والاُدباء مثل شيبون وعبدالله الشيخ البشير. وتحدث عادل الباز عن القيمة الأدبية في إنتاجه وكيف انه أعاد اكتشاف عبدالخالق وقدمه بصورة جديدة حببت اليه الجميع ، كما تحدث السر السيد عن مسرحياته و قصصه خاصة ( الجرح والغرنوق والسكة حديد قربت المسافات وغيرها). كما تحدث غسان علي عناية عبد الله علي ابراهيم بالوثيقة وشبهه بالمفكر الفرنسي ميشيل فوكو .
تحدثت من جانبي عن مشروع عبد الله الثقافي الذي أعاد الثقة في جذور الثقافة السودانية مستشهدا بمعارضته للمدرسة التاريخية التي روجت لتخليط وهجنة الهوية في تركيبة السودانيين منذ بي ام هولت وتلامذته والتي تطورت الي مدرسة الغابة والصحراء. وكذلك مساجلاته التاريخية مع ترمينغهام عن الاسلام في السودان. وقلت ان مشروع عبد الله هو استثمار في الوعي والهوية وانه كان باحثا عن تطور الوعي ليس بين النخب بل ايضا في مظان الحكمة الشعبية منذ كتابه عن بادية الكبابيش ( فرسان كنجرت). وقلت انه اشبه بغوستاف. لوبون وهو يبحث عن روح الثورة الفرنسية وان عبد الله في المقابل ظل يبحث عن روح الثقافة السودانية. وتداعت الاسئلة وكيف اتسم فكره بالموسوعية والتسامح واصبح ظاهرة ثقافية عابرة للأيدلوجيات والاجيال. وانه رغم خروجه الباكر من الحزب الشيوعي إلا انه لم يبصق علي تاريخه.
كانت جلسة عامرة بالمحبة والاحتفاء بالانتاج الفكري والاسهام الثقافي والحس الانساني للبروفيسور عبد الله علي ابراهيم، وقد ابدع الاستاذ الطاهر حسن التوم في ادارة الحوار الممتع ، كما تفوق في ابتداع هذه المبادرة للوفاء ببعض دين عبدالله علي الثقافة السودانية.
قال البروفيسور عبدالله في نهاية الجلسة انني لم أتعود ان اصمت كل هذا الوقت الطويل لانها جلسة استثنائية في عمري، وقال إنني احبكم ثم صمت...اذ ابتل رشرش العين بهواصر الشجن والعرفان والوفاء.
ارجو ان يتجاوز اليسار ادبيات البلشفيك والمنشقيك، وان يعطي البروف عبد الله علي ابراهيم قدره الأدبي والفكري الذي يستحقه بعد ان حرمه ان يكون مؤرخ الحركة الشيوعية في السودان.
التاريخ السياسي اكثر جدلا عند منصور خالد و الثقافة السودانية في عقل عبد الله علي ابراهيم اكثر وسامة وحضور كما قال محمد المكي ابراهيم.

kha_daf@yahoo.com

 

آراء