الثورة والعسكر

 


 

 

بسم الله الحمن الرحيم

عقد الفأر والقط اتفاقاً مكتوباً وموثقاً، وبموجبه امتطي الفأر ظهر القط ليقطع البحر؛ وفي منتصف المسافة ظهرت علامات الضيق والتبرم لدى القط، فطنطن قائلاً: يازول بتكتّح مالك؟ بيد أن الفأر آثر الحوار الهادئ وطول النفس، ورد قائلاً: أولاً، ياخى ما كاد الحبر يجف على اتفاقنا المشهود؛ وثانياً، أنّى لي بالتراب وأنا في لجة البحر؟ وثالثاً.... وقبل أن يتم حديثه انقض عليه القط مطنطناً: هو بلا فلسفتكم دى البخلينا ناكلكم شنو؟
وتجدني اتذكر هذه القصة كلما رد المجلس العسكري على مناديب الحرية والتغيير بتحفظات لا تخطر على البال، كأنها تخرج من جراب الحاوي، أو بتصرفات تبعث على الريبة، مثل المؤتمرات الصحفية بسبب وبلا سبب، والإدعاء بأن قوى التغيير ليست وحدها في الميدان، وأن ثمة ممثلين لألوان الطيف الأخرى يستحقون الأخذ في الاعتبار؛ وما هم في الواقع إلا الفلول وشراذم الانتهازيين العالقين بأهداب النظام المندحر. وعندما يحاجج المجلس العسكري بأن الأمر مسؤولية وطنية حساسة لا يستطيع الإضطلاع بها إلا الجيش، فهو إنما ينطلق من العقيدة الزائفة بحتمية حكم العسكر التى ترسخت بعد اثنين وخمسين سنة من حكمهم فيما بعد الاستقلال. والمسألة كلها عبارة عن مماطلة وتطويل وكسب زمن وتشبث بالسلطة التى يقول عنها المثل القديم: (إذا فاتتك السلطة "الميري"، تمرغ في ترابها)؛ وهي لا تختلف كثيراً عن قصة المرأة التى طلقها زوجها فقالت له: (حسناً، لا مانع لدي، ولكن دعنى أقضى معك باقي هذا الشتاء).
بيد أن الحقيقة المتلألئة في سماء الخرطوم أن البلاد تمر بثورة نادر مثلها في التاريخ، وحق ملكيتها خاص بشعب السودان العبقري العفوي المبدع المعلم، وهي تنطوى على معان غائبة عن الرجعيين والتقليديين وأذناب وربائب الاستعمار، وتنطوى على مكتسبات لا تراجع عنها، مثل تحدى وإلغاء قوانين الطوارئ، والمقدرة على تنظيم مسيرة من ثلث سكان البلاد في زمان ومكان محدد متى ما قرر تجمع المهنيين ذلك. ولقد تأكدت لدي هذه القناعة قبل أسبوعين عندما جاء فنان الراب (ماو) من أمريكا، وحل بالمسرح المنصوب أمام القيادة العامة؛ إذ تلفت يمنة ويسرى وشاهدت منظراً لن يتكرر إلا يوم القيامة، وسألت مهندساً في تقنية المعلومات: كيف تستطيع أن تحصى عدد الحضور، فقال لي إن ذلك قد تم بالفعل، وذلك بتسجيل المشتركين في الواتساب لدى شركة زين بين السادسة والعاشرة مساء، بمساحة تمتد من كبري التيل الأزرق حتى موقع المسرح أمام
2 / 3
بوابة البحرية، وببساطة شديدة اتضح أن عدد ةالمشتركين، وبالتالي الحضور، بلغ إثنتي عشرة مليوناً؛ وفي نفس هذه الأثناء كانت هناك حشود مماثلة بجميع حواضر ومدن السودان المختلفة، وهي ما انفكت مستعدة لرفد الحشود الموجودة أمام رئاسة الجيش.
وتماماً مثل الثورة الفيتنامية والكوبية، فإن عملية التوعية السياسية والاجتماعية تسير جنباً إلى جنب مع الحراك الثوري اليومي، فهؤلاء الشباب المرابطون بإصرار عجيب بمسالك ودهاليز وجنبات رئاسة القوات يدركون ماذا يريدون، وملمون بتاريخ الانتفاضات السودانية السابقة، وبكيفية إجهاضها وارتدادها، وبتاريخ الثورات الحديثة بالمنطقة وبكافة أرجاء العالم، وبضرورة الاستفادة من ثغراتها وأخطائها، وبماهية المرحلة الإنتقالية ومواقيتها، وتفاصيل الترتيبات الدستورية التى ستحكم البلاد حتى الإنتخابات العامة، وما هو الدستور الرئاسي والدستور البرلماني، وما هي الوحدة في التنوع، وما هي مفردات السلام الذي يريدونه للمجتمع ولمناطق النزاع.
فلا يحسبن دهاقنة المجلس العسكري ومحرضوهم والسماسرة والبصاصون والوزراء المتربصون أن هؤلاء الشباب يمكن استغفالهم بأساليب اللف والدوران وال delay tactics وغير ذلك من الثعلبيات والبهلوانيات shenanigans. وإذا رايت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث يبتسم؛ وترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثيابه أسد هصور! وقال أبو الطيب كذلك : وجاهل مده في جهله ضحكي حتى أتته يد فراسة وفم! ومهما استطال الإنتظار أمام رئاسة القوات، أرجو أن أؤكد لكل من يهمهم الأمر أن النتيجة واحدة لا ريب فيها، وهي قيام مجلس سيادة مدني بتمثيل عسكري محدود وبرئيس مدني، ومجلس وزراء من الخبراء الوطنيين الذين لم يتعاونوا مع الدكتاتورية المدحورة، ومجلس تشريعي من الوطنيين النظيفين أيضاً من كل ألوان الطيف والمناطق، وبه تمثيل واضح للشباب والنساء؛ وكل ذلك لإدارة الفترة الإنتقالية ذات الأربع سنوات التى سيتم خلالها إحلال السلام بالبلاد وإعادة توطين اللاجئين والمشردين وإسعاف الإقتصاد وتفكيك دولة الحزب الواحد وإعادة صياغة الإعلام والتعليم والأجهزة الأمنية....إلخ.
إن الفريق أول برهان شخصياً وزميله الفريق أول حميدتي يقفان إلى جانب الشعب، كما تشير كل الدلائل وكما تؤكد مواقفهما التى قادت لإنزال كل من البشير وخلفه ابن عوف؛ ولكن التلكؤ الذي أصاب المجلس العسكري طوال الشهر المنصرم يجعلنا نحس بأنهما يتعرضان لضغوط محلية وخارجية لا تحتاج لدرس عصر؛ فهذه الثورة مرشحة لطرح فكر ثوري جماهيري جديد غير مألوف بالمنطقة، شاءت أم أبت، وسوف ينهض السودان بلداً سوياً ذا سيادة وكرامة، ساعياً للتقدم الإقتصادي والتحول الاجتماعي، ويستطيع في زمن قياسي أن يلحق بركب الدول الناهضة والجادة والساعية للنجاح، إذا تذكرنا ما تذخر به البلاد
من موارد بشرية ومادية ومن أراض صالحة للزراعة ومن فرص غير عادية للاستثمار وافتراع المشاريع الإنتاجية الجبارة للمحاصيل واللحوم والصناعات التحويلية مثل النسيج وزيوت الطعام. وهنالك بكل أسف دولا تريد أن ترى السودان دائماً كالرجل المريض صاحب اليد السفلى، الذى لا يهش ولا ينش. ولكن من الواضح تماماً أن العد التنازلي قد بدأ ولن يتوقف: العد الخاص بإبادة دولة وفكر الإخوان المسلمين من الوجود، والخاص بنهوض السودان الجديد الذى يسع الجميع، والذى يستوعب كل التناقضات والتشكيلات العرقية والمناطقية التى يتألف منها السودان؛ كما سيتم حلحلة كل المشاكل والتوترات بمناطق النزاع في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق. ليس ذلك فحسب، فإن الجنوب الذى فرط فيه نظام الإخوان المسلمين سيعود لحضن الوطن تحت ترتيبات كنفدرالية مرضية لكل الأطراف. وهكذا، فنحن موعودون بسودان byالحرية والسلام والعدالة، وأرى أن الفريقين المذكورين جزء من هذه النجاحات ومن هذه الدولة الجديدة التى أوشك فجرها أن ينبلج. والسلام.

///////////////////////

 

آراء