“الجزيرة” تخفض التصنيف الائتماني للنظام السوداني

 


 

 




(1)

ظلت الاتهامات تكال لقناة "الجزيرة" بأنها المسؤولة عن تأجيج الثورات العربية. ويبدو أن "الجزيرة" ليست وحدها في هذا المجال، حيث نجد أن تهمة "قنوات التحريض" عند النظام السوري وشبيحته قد امتدت لتشمل معظم القنوات الفضائية، معا عدا التلفزيون السوري الرسمي وبضعة قنوات أخرى مرتبطة بالنظام. وبالمقابل، تتهم المعارضة السودانية "الجزيرة" بأنها تميل إلى جانب النظام أكثر، ولا تعطي تحركات المعارضة حقها.


(2)

يذكرنا هذا بالمشادات الأخيرة في فرنسا ودول أوروبية أخرى حول قرار هيئة تصنيف الائتمان "ستاندارد آند بوور" خفض التصنيف الائتماني لفرنسا وعدة دول أوروبية، حيث استمعنا إلى نغمة مشابهة، بدءاً من الاحتجاج على القرار والدفع بأنه غير مبرر، والتساؤل عن السبب في "استهداف" فرنسا، بدلاً من دول أخرى مثل بريطانيا، حيث الاقتصاد يمر بظروف أسوأ بحسب القادة الفرنسيين، وأخيراً التهوين من الأمر والاستخفاف به. فمن الذي يلقي بالاً إلى ترهات "هيئات التحريض" ذات الأجندة الخفية التي تخدم "مصالح أجنبية". (لا يمكن اتهام أمريكا هنا، لأن تصنيفها خفض قبل فرنسا!)

(3)

في الحالين، تصب الجهة المعنية جام غضبها على الرسول الذي ينقل الخبر غير السار. ولا شك أن "الجزيرة" غير مسؤولة عن قيام الثورات مثلما أن هيئات التصنيف لم تسبب الأزمات الاقتصادية في أوروبا، إلا بقدر ما يكون الثرموميتر مسؤولاً عن ارتفاع درجات الحرارة وانخفاضها. صحيح أن إعلان التصنيف المنخفض يعقد من الأزمة المالية، لأن المصارف تعتمده في تحديد قيمة الفائدة على الديون، وحتى على قرار تقديم القرض من عدمه.


(4)

هناك إذن علاقة دينامية بين إعلان قرب إفلاس دولة، أو شركة أو نظام، وبين الانهيار الفعلي. ذلك أن المؤسسات التي تواجه خطر الإفلاس كثيراً ما تمارس الإنكار وخداع النفس، وقد تجنح إلى إخفاء المعلومات والتلاعب بالأرقام والسجلات أملاً في تجاوز الأزمة قبل أن يعرف بها الآخرون. ولكن مثل هذه التكتيكات تزيد الوضع سوءاً، كما شهدنا في الأزمة الاقتصادية التي ضربت أمريكا عام 2008، وتهدد العالم كله اليوم. ذلك أن محاولات المصارف المأزومة التلاعب بحساباتها أدى إلى توريط جهات أخرى كثيرة لا علاقة لها بألاعيب هذه المصارف، ثم جر الدول إلى الساحة، والآن يدفع الجميع تكاليف ذلك التلاعب. ولو أن تلك الخدع كشفت مبكراً، لكانت الكلفة على الجميع أقل بكثير. وهذا بدوره يعزز من دور مؤسسات التصنيف كجهاز إنذار مبكر.

(5)

من هذه الزاوية، فيمكن اعتبار توجه الجزيرة خلال الأسبوعين الماضيين إلى "فتح الملف السوداني" بمثابة تخفيض عملي للتصنيف الائتماني للنظام السوداني. فخلال هذا الأسبوع عقد مركز الجزيرة للدراسات ندوة حول السودان، وناقش برنامج "الاتجاه المعاكس" احتمالات تفجر انتفاضة شعبية في السودان في حضور معارض شرس ومسؤول متوسط الأداء، بينما كانت هناك تغطية أخبارية مكثفة لمذكرة الإسلاميين الناقمين على أداء حزبهم الحاكم. وقبل ذلك كانت هناك تغطية لانتفاضة المناصير التي توشك أن تدخل شهرها الثالث، ولتطورات الأوضاع في دارفور وولايات النيل الأزرق وجنوب كردفان، حيث لا تزال الحروب مشتعلة. وحينما توجه "الجزيرة" هذا القدر من مواردها إلى جهة محددة، فهذا يعني أن القناة بدأت تشتم رائحة الحريق.

(6)

هناك بعض الصحة في انطباع المعارضة بتعامل "الجزيرة" الحذر تجاه النظام، فالطرق بين الدوحة والخرطوم سالكة، وقطر منهمكة بهمة في تسوية قضية دارفور في شراكة كاملة مع النظام. إلا أن هذا ليس هو المبرر لعزوف "الجزيرة" عن تسليط كاميراتها على السودان حتى الآن، فعلاقات الدوحة ودمشق كانت أيضاً طيبة قبيل الثورة. وبالمقابل فإن "الجزيرة" تلكأت في تغطية الثورة المصرية والتحضيرات لها تحديداً لتدفع عن نفسها التهمة بالتحامل على نظام مبارك بسبب الود المفقود بين القاهرة والدوحة.

(7)

إذا درجت هيئة تصنيف ائتمان على إطلاق الأحكام جزافاً فإنها سرعان ما تفقد صدقيتها وتنهار قبل المؤسسات التي تتولى تقييمها. نفس المصير سيواجه بلا شك أي مؤسسة إعلامية تبني أحكامها على المزاج والتحيز، لا التحليل الدقيق للواقع. وما يعطي مواقف "الجزيرة" صدقية، ويخيف من تستهدف، هو أنها تعمل، في نهاية المطاف، ورغم بعض الهنات، بحرفية. صحيح أنها تنحاز بقوة إلى جانب الشعوب الثائرة، ولكنها لو لم تفعل، هل كنا سنتابعها؟ يكفي أنها ما تزال تمارس التعذيب في حق المشاهدين بإعطاء منابرها لشبيحة النظام السوري الإعلاميين لترويج أكاذيبهم التي تؤلم المستمع حتى العظم، بدعوى إسماع الرأي الآخر.


(8)

الإشكال لم يكن إذن في "الجزيرة"، الملزمة بالمحافظة على صدقيتها، ولكن في تأخر وضعف تحركات الشارع السوداني. فالمظاهرات القليلة التي تحركت في السودان منذ يناير 2011 لم تكن تدوم الوقت الكافي حتى تصل سيارة التغطية من مكاتب "الجزيرة" إلى موقع التظاهر. وقد نشرت روايات عن المظاهرات الطلابية التي نظمت في العاصمة لدعم اعتصام المناصير في ولاية نهر النيل تقول بأن غالبية المواطنين كانت تسارع بالفرار من موقع التظاهر. أي أن الغالبية ما تزال تخشى مجرد التفرج على عمل احتجاجي، ناهيك عن المشاركة فيه!

(9)
إذن "الجزيرة" لم تتأخر عن ساحات الثورة السودانية المرتقبة، وقد تكون بكرت قليلاًَ. فالثورات لا يمكن تبكير موعدها كما لا يمكن تأخير اندلاعها، فهي كالثمرة الناضجة، تسقط في الوقت المناسب. وقد كانت الثورات السودانية السابقة، مثل الثورات العربية الجارية، مفاجأة لمن نظموها تماماً كضحاياها. وبالمقابل فإن التحركات التي أدت لثورة مصر بدأت بمظاهرات دعم الانتفاضة الفلسطينية عام 2000، ومظاهرات حرب العراق عام 2003، ثم حركة كفاية عام 2004. وعلى كل فإن تخفيض الائتمان لا يعني الإفلاس الفوري، ولكنه يشير إلى حتمية الإفلاس ما لم تحرك أرصدة ضخمة لدعم المؤسسة التي تتداعى.


(10)

الخرطوم لن تجد من يمنحها قروضاً سياسية، لأن تصنيفها الائتماني كان متدنياً سلفاً، ولأنها بعثرت آخر قرض سياسي سخي تلقته، متمثلاً في اتفاقية السلام الشامل وما أسبتغته على النظام من شرعية انتقالية لم تستثمر كما ينبغي. وقد بلغت بها حالة الإفلاس أن أخذت تستجدي رصيد معارضيها، وتستثمر أسماء أبناء قادة الأحزاب الطائفية حتى تغطي العجز الفادح في رصيدها السياسي. ولكن يبدو أن ما يحتاجه النظام الآن هو سياسة "تقشف سياسي" مؤلمة جداً.

Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]

 

آراء