الجهاد والحروب الصليبية في السودان من 1881م – الآن (1) .. ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
الجهاد والحروب الصليبية في السودان من 1881م – الآن (1)
Jihads and Crusades in Sudan from 1881 to the Present (1)
Heather Sharkey هيزر شاركي
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص للجزء الأول من مقال الدكتورة الأميريكية هيزر شاركي نشر ضمن كتاب من تحرير سهيل هاشمي كان قد صدر عن دار نشر جامعة أكسفورد في عام 2012م تحت عنوان: "الحروب العادلة والحروب المقدسة والجهاد: مواجهات وتبادلات المسيحيين واليهود والمسلمين"
"Just wars, holy wars and jihads: Christian, Jewish and Muslims encounters and exchanges"
ويدور المقال حول الأسئلة العسيرة التي نتجت عن تاريخ طويل من الانتصارات والثورة والحكم الاستعماري بالسودان، وعن الصراعات بين الاسلام والمسيحية فيه، وبين المسلمين أنفسهم حول طبيعة الحكومة الإسلامية والمجتمع.
تعمل الكاتبة (الحاصلة على درجة الماجستير من جامعة درم البريطانية، والدكتوراه من جامعة وبريستون الأمريكية) أستاذة مشاركة بقسم لغات وحضارات الشرق الأدنى في جامعة بنسلفانيا حيث تقوم بتدريس تاريخ ولغات وحضارات الشرق الأوسط والأدنى. ولها عدة كتب ومقالات عن السودان ومصر منها كتاب "العيش مع الاستعمار: الوطنية والثقافة في السودان الإنجليزي المصري"، وكتاب "الإنجيليون الأمريكيون في مصر" و"الهوية والمجتمع في الشرق الأوسط المعاصر" و"تاريخ الصحافة العربية في السودان". وكنت قد عرضت بالترجمة والتلخيص لعدد من كتابات الدكتورة شاركي في مقالات سابقة منها مقال بعنوان "سجلات التقدم: نساء شمال السودان في عهد الإمبراطورية (الإمبريالية) البريطانية".
المترجم
***** *********** ********* ********
بدأ أول جهاد في تاريخ السودان الحديث في عام 1881م عندما صرح عالم من شمال السودان اسمه محمد أحمد (1844 – 1885م) بأنه "المهدي"، وأعلن الجهاد ضد النظام التركي – المصري، الذي حكم السودان منذ أيام محمد علي، حاكم مصر العثماني، وأمر بغزوه في عام 1820م. واعتمد المهدي في دعوته على معتقدات المسلمين الشائعة عن ظهور "مهدي منتظر" في آخر الزمان، وعلى المظالم التي حاقت بالسكان من ذلك النظام وكثرة الشكوى منه، وتجمع حوله لذلك الكثير من الأنصار. وألحق المهدي وجنده هزائم متلاحقة بقوات الحكم التركي – المصري، انتهت بسقوطه بعد حصار الخرطوم في 1885م، وبمقتل شارلس غردون، حاكم عام (حكمدار) البلاد البريطاني المسيحي الورع. وساهم قتل غردون في دفع المسيحيين البروتستانت في بريطانيا لدعم حركة متنامية في أوساط المبشرين البروتستانت كانت تنادي الحكومة البريطانية (في عصر إمبرياليتها الجديدة) بالقيام بحملات عسكرية ضد "قتلة غردون".
وتوفي المهدي فجأة بعد سقوط (تحرير) الخرطوم في 1886م، وألقي عبء تنظيم الدولة المهدية بعد موته على عاتق خليفته عبد الله (الذي حكم بين عامي 1886 و1898م). وبقيت الحكومة البريطانية تنظر للسودان من خلال منظار مصر، التي كانت قد احتلتها في 1882م. واعتمدت الحكومة البريطانية في غزوها للسودان على المناداة (المحلية) الشعبية الواسعة لإعادة احتلال ذلك البلد، وعلى "التكالب نحو أفريقيا" الذي كان سائدا عند بعض القوى الاوربية الكبرى آنذاك. واستخدمت بريطانيا لإنزال هزيمة ساحقة بجيش المهدية تقنيات حديثة منها مدفع المكسيم وخطوط السكة حديد، ثم ابتدعت نمطا فريدا في الحكم أسمته "الحكم الثنائي" لتثبت ظاهريا أن مصر شريكتها في حكم السودان، بينما بقيت هي الحاكم الفعلي للبلاد حتى عام 1956م.
ولعب "التعصب" المسلم / الإسلامي (Muslim “fanaticism”) دورا في التأثير على السياسات الاستعمارية فيما يتعلق بالتعليم والإدارة والصحة العامة. وربما يمكن القول بأنه لعب دورا أيضا في تشكيل افتراضات (assumptions) عن الإسلام في أوساط أفراد البعثات التبشيرية (البروتستانتية والكاثوليكية) التي تقاطرت على البلاد عقب الغزو الاستعماري.
وقامت بريطانيا في الفترة التي سبقت نيل السودان للاستقلال (في منتصف الخمسينيات) بنقل إدارة البلاد إلى مجموعة صغيرة من صفوة الوطنيين السودانيين المتحدثين باللغة العربية، من ذوي التعليم العالي والمرتبة الاجتماعية الرفيعة، كان كثير منهم من أبناء وأحفاد أنصار المهدي. ودفع التخوف من عدم عدالة عمليات انتقال السلطة ببعض الجنوبيين للقيام بتمرد في الجنوب قبل شهور قليلة من إعلان الاستقلال سميت لاحقا "الحرب الأهلية الأولى" والتي استمرت من عام 1955 إلى 1972م، بينما أطلق على الحرب التي دارت بين عامي 1983 و2005م "الحرب الأهلية الثانية". وفي عام 1958م أنهى انقلاب عسكري فترة قصيرة من الحكم البرلماني حكمت فيه الأحزاب تحت رعاية الطائفتين الدينيتين الكبيرتين. وحكمت البلاد من بعد ذلك لنحو نصف قرن بنظم عسكرية، وقامت في تلك الفترة عدة حركات "تمرد" ضد سياسات حكومة المركز في أطراف البلاد في الجنوب والشرق والغرب.
ويجمع الكثيرون على أن حروب السودان الأهلية تتميز بالتعقيد وتعدد الأوجه. غير أن الإعلام الخارجي كان يصف تلك الحروب مجتمعة في تبسيط مخل بأنها حرب واحدة بين العرب المسلمين في الشمال والأفارقة المسيحيين في الجنوب. ولا يخلو هذا التوصيف بالطبع من تضليل لأنه يركز ويؤكد على نوع من الكراهية العرقية أو الدينية أو العنصرية، بينما يقلل من المعارك والصراعات التي دارت على السلطة، وعلى مصادرها التي تقبع في جذر الصراع. وفي وسط تلك الصراعات كانت تعلو بين حين وآخر أصوات الخطاب الجهادي. وظهرت تلك الخطابات الجهادية (jihadist discourses) في غضون سنوات حكم الكثير من الأنظمة التي تعاقبت على حكم السودان من قبل، غير أنها كانت الأعلى صوتا في عهد النظام الإسلاموي الأيديولوجيّة (بين 1989م – الآن)، وأتت لتبرير هجمات الحكومة المركزية على الخارجين على الدولة في المناطق الطرفية.
ولئن برز شيء واحد من كل هذا التاريخ المتطاول، فهو الذي يشي بأن الجهاد والحروب الصليبية لم تكن سوى أفعال تأسيسية ذاتية عنت بها تلك الجماعات تأكيد كيانها والتعريف بها أكثر من أنها كانت صولات للإيقاع بالأعداء. لقد انطوت تلك الحروب "المقدسة" على تأكيدات للسلطة، وكانت تنادي أحيانا بالتغيير بين المجتمعات الدينية، وفي أوساطها أيضا. ولم يقم – فيما يبدو- المسلمون والمسيحيون في داخل السودان، ولا المراقبون في خارجه بملاحظة أو فهم أو تقدير أهمية تلك الجوانب في الحروب "المقدسة" التي جرت بالسودان الحديث.
الجهاد والمشاعر المعادية للمسيحية والثورة المهدية
خلافا لما أشاعه الكتاب البريطانيون في نهايات العصر الفيكتوري من تلميحات، فقد كان البعد المضاد للمسيحية في جهاد المهدية ضئيلا. ورصد نعوم شقير (سوري – لبناني عمل في قسم المخابرات منذ عام 1900) في كتابه الذي صدر في عام 1903م بعنوان "جغرافية وتاريخ السودان" العوامل التي ألهمت الحركة المهدية ودفعتها لحمل السلاح. وفوق كل ذلك كان السودانيون قد بغضوا ظلم وتسلط واضطهاد الحكم التركي – المصري لهم، وأرهقتهم الضرائب الفادحة، والسياسات التي خالفت ما كانوا قد ألفوه، مثل منع تجارة الرقيق، إذ كانوا يعتمدون على الرقيق بصورة شبة كاملة في الأعمال الزراعية، ويعدونه جزءً من "النظام الاجتماعي الإسلامي"(رغم أن الحكم التركي – المصري في أواخر سنواته كان قد أعلن عن سياسة لمحاربة ومنع تجارة الرقيق، إلا أن تجارة الرقيق كانت قد ازدهرت بالفعل في غالب سنوات حكمه للسودان. المترجم). ولم ينس السودانيون أيضا ما فعله جنود الحكم التركي – المصري بمن قاوم غزوهم للبلاد، ومحاباتهم وتفضيلهم لمجموعات معينة من السكان، وما حدث من ضيق اقتصادي لصغار المزارعين والتجار، وتهجير كثير منهم لمناطق أخرى، إضافة لسياسة الحكومة الاحتكارية، وإدخال العملات النقدية في البلاد. وضاق السودانيون كذلك برقة دين الإداريين الترك والمصريين المسلمين، وفسوقهم (أوردت الكاتبة هنا المثال المشهور عن عقد قران رجل مثلي على غلام في الأبيض، الأمر الذي أثار غضب المهدي وثلة من علماء الدين، ولما احتجوا على ذلك للحاكم المصري لم يجدوا منه إلا الاساءة والتقريع. المترجم).
وكان أشد ما ساء المسلمين السودانيين هو تعيين الحكم التركي – المصري في سبعينيات القرن التاسع عشر لإداريين أوربيين مسيحيين ويهود في وظائف مهمة، الأمر الذي كانوا يرونه مخالفا لتعاليم الدين الإسلامي الذي يحرم حمل غير المسلمين للسلاح في المجتمع الإسلامي. فقد عين غردون في أعالي النيل وحدها أميركيين وإيطالي وفرنسي وخمسة بريطانيين. وعين النظام التركي - المصري أيضا في مناطق أخرى أمريكيين كانوا قد شاركوا في الحرب الأهلية الأمريكية، ووجدوا أنفسهم بلا عمل عقب نهاية تلك الحرب.
ورغم كل ذلك فلا يوجد لدينا دليل قاطع على أن المهدي كانت له شكاوى أو مظالم من غردون على وجه خاص، أو أنه كان يعرف عنه الشيء الكثير. ويبدو أن غردون كان حاكما جيدا في الفترة في 1877 و1880م، فقد غير من السياسات التي كانت قد همشت قادة الطرق الصوفية، وصار أكثر قبولا للإسلام "السوداني"، وعمل على تعيين عدد من السودانيين ضمن طاقمه الإداري، ووضع صندوقا للشكاوى والاقتراحات قرب مدخل قصره في محاولة رمزية لجعل الحكومة تبدو أكثر استجابة لمطالب السكان المحليين. وعلى الرغم من ذلك انزعج السودانيون من ظهور غير المسلمين ضمن حكام النظام التركي – المصري في سبعينيات القرن التاسع عشر لأن ذلك كان في نظرهم بداية مقدم استعمار غربي. فعندما أعلن محمد أحمد أنه المهدي في 1881م، كانت 51 سنة قد مرت منذ أن غزا الفرنسيون الجزائر واستوطنوا فيها، ومرت ست سنوات فحسب قبل سيطرة اتحاد (كونسورتيوم) مصارف بريطانية وفرنسية على مالية واقتصاد وديون مصر والخلافة العثمانية (التي اسموها "رجل أوروبا المريض")، وأربعة سنوات على إعلان الملكة فيكتوريا نفسها إمبراطورة على الهند. وفي تلك السنوات أعطت بريطانيا نفسها الحق في "تأمين" قناة السويس وطرق الملاحة إلى الهند. وكانت أنباء تلك التطورات الجارية في العالم تصل لمسامع السودانيين من العاملين بالتجارة بين مصر والحبشة والسودان، ومن الحجاج العائدين من مكة.
ولا يمكن أن نعد المعارك التي خاضها الخليفة عبد الله ضد الحبشة (اثيوبيا) دليلا على أن الجهاد المهدوي كان جهادا (صريحا) ضد المسيحية. صحيح أن الخليفة كان قد هلل في 1889م لمقتل الإمبراطور يوحنا الرابع في أحد تلك المعارك التي خاضها ضده، بحسبانه انتصارا للإسلام. غير أنه يجب إدراك أن الانتصار المهدوي على الحبشة كانت له أهداف عملية تتعدى الإيديولوجية، وله علاقة بتحديد الحدود السودانية – الإثيوبية (والتي ظلت غير محددة منذ سنوات طويلة)، وبالحفاظ على تبادل تجاري مستقر معها، وفي ذات الوقت سعى لتحديد الحدود مع "مصر المسلمة". وكان المهدويون يسمون كل معارضيهم "كفارا"، سواء كانوا مسلمين (مثل رجال السلطة الأتراك والمصريين) أو مسيحيين (مثل امبراطور الحبشة). وكانت دعوة الجهاد ضد "الكفار" عندهم تبرر الاستيلاء على الغنائم، وتدعيم خزينة الدولة (بيت المال) في وقت اشتدت فيه عزلة نظامهم، وقلت تبادلاتهم التجارية، وغدوا في أَمَسِّ الحاجة للمال.
وأيد من مكة الشيخ أحمد بن زيني دحلان (1817-1886 م، وهو ليس بسوداني ولا مؤمن بمهدية محمد أحمد) معارك أنصار المهدي ضد قوات المسحيين الغربيين، التي بدأت في التقدم لاحتلال أراضي الإمبراطورية العثمانية. وكان يرى في معارك المهدية دعما للعثمانيين. غير أن معرفة ومعلومات الشيخ دحلان عن الحركة المهدية كانت مغلوطة. فقد كانت معارضة مقدم الاستعمار الغربي واحدة (وواحدة فقط) من مصادر نشاط المهدية وحركيتها (Mahdist activism)، خاصة في سنواتها الأولى بين عامي 1881 و1885م. وكانت معارضة المهدية للاستعمار التركي – المصري أكثر أهمية في اشعال جذوة "الجهاد" ومواصلته. (يمكن الاطلاع على مقال مترجم لكاتبة هذا المقال بعنوان "الفتوحات الإسلامية لأحمد زيني دحلان: نظرة معاصرة للمهدي السوداني". المترجم).
طبيعة وأهداف وتأثير جهاد المهدية
كان هدف حركة المهدية الأبعد هو إصلاح الاسلام من الداخل، بإقامة دولة إسلامية، ومحو العادات والممارسات الشائعة، التي كان المهدي يعدها لا تمت للإسلام بصلة. وبهذا الفهم، يمكن أن نعد حركة مهدي السودان واحدة من حركات الإصلاح الإسلامية التي ظهرت في أفريقيا المسلمة في غضون سنوات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، مثل الحركات الجهادية لعثمان دان فوديو (1754 – 1817م) والحاج عمر سعيد تال الفوتي (1797 – 1864م) في غرب أفريقيا، إذ أن الحركة المهدية كانت معنية في الأساس بمعارك في أوساط المحيط الإسلامي حول توجه الثقافة الإسلامية وفلسفتها وإدارتها للدولة. وكان لها أيضا بعدا قوميا / أهليا (nativist) قويا، تمثل في أنها كانت تعطي الأولوية لحكم إسلامي محلي.
وكان العرب قد بدأوا في إدخال الإسلام للسودان عبر الحدود المصرية – السودانية الحالية في عام 651م. وكان ذلك العام هو العام نفسه الذي انتصر فيه العرب على آخر شاه لإيران الساسانية. غير أن الاسلام انتشر في إيران بأسرع كثيرا مما فعل في السودان، وظلت المسيحية قائمة في أرض النوبة إلى عام 1315م، حين ظهرت مملكة الفونج المسلمة (ظهرت دولة الفونج في 1504م. المترجم). ثم ظهرت أيضا مملكة مسلمة أخرى هي الكيرا بدارفور في 1600م. ووفرت المملكتان السودانيتان الاستقرار السياسي الكافي الذي شجع تجار القوافل والراغبين في الحج بغرب أفريقيا من السفر لمكة عبر السودان، عوضا عن السفر عبر الصحراء لشمال أفريقيا. وسبق للباحث السوداني محمد أحمد الحاج في بحث منشور له عام 1967م بمجلة Research Bulletin, Centre of Arabic Documentation أن قال بأن حجاج غرب أفريقيا بخلافة سوكوتو ربما كانوا هم من بثوا أفكار ظهور "مجدد الدين" وتوقع ظهور "المهدي" في عقول السودانيين.
وركزت الاصلاحات الناتجة عن جهاد المهدية على التطبيق الحازم للقوانين والممارسات والإدارة الإسلامية. ووضح ذلك في منشورات وفتاوى ورسائل وإنذارات المهدي (وبدرجة أقل الخليفة عبد الله). واستخدم المهدي والخليفة تلك النصوص في تبرير وتكريس قيادتهما، وإعلان قواعد السلوك الاجتماعي فيما يخص الزواج والطلاق وسماع الموسيقى وغير ذلك، وكذلك في التعيينات (الجديدة)، وإصدار الأحكام والأوامر للجيش وبيت المال وبقية أجهزة الدولة. وكانت الدولة المهدية، على الجملة، تفرض القوانين الاسلامية لتنظم سائر وجوه الحياة اليومية للفرد والمجتمع. ولذا قارن بعض الكتاب (مثل جبريل واربورج) دولة المهدية بدولة السودان الحديث بعد عام 1989م، خاصة فيما يتعلق بالقوانين المتعلقة بالسلوك الشخصي و"المظهر العام".
وتوجد في الجهاد المهدوي أيضا حرب داخلية من أجل الظفر بالسلطة والقيادة، مما شكل تهديدا مباشرا للطرق الصوفية المحلية، والتي صنعت لنفسها بنية سلطوية واضحة المعالم. لذا لا عجب أن كانت أكثر الفئات السودانية معارضة للدعوة / الحركة المهدية هي الطرق الصوفية، التي أبت في اصرار أن تبايع المهدي. ومن تلك الطرق برزت الطريقة الختمية وافراد عائلة الميرغني الذين كانت لديهم علاقات قوية بمصر والحجاز، وكانت لديهم أيضا أفكار إصلاحية من صنف آخر، وصفها فول وأوفاهي بـ "الصوفية الجديدة".
وتعقدت سياسة المهدية الداخلية بظهور اختلافات وانقسامات قبلية وجهوية، وتنافسات اقتصادية. وظهرت هذه الخلافات بين أنصار المهدية ممن يسمون "أولاد البلد" في المناطق النيلية بشمال السودان (وكان بعضهم من أقرباء المهدي) وبين البقارة الرحل في غرب السودان (وكان بعضهم من أقرباء الخليفة). وكان للمهدي والخليفة استراتيجيتين لكبح اعدائهما، واحباط التمرد على سلطتيهما. فقد أعلن المهدي للكافة عن إبطال اتباع أي طريقة صوفية (رغم أن ذلك لم يجعل الناس يهجرون طرقهم الصوفية، فقد ظلت تلك الطرق موجودة، بل انتشرت أكثر لاحقا). وحدد المهدي طريقة واحدة للذكر هي راتبه، وذلك ما جعل طريقته متميزة عن الطرق الأخرى. واتخذ الخليفة سياسة التهجير (القسري) وإعادة التوطين في العاصمة الجديدة أم درمان، والتصاهر بين القبائل كحل لقضية الاختلافات القبلية. واختلف المؤرخون السودانيون حول مدي نجاح سياستي المهدي والخليفة تلك. فقد رأى بعضهم بأن سياسة الخليفة افلحت في خلق "وحدة وطنية" عن طريق ضم القبائل بروابط المصاهرة والدم، واسكات صوت القبلية. ورأى آخرون أن سياسته تلك ما زادت المجتمعات السودانية المختلفة إلا تفرقا وعدوانية، وتكريسا للطائفية والقبلية، واستخداما للعقاب الجماعي البالغ الوحشية (ضربت الكاتبة مثالا بما فعله الخليفة بالبطاحين. المترجم).
كيف كان المهدي والخليفة ينشران دعوتهما ورسائلهما عن الجهاد لقواعدهما، وكيف كانا يحشدان الدعم الشعبي في عصر كانت فيه الأمية مرتفعة جدا، وليس في البلاد من وسائل الطباعة ولا السكة حديد ما يعين على نشر تلك الدعوة أو نقل تلك الرسائل؟ لقد تبنى المهدي والخليفة شعراء المديح لفعل كل ذلك، وكانوا هؤلاء المادحون يحفظون قصائدهم عن ظهر قلب، وينقلونها لأبنائهم وأحفادهم من بعدهم ليحافظوا على "الإخلاص للطريقة" (لمزيد من التفصيل في هذا الجانب نصحت الكاتبة بالاطلاع على نصوص عبد القادر الكردفاني، وكتاب حاييم شاكيد "حياة مهدي السودان". المترجم). وكان قرشي محمد حسن قد أجرى مقابلة إذاعية في منتصف القرن العشرين (لعلها كانت في 1974م) مع بعض شعراء المهدية، وسجل ما جادت به قرائحهم من مدح. ووصف قرشي تلك القصائد المادحة التي قيلت في ثمانينات القرن التاسع عشر بأنها "جهاد بالقلم"، وأنها لا تقل أهمية عن جهاد السيف في سبيل الثورة. وبعبارة أخرى كان الرجل يدرك أن للجهاد المهدوي بعدا خطابيا قويا.
بعد الجهاد: البريطانيون في السودان
هزمت القوات البريطانية – المصرية جيش المهدية في كرري في عام 1898م، وقتل في تلك المعركة الفاصلة 11000 من الأنصار وجرح نحو 16000، في مقابل قتل 49 وجرح 382 من جنود الجيش الغازي. وكتب تشرشل في "حرب النهر" بأن معركة كرري كانت هي" رمز انتصار أسلحة العلم علي البربرية". ولم يقتل الخليفة عبد الله إلا بعد نحو عام من ذلك، وتم نشر صور جثمانه وهو متمدد على "فروة الصلاة" بالقرب من الجنود الذين قتلوه. وفي عام 1932م وصف أحد الكتاب مقتل الخليفة بأنه "نهاية المهدية". غير أن التاريخ لا يؤيد ذلك الادعاء، فقد ظلت "المهدية" بعد هزيمة 1898م باقية في نفوس العائلات رقيقة الحال، والتي كانت وبقيت مؤيدة للحركة. وفيما بعد سنوات الحرب العالمية الأولى قاد أبناء وأحفاد صفوة رجال المهدية حركة سياسية ضخمة دخلت في مفاوضات للحصول على استقلال السودان من بريطانيا ومصر. وأطلق على تلك الحركة التي لعبت دورا مركزيا في النشاط الوطني إبان الحكم الثنائي وفي سياسة السودان المستقل اسم "المهدية الجديدة".
وقام البريطانيون عقب معركة 1898م باتخاذ استراتيجية حجر كامل لكل من بقي من أفراد عائلة المهدي والخليفة والأمراء. وتم نفي بعضهم لمصر حيث بقوا تحت الإقامة الجبرية، واحتفظت بولدين من أبناء المهدي تحت المراقبة اللصيقة. غير أن البريطانيين قاموا بمراجعة تلك السياسة بعد سنوات قليلة، والحقوا كثيرا من أبناء صفوة رجال المهدية بمدارس التعليم الحديث، وعينتهم لاحقا في الوظائف الحكومية المختلفة. وكان البريطانيون قد مارسوا من قبل، وبنجاح كبير، سياسة استقطاب ابناء صفوة المجتمعات المستعمرة للعمل في خدمة حكومتهم في الهند.
وكان المسئولون البريطانيون بالسودان يتخوفون من فعل أي شيء قد يؤدي لزيادة التطرف الديني، وإثارة "جهاد" جديد. لذا عملوا – بعناية كبيرة - على تربية طبقة من صفوة نخبوية مسلمة / اسلامية (خاصة من العائلات الكبيرة مثل عائلة الميرغني، تلك التي قاومت المهدية) وخلق طبقة مهادنة ومسالمة جديدة من العلماء لتتولى شئون القضاء المختص بالأحوال الشخصية. ولم يكن البريطانيون يريدون الاستعانة بعلماء الأزهر خشية أن يدخل هؤلاء "وطنية" معادية للبريطانيين على النمط المصري. فأنشأوا في عام 1912م "المعهد العلمي" بأم درمان، وقبلوا في كلية غردون طلابا لدراسة الشريعة والقانون ليعملوا بعد تخرجهم كقضاة شرعيين.
وزاد تخوف البريطانيين من احتمال إثارة "جهاد" جديد في السودان إبان الحرب العالمية الأولى بسبب وقوف الخلافة العثمانية مع عدوتهم المانيا، وهجوم الحركة السنوسية في ليبيا على مصر، وإعلان علي دينار الجهاد ضد البريطانيين في 1916م. وكان هذا أحد أسباب غزو دارفور وضمها للسودان. وتصدت بريطانيا لوقوف الخلافة العثمانية مع ألمانيا بالتقرب من الشريف حسين في مكة، والتخطيط لـ "ثورة عربية" من الحجاز لسوريا. ووجد البريطانيون في السيد عبد الرحمن المهدي حليفا جديدا ومؤثرا وموثوقا، الذي أعلن عن مساندته الكاملة لبريطانيا وحليفاتها في تلك الحرب. وكوفئ نظير ذلك بمنحه فرصا عديدة للاستثمار في الزراعة. وكان بعض المسئولين البريطانيين يعتقدون أن إغْنَاء السيد عبد الرحمن سيجعله سهل الانقياد لهم. إلا أن الرجل استفاد من تلك الفرصة التي أتيحت له، ومن الأيدي العاملة المجانية للأنصار السودانيين والمهاجرين من غرب أفريقيا الذين استقروا في أرضه، وظلوا يدفعون له الصدقات / الزكوات نظير تلقي بركاته (أثارت هذه النقطة جدلا حادا في المنتديات الإسفيرية بين بعض مناصري السيد عبد الرحمن ود/ صديق أمبدة عندما عرض حديثا كتاب "الجزيرة أبا: همس التاريخ" للدكتور الطيب أحمد هارون. وأوردت الكاتبة بعض المراجع التي تناولت تلك النقطة مثل كتاب مارتن دالي الشهير "امبراطورية على النيل" وكتاب باوا يامبا المعنون "المهاجرون الدائمون: دور الحج في حيوات مسلمي غرب أفريقيا في السودان. المترجم).
ومع نهايات الحرب العالمية الأولى شرع السيد عبد الرحمن في تبني ورعاية أنشطة الشباب المتعلم الوطنية، وساهم في تمويل صحيفة أسبوعية صدرت في عام 1919م تحمل اسم "حضارة السودان"، كانت تدعو لبرامج "عصرنة" وتحديث مثل مد مدينة أم درمان بنظم مياة جارية في مواسير، وفتح مدارس جديدة، وأيضا محاربة العادات "غير الاسلامية" الضارة والدجل والخرافات عن طريق التعليم، وهو ما يعد تطورا في نظرة المهدويين للعالم. وظلت تلك الصحيفة تؤيد فكرة استقلال السودان من بريطانيا ومصر معا، ودعت بأن يكون "السودان للسودانيين".
واشتهر السيد عبد الرحمن بشخصيته الكاريزمية، وحنكته السياسية، وشدة كرمه لضيوفه البريطانيين. وعرف الرجل كذلك بمهارته في تنظيم الأنصار خلف قيادته في ذات الوقت الذي كان يؤكد فيه للبريطانيين أن نواياه في كل ما يفعله سلمية تماما. وكما ذكر بيتر وود وغيره فقد أفلح السيد عبد الرحمن في تحويل الحركة المهدوية إلى حركة صوفية تناسب القرن العشرين، وفي أن يساهم الأنصار في المشهد السياسي والاجتماعي للطائفية المسلمة قبل وبعد الحرب العالمية الأولى. ووقف السيد عبد الرحمن بقوة معلنا عن تأييده للحكومة البريطانية – المصرية في موقفها ضد عدد من الاحتجاجات الإقليمية التي دعت لثورة مهدية جديدة (مثل الحركات العيسوية، والتي زعم كل واحد ممن قام بها أنه النبي عيسى والذي يظهر بعد مجيء المهدي، ولكن قبل يوم القيامة في مواجهة "الدجال"، والذي يقصد به في هذا المقام الحكومة البريطانية). ولم يمر عام من أعوام الجيل الأول من الحكم الثنائي من دون حدوث تمرد / انتفاضة عيسوية، خلا سنوات الحرب. غير أن أي من تلك الحركات لم تجد لها أي تأييد شعبي. ولم تواجه الحكومة أي تحرك جهادي (مسلح) طوال سنوات حكمها غير تلك الحركات العيسوية / المهدوية المحلية، ونجحت في دحرها جميعا.
alibadreldin@hotmail.com