الجوهر الفرد: الإشارات الفلسفية في شعر أغنية (الحقيبة)

 


 

 

في حديث سابق أشرنا إلى الحِكَم واللطائف العرفانية والومضات الفكرية والإشارات الفلسفية التي يفيض بها شعر غناء (الحقيبة) السوداني.
خذ مثلا قول الشاعر محمد ود الرضي بقصيدة (أحرموني ولا تحرموني): "منْ تعاطى المكروه عمداً غيرَ شك يتعاطى الحرامْ".
هذه العبارة التي اجترحها الشاعر كفاحاً تمثل قاعدة فقهية كاملة ويمكن أن تضاف بكل سهولة إلى القواعد الأصولية المعروفة في علم (أصول الفقه الإسلامي) بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع مضمونها. ومحمد ود الرضي رجل شبه أمي لم ينل سوى القليل من تعليم خلوة القرآن.
وخذ كذلك قول الشاعر الوارد في ذات القصيدة :"لو مُعْنن قولْ كَلَّموني".
كَلمَ هنا فعل ماضي وليس فعل أمر. والمعنى: قل قالوا لي. أي إذا نقلوا إليك كلام عني فقل لي. ولكن بعض المغنين ينطقونها "كلٍّموني". في صيغة الأمر وهذا خطأ.
وقد وجدنا هذا الخطأ في الديوان ود الرضي نفسه الذي أعده للنشر ابنه الطيب محمد الرضي. (انظر: ديوان ود الرضي، الجزء الأول، الطبعة الثانية 1989، إعداد الطيب محمد الرضي، ص 11).
ومعنن مشتقة من مصطلح "العننة" وهو من مصطلحات علم الحديث. والعننة هي استخدام الحرف "عن" في تسلسل رواية الحديث مثل قولهم: " حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:".
ومن الأمثلة على الإشارات الفلسفية ما ورد عن سيد عبد العزيز بقصيدة (قائد الاسطول) وهو قوله: "يا علة المعلول/ كمْ أومَى ليك بنان".
العلة هنا ليست المرض أو المحنة وإنما المقصود المعنى الفلسفي للعلة. فالشاعر يستعين هنا بمصطلحات الفلسفة في تفسير لغز المحبوب. فلكل شيء علة أو سبب. والعلة والمعلول هما السبب والنتيجة. و"العلة الأولى" في فلسفة أرسطو هي المبدأ الأول للكون أو "المحرك الأول". كأنما أراد الشاعر القول إن جمال محبوبته هو سبب وعلة كل الجمال الذي في الكون، بل إن سر جمال الخلق يكمن في جمال المحبوب، لذلك قال: "كم أومى ليك بنان" في إشارة لذلك السر.
وهنا في هذه الكلمة نود التوقف عند عبارة )الجوهر الفرد) التي وردت بقصيدة الشاعر المفلق صالح عبد السيد (أبو صلاح) وهي القصيدة المشهورة المغناة:
(قـلبي هَـمْ مالو خـديدك وجـمالو مـعذب فـي هـواك مـالو) والتي يقول في أحد أبياتها:
الـجوهر الـفردِ الـما اتلقى مثالو/ ليهو قلبي يلين وقلبو يقسا لو".
في العادة نحن لا نتوفق عند وصف الشاعر للمحبوب بالجوهر الفرد لأننا تلقائيا نأخذ بالمعنى العام والظاهر وهو تشبيه الشاعر للمحبوب بالجوهر الفريد الذي لا يماثله شيء آخر في الحسن والبهاء.
ولكن في الحقيقة (الجوهر الفرد) مصطلح فلسفي جليل. فالملعوم في الفلسفة أن كل جسم مادي يتألف من جوهر وعَرَض. الجوهر هو ذات الشيء وماهيته وحقيقته والعَرض هو صفات الشيء وهيئته وأحواله. والجوهر ثابت والعَرض متغير.
والجواهر إما مركبة أو بسيطة. الجوهر المركب هو الذي يتجزأ, وأما الجوهر البسيط فلا يتجزأ. والجزء الذي لا يتجزأ هو ما يطلق عليه "الجوهر الفرد" وهو الوجود المطلق اللامتناهي. وكان لنظرية "الجوهر الفرد" أثر عظيم في علم الكلام (الفلسفة الإسلامية).
في مقال له بعنوان: (الجوهر الفرد كأساس لرؤية العالم) يقول الدكتور محمد عابد الجابري الكاتب الكبير المعروف:
"وظفِتْ فكرة "الجوهر الفرد" أو الجزء الذي لا يتجزأ، في القضية الأساسية في علم الكلام، وهي قضية إثبات "حدوث العالم". لقد اتخذ منها المتكلمون مقدمتهم الضرورية لإثبات وجود الله ووحدانيته ومخالفته لكل المخلوقات. وطريقتهم في الاستدلال على ذلك كما يلي: يقولون إن القسمة العقلية تقتضي أن العالم، إما أن يكون قديما وإما أن يكون محدثا، ولما كان العالم عبارة عن أجسام، وكانت الأجسام مؤلفة من أجزاء فإن الحكم على العالم بالقدم أو بالحدوث يتوقف على تحديد طبيعة تلك الأجزاء. فإن كانت تتجزأ إلى ما لا نهاية له فالعالم سيكون قديما، أما إن كانت تقف فيها التجزئة عند حد معين فمعنى ذلك أنه محدث. وهم يبرهنون على أنها بالفعل لا يمكن أن تتجزأ إلى ما لا نهاية، وأنه لابد أن تقف فيها التجزئة عند جزء لا يتجزأ!" انتهى.( 18 مارس 2009، صحيفة الاقتصادية).
وفي العصور الحديثة يوظف الفيلسوف الألماني ليبنتس Leibniz (1646-1716م) فكرة الجوهر الفرد ويبني عليها نظريته في أصل الوجود وماهيته. و ليبنتس فيلسوف ألماني موسوعي وهو مكتشف حساب التفاضل والتكامل بصيغته المعروفة الآن.
يعتقد ليبنتس أن "الجوهر الفرد" هو أصل الوجود. والجوهر الفرد هو ذرة ولكنه ذرة روحية لا مادية. والوجود كله مكون من هذه الذرات الروحية. فالوجود المادي في حقيقته ما هو إلا جماع هذه الجواهر الفردية.
وليبنتس عندما قال أن الجواهر الفردية هي في حقيقتها ذرات روحية (دينامية) كأنه سبق الفيزياء الحديثة في القول إن الذرة لدى التحليل الأخير هي طاقة.
بيد أن ليبنتس استعمل في شرح نظريته اسم آخر للجوهر الفرد وهو كلمة "موناد" Monade وهي كلمة إغريقية. والموناد عنده هي الجوهر الفرد the unique substance وهي ذرة روحية لا مادية. لذلك أُطلق على نظريته Monadology أي مذهب "الذرات الروحية". وهذه المودنات الروحية هي أصل الوجود والعالم المادي. (انظر: د. فؤاد زكريا، آفاق الفلسفة).

abusara21@gmail.com

 

آراء