الجيش الذي عناه اللواء أحمد إدريس !!

 


 

 

 

 

ما يُميّز الجيش النظامي عن المليشيات، أن الأول يقوم على النُظُم والتقاليد العسكرية التي يكتسبها بتعاقب الأجيال وعبر سنوات طويلة، وهي تستهدِف في مجملها غرس مفهوم الإنضباط والإنقياد العسكري، ويحدث ذلك بأشياء قد تبدو في ظاهرها صغيرة وليست ذات معنى، ولكنها تُعتبر من لوازِم ترسيخ مفهوم "الضبط والربط" والإنصياع للقيادة والتراتبية العسكرية.
وجيش السودان كان له سمعة وصيت كبيرين بين جيوش دول العالم الثالث في درجة صرامته وإنضباطه وتمسكه بتلك التقاليد، بحيث جاء عليه زمن كان جلوس الضباط على الطاولة لتناول الطعام يتم بحسب الرُتبة والأقدمية، وكان الضابط أو الجندي وهو بداخل منزله يفرِد طوله وينتصب واقفاً وهو يضرب تعظيم سلام لشقيقه الأصغر إذا كان الأخير يعلوه في الرتبة العسكرية، وكان الجندي إذا أغفل تلميع حذائه عند التفتيش في طابور الصباح يتعرّض للعقاب بالوقوف لباقي اليوم في "طابور ذنب"، وكان قائد الحامية بالأقاليم له من الهيبة بين أفراد قوته بحيث كان حينما تقترب عربته من مكتبه في دقيقة معلومة عند أول الصباح تصطف له القوة ويُطلق في إستقباله البرُوجي (وهو آلة نفخ تُشبِه قرن الثور)، وقد ترتّب على بناء تلك التقاليد أن إكتسب ضابط الجيش من الهيبة بحيث أن المواطن العادي كان يمكنه تمييز الضابط بإستواء وقفته وعدم بروز كرشه حتى وهو يرتدي جلابية وعِمّة في سوق الخضار .
وبحسب التقاليد التي كان يسير عليها الجيش الذي عناه اللواء أحمد إدريس، أنه وبإستثناء الضباط أصحاب المهن المساعدة (مثل الأطباء والصيادلة والحقوقيين)، لم تكن تقاليد الجيش تسمح بأن يضع ضابط نجمة على كتفه دون أن يكون قد تخرّج من الكلية الحربية بوادي سيدنا حتى لو كان قد درس العسكرية في كلية "سانت هيرست" البريطانية، ولم يحدث خروج على هذه القاعدة غير المرّة التي عُيّن فيها عبدالرحمن الصادق المهدي في وظيفة ملازم بعد تخرّجه في الكلية العسكرية الملكية بالأردن، وقد حُسِب ذلك التعيين - بِحق - في الاوساط العسكرية والسياسية على والده بإعتبار أن ذلك قد تم بتأثير منه لكونه كان يشغل وظيفة رئيس الوزراء خلال تلك الفترة (1986).
ويكفي القول - والحديث عن درجة الإنضباط بين أفراد الجيش السوداني – أنه مع حدوث ثلاث إنقلابات عسكرية خلال ثلاثة أيام (نميري - هاشم العطا - نميري)، لم يؤثر ذلك على وحدة وتماسك الجيش أو يحدث إنفلات بأيّ من الحاميات العسكرية بالعاصمة او الأقاليم، فقد كانت عقيدة الإنقياد العسكري هي أُس الولاء لمهنة العسكرية الذي يجمع بين الضباط والجنود لا إنتمائهم العقائدي والفكري او موقفهم من النظام الحاكم الذي جعل ولاءهم للجيش كمؤسسة وحملهم على طاعة تعليمات القيادة العامة في الخرطوم أيّ كانت الجهة التي تجلس على رأس الحكم.
هكذا كان حال التقاليد والأعراف بالسودان في كل المهن وليس الجيش وحده، وقد إستعِنت مرة في توضيح هذه الحقيقة بما رواه المطرب حسين شندي الذي كان يحكي عن مشواره الفني بإحدى اللقاءات التلفزيونية، فقال أنه كان يعمل معلماً في مدرسة شندي المتوسطة للبنات حينما دخل عالم الغناء والطرب، ولما إنتشر خبر إحيائه للحفلات في بيوت الأفراح بشندي وضواحيها، استدعاه ناظر المدرسة وقال له: “البنات ديل يا ترقِصن يا تدرِسن”، وقال حسين أنه إحترم وجهة نظر مديره فإستقال من عمله بالتدريس وإختار المُضِي في دنيا الطرب.
وقد أحسن ناظر المدرسة وحسين شندي عملاً بقراريهما، فقد راعى كلاهما التقاليد كانت تقضي بعدم ممارسة أي أفعال تنتقص من هيبة أصحاب وظائف معينة حتى لو كانت تلك الأفعال مشروعة والالتزام بالمظهر والهندام اللائق، حتى جاء اليوم الذي أصبح فيه الضابط يرقص فيه ردفاً بردف مع الجندي، وأصبحت الرتب العسكرية العليا توزع على الأفراد في البيوت كما توزع دعوات الأفراح.
الجيش الذي عناه اللواء أحمد إدريس هو الجيش الذي حكينا عنه ونفى سعادته عن نفسه تهمة إهانته في حديثه بالمقطع المصور الذي قال به عقب خرجه من المحكمة وهو يحمل بيده صك البراءة من التهمة التي وجهت اليه، وهو الجيش الذي أجرمت في حقه حكومة الإنقاذ بإستقصادها له بطمس تلك الأعراف والتقاليد وإنشاء الأجهزة والمليشيات الموازية للجيش حتى تفوقت عليه في العدة والعدد والعتاد، وقد كنا نتوق لليوم الذي نخلص فيه من الإنقاذ وتسترجع فيه الثورة إعادة بناء مؤسسسات الدولة المدنية والعسكرية على تلك الأسس، ولكن ......... يا للحسرة.
ملحوظة: سبق نشر مقاطع من هذا المقال في زمن الإنقاذ بعنوان (الجيش الذي عناه عثمان)، تعقيباً على موضوع كان قد نشره الصحفي عثمان ميرغني حول شأن مماثل.

 

آراء