الحاجة لإزالة الأحياء العشوائية الفقيرة في أم درمان الحاجة لإزالة الأحياء العشوائية الفقيرة في أم درمان .. ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
الحاجة لإزالة الأحياء العشوائية الفقيرة في أم درمان الحاجة لإزالة الأحياء العشوائية الفقيرة في أم درمان
The Need for Slum Clearance in Omdurman
John Wynn Kenrick جون وين كينريك
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص لمقال نشر في العدد الرابع والثلاثين من مجلة "السودان في رسائل ومدونات SNR" الصادرة عام 1953م، عن تخطيط مدينة أم درمان الحديثة، خاصة حي الموردة.
وعمل كاتب المقال (1913 - ؟) إداريا في القسم السياسي لحكومة السودان بين عامي 1936 - 1955م في جوبا وتوريت (مديرية الاستوائية) وتلودي ورشاد (مديرية كردفان) و أم درمان (مديرية الخرطوم)، وتطوع للعمل بقوة دفاع السودان في غضون سنوات الحرب العالمية الثانية (1941 – 1944م). وللرجل مخطوطة مذكرات وأوراق أخرى أودعها مكتبة السودان بجامعة درم البريطانية. وبالإضافة لهذه الورقة الحالية فله ورقة منشورة عام 1948م في مجلة "السودان في رسائل ومدونات SNR" بعنوان "مملكة تقلي بين عامي 1921 – 1946م".
الشكر موصول للدكتور محمد الصادق لجلبه لي هذا المقال للترجمة.
المترجم
**** **** ****
كان القادم لأم درمان من الخرطوم عن طريق البر يرى أمامه على يسار الشارع وعلى شمال خور أبو عنجة حيا مبنيا من الطوب اللبن المتهالك أو الطين المعجون (عرفت موسوعة الويكيبيديا الطوب اللبن بأنه " نوع من أنواع القرميد البدائية التي عرفت منذ العصر الحجري الحديث". المترجم).
وكان هذا الحي، والذي يعرف بالموردة، واحدا من أسوأ الأحياء بأم درمان اكتظاظا بالسكان. ولما صدر قرار بإعادة تخطيط وتنظيم المدن، بدأ العمل في إعادة تخطيط الموردة، وتحويل نصف سكانها لمناطق أخرى. وخلال عمليات التحضير اللازمة لتبرير ترحيل قسم من سكانها قمنا بإجراء مسح إحصائي تبين من نتائجه حالة الأوضاع السائدة في كثير من المدن السودانية الأخرى. وقبل الولوج في تفصيل تلك الأوضاع، فإنه من الواجب شرح الأسباب التي مهدت لحدوث تلك الأوضاع في مدينة كأمدرمان، القريبة من مركز الحكومة (في الخرطوم).
وبفحص خريطة مكبرة لأم درمان، أو أفضل من ذلك، إن نظرنا إلى الصور الممتازة التي التقطتها مصلحة المساحة من الجو في شتاء 1950 /1951م، يتضح لنا بجلاء وجود منظرين عامين مختلفين تمام الاختلاف. ترى في المنظر الأول أشكالا مستطيلة منتظمة تفصلها عن بعضها طرق وشوارع مستقيمة واسعة، وشوارع فرعية، تجد فيها هنا وهنالك مربعات صغيرة ومساحات (ميادين) خالية. أما المنظر الثاني، فترى فيه بقعا متناثرة غير منتظمة الشكل، بها قطع سكنية من كل صنف ومساحة يمكن لك أن تتخيلها، تشبه خلايا النحل، وبها طرق ضيقة متعرجة، لا يزيد طول بعضها عن خمسة أمتار، وتتفرع منها أزقة أشد ضيقا تؤدي إلى قطع أراض سكنية ليس لها منفذ إلى الشارع.
وتقع تلك البقع أو "النقاط السوداء" في الموردة حول السوق الرئيس، وعلى جانبي الطريق المؤدي لأبروف، ولمنطقة "بيت المال"، و"أب روف" نفسها. وهذه ليست مصادفة. فإن قمت بمسح المنظر الأول للمدينة الحديثة، وتركت تلك النقاط السوداء فما سيبقى ستكون هى مناطق أم درمان خارج سور حي "الملازمين"، والذي كان يقطنه أولئك الذين لم يغادروا المدينة عقب معركة أم درمان وإعادة احتلال السودان في عام 1898م. ومنحت الحكومة الجديدة حق الملكية الحرة (freehold) لأي سوداني أثبت / زعم بأنه يملك أرضا في هذه المناطق. وعوضا عن إعادة تخطيط المدينة من جديد، آثرت الإدارة الجديدة الإبقاء على الأوضاع بحسب ما كان سائدا في عهد الخليفة عبد الله، وتعديل خرائطهم بما يناسب قوائم ملكية تلك الأراضي السكنية (بما كل فيها من تخطيطات غير منتظمة). وجعلت عمليات إعادة تقسيم تلك القطع السكنية الكبيرة على الوُرَّاث بالتدريج - بحسب ما تقتضيه أحكام المواريث في الشريعة الإسلامية – أمر تخطيط تلك المناطق المكتظة بالسكان أشد عسرا وأكثر تشويشا.
أما في المناطق غير المأهولة من المدينة، والتي بدأ المواطنون ينتشرون فيها، فقد ساهمت قوانين ملكية وتنظيم تسجيلات الأراضي، ويقظة مكاتب الباشمفتش وتسجيلات الأراضي ومصلحة المساحة والصحة العامة في حماية (جزئية على الأقل، ولفترة معقولة) لتلك المناطق السكنية الجديدة من التدهور والارتداد إلى حال المناطق القديمة التي تعد "مناطق عشوائية فقيرة slums" بكل المقاييس. والدليل على هذا الزعم هو النظر في خريطة المدينة وصورها المأخوذة من الجو، والتي لا توضح بالطبع أعداد البشر القاطنين في كل قطعة سكنية، ولكنها توضح (من ناحية اجتماعية وصحية عامة) أن القطع التي تم تخطيطها كانت تتمتع بشكل منتظم ومساحة كافية، وبها طرق فسيحة ومساحات فارغة، وأنها غير مزدحمة بالسكان. ولا يمكن تصور أن تعيش عائلة كبيرة ممتدة في قطعة أرض ليس له مدخل من أي نوع على شارع، وفي مساحة لا تزيد على 50 – 60 مترا مربعا. غير أن الواقع يثبت أن هذا هو حال الكثير من القطع السكنية في المدينة.
وفيما يلي أقدم ملخصا مختصرا لنتائج إحصاء أجريته في فبراير من عام 1951م بمساعدة من عدادين من (طلاب؟) كلية غردون، ومن أحد خبراء مصلحة الإحصاء. ويجب أن أذكر هنا أن ذلك الإحصاء في حي الموردة يعد "حالة خاصة" لا يمكن أن تنطبق نتائجه بالضرورة على سكان باقي المناطق في السودان. غير أنه يصح القول أيضا بأن الأوضاع التي أبانها الإحصاء في الموردة قد يتوقع حدوثها في بعض الأحياء القديمة بأم درمان نفسها، وربما بعض أحياء مدن سودانية أخرى. ولا أستطيع أن أجزم هنا بصحة كل الأرقام الواردة في هذا الإحصاء، إلا أننا نؤكد أن التحضير البشري لإجراء الإحصاء وإعادة التخطيط كان في غاية الدقة، وكان العمل فيهما يتم في أجواء من التعاون والمشاركة. وفي حالة أو حالتين تشككنا في بعض صدق أو كمال الإجابات على أسئلة محددة تتعلق بدخل العائلة، فقمنا باستبعاد تلك الاجابات من التحليل الإحصائي. وافترضنا أن الأرقام المتعلقة بعدد السكان وكثافتهم وغير ذلك قريبة جدا من الصحة، هذا إذا لم تكن صحيحة بنسبة 100%.
وكانت المنطقة التي أجرينا فيها الإحصاء واضحة الحدود، فقد كانت تحد من جهتي الشرق والغرب بطرق واسعة، ومن الشمال بسوق الموردة، ومن الجنوب بخور أبو عنجة. وقمنا بتقسيم المنطقة إلى مربعات صغيرة بحسب الأزقة الصغيرة داخلها (التي لا يتعدى عرضها عادة خمسة أمتار). غير أننا كنا نجد في داخل تلك القطع الصغيرة ما يشبه خلية النحل من قطع سكنية متداخلة ومزدحمة بالسكان، وكثير منها كانت قطعا سكنية صغيرة مقسمة إلى قطع أصغر ليس لها من منفذ إلا عبر الجيران، أو تنتهي بزقاق ضيق مسدود (cul-de-sac) .وكانت كل المساكن مملوكة لساكنيها ملكا حرا، ويندر جدا أن تجد فيها قطع أرض مبنية بالطوب الأحمر.
ومن بين 291 قطعة سكنية في المنطقة كانت هنالك 8 بيوت / حيشان (plots) غير مأهولة، و24 مهدمة تماما. لذا تم الإحصاء على أساس أن هنالك 259 قطعة أرض مسكونة. وكان يعيش في هذه البيوت 2273 فردا، منهم 1432 من البالغين (636 من الذكور و797 من الإناث) و841 من الأطفال. واعتبرنا كل من بلغ الثامنة عشرة من عمره رجلا بالغا، وكل من بلغت السادسة عشرة من العمر امرأة بالغة. ولم نعتد في الإحصاء بتسجيل أعداد الأطفال الذين لم يكونوا موجودين ساعة الإحصاء (مثل الذين كانوا في المدارس أو لم يكونوا من سكان المنطقة في يوم الإحصاء). ووجدنا أن عدد العاملين في أعمال تدر عليهم دخلا كانوا 591 (من أصل 635 رجلا) و26 امرأة (من أصل 797 امرأة). وكان الذكور في مراحل عمرية مختلفة، كان من بينهم 93 رجلا بين سن الـ 18 – 22عاما. ومن بين الـ 591 رجلا بالحي كان هنالك 365 يعملون في أم درمان نفسها، و136 يعملون في الخرطوم. وكان الرجال يعملون في مهن مختلفة. فمن بين 302 رجلا وجدنا أعداد الرجال العاملين كما يلي: تجارة التجزئة (76)، والعمال (63)، والصيادين (56) والخدم من كل الأنواع (55) والكتبة والمحاسبين (52). ومن بين جميع أفراد الحي (2273) كان هنالك 506 فقط سكنوا/ سكن في الحي منذ فترة تقل عن عشرين عاما، وأتوا / أتين للسكن فيه من مناطق أخرى). أما البقية فقد كانت تسكن ذلك الحي منذ أكثر من عشرين عاما، أو قد ولدوا فيه.
وكان معظم سكان الحي من الفقراء أو من ذوي الدخول القليلة الذين كانوا يعولون عائلات كثيرة العدد. وكان من بين السكان أيضا عدد قليل جدا من الأثرياء.
ولغرض هذا البحث، عرفنا المقصود بكلمة "عائلة / أسرة household" بأنها "مجموعة من الناس تعيش في بيت/ قطعة أرض واحدة وتتشارك النفقات". وبهذا التعريف يتضح أنه يمكن أن يكون هنالك أكثر من مجموعة بتلك المواصفات تعيش في نفس البيت. بل إننا وجدنا في الموردة 356 عائلة تعيش في 259 بيتا.
ومن المعلومات التي وجدناها في ذلك الاحصاء أيضا أن هنالك 91 أسرة / عائلة فقط ليس فيها أشخاص غير متزوجين، و265 أسرة بها وأحد أو أكثر من الأزواج، وفي هذه الأسر المذكورة الـ 265 كانت هنالك 135 أسرة في كل واحدة منها أكثر من ستة أفراد. وتوصلنا إلى أن متوسط عدد الزوجين في كل أسرة يبلغ 1.25.
ولمراجعة الأرقام مرة أخرى نذكر أننا وجدنا أن عدد سكان حي الموردة كان قد بلغ يوم الإحصاء 2273 فردا، يعيشون كعائلات بلغ عددها 356 عائلة، وذلك في 259 بيتا. وكان من بينهم 325 من الأزواج، وبلغ متوسط عدد الأفراد في كل عائلة في المنطقة 6.38 فردا. وعند دراسة نسبة العائلات إلى البيوت نجد أن 55.6% من الـ 356 عائلة كانوا يعيشون كعائلة واحدة في قطعة أرض واحد، و20.8% منهم يعيشون عائلتين في قطعة أرض واحد، و11.8% يعيشون ثلاث عائلات في قطعة أرض واحد، و9% يعيشون أربع عائلات في بيت واحد. ويتضح من ذلك أن 45% من قاطني الموردة كانوا يسكنون بمعدل كثافة سكانية تبلغ 12.5 فردا (أي عائلتين) أو أكثر في كل بيت/ قطعة أرض واحدة.
وبالطبع لن تكون الكثافة السكانية المذكورة أعلاه بالضرورة غير مريحة إن كانت مساحة كل قطعة أرض كبيرة نسبيا وتحتوي على عدد من الغرف. غير أن هذا لم يكن هو الواقع. فقد كانت المساحة الرسمية المعتمدة للقطع السكنية، لسنوات طويلة هي 300 م م، بل كانت قبل سنوات 200 م م فقط، إلى أن تبين للمسئولين أن تلك المساحة صغيرة جدا. ووجدنا في إحصائنا أن مساحة 67.5 % من بيوت الموردة كانت تقل عن الحد الأدنى (300 م م)، ومن هذه البيوت كانت مساحة نحو 66.8 % منها تقل عن 200 م م، وكان هنالك عدد كبير نسبيا من البيوت تقل مساحتها عن 100 م م.
أما عن الغرف في بيوت الـ 356 عائلة فقد كانت 50 منها فقط تحتوي على ثلاث غرف للمعيشة، و121 منها تحتوي على غرفة واحدة فقط، بينما احتوت 139 منها على غرفتين فقط. وفي النوعين الأخيرين كانت هنالك 19 عائلة تضم رجلين مع زوجيهما.
وكانت الأوضاع العامة في بيوت الطين القديمة بائسة بالفعل، والغرف ضيقة، ومنخفضة، وسيئة التهوية، وكثيرا ما تكون في غاية القذارة.
أما الكثافة السكانية على الأرض (منسوبة لمساحة كل قطعة أرض) فقد كانت 3.25 فردا لكل 100 م م. وهذه الأرقام تتحدث عن نفسها.
أرجو أن أكون قد قدمت صورة حية عن الازدحام المفرط في مدينة أم درمان للذين لا يعرفونها. ولا يعرف قدر المعاناة من الازدحام مثل رجل يسكن في أحد تلك البيوت الضيقة وعنده زوجتين وعائلتين. فكان كل أفراد العائلتين يقيمون في ذلك المكان الضيق نهارا. غير أن رب العائلة أضطر لاستئجار غرفة في مكان آخر لأفراد إحدى عائلتيه للنوم فيها ليلا.
لقد كان الغرض من هذه الورقة هو توضيح الحاجة إلى التخلص من الأحياء العشوائية، وليس لوصف الطريقة التي يمكن بها فعل ذلك. غير أن بعض القراء قد يهمهم معرفة الفوائد التي قد تجنى من إزالة تلك الأحياء. لقد تم إعادة تخطيط حي الموردة بتخصيص فضاء (ميدان) واسع في منتصفه، مواجها للمسجد. وأقيمت حول ذلك الميدان شوارع يبلغ عرضها 10 – 12 مترا، بعد أن كان عرضها 4 – 5 أمتار قبل ذلك. وأقيمت أيضا امتدادات للشوارع الكبيرة التي كانت موجودة سلفا لتقسم الحي لمربعات معقولة المساحة. وحرصنا على أن يكون لكل بيت مدخل يطل على شارع، وحرصنا أيضا على المحافظة على "حدود" كل قطعة سكنية كما كانت قبل إعادة التخطيط بقدر الإمكان، وأن نقلل من نقل السكان من بيوتهم لأماكن أخرى ما أمكننا ذلك. ورفعنا تصنيف ثلاثة من أجزاء المنطقة إلى "الدرجة الثانية" حتى يمكننا تحسين نوعية المباني التي ستقام عليها في المستقبل. وسنعمل على تقليل عدد القطع السكنية في المنطقة إلى 150، بعد أن تدفع تعويضات نقدية للمتضررين، أو بعد منحهم قطعا سكنية في مناطق أخرى غير الموردة.
ولا شك عندي أن النتيجة النهائية لإعادة تخطيط حي الموردة ستفضي لتحسن مباشر وكبير في مستوى حياة القاطنين به ولسكان أم درمان قاطبة، إذ أن إزالة المناطق العشوائية تلك من شأنه إزالة بقعة كبيرة مهددة للصحة العامة. لقد كانت كُلْفَةُ ذلك العمل كبيرة جدا، ولكن طالما كان احتياطي المدينة النقدي مستمرا في التدفق، فستستمر عمليات إعادة التخطيط والتحسين في الأحياء العشوائية، والتي ستزال تماما مع مرور السنوات.
alibadreldin@hotmail.com