الحالة السودانية والمرواحة بين الضبابية والعجز والفوضي

 


 

 

abdullahaliabdullah1424@gmail.com

بسم الله الرحمن الرحيم
يبدو ان الدولة السودانية ما ان تخرج من نُقرة وإلا تقع في دحديرة، كما يقول المثل الشعبي المصري. وهكذا يظل حال شعبها النكد، عرضة لكل صنوف القهر والاذلال والافقار، وتردي كافة سبل الحياة، واحتمال اذا ما استمرت الاحوال علي هذا المنوال، تتضاءل فرص النجاة.
وكان الظن والعشم ان تكسر ثورة ديسمبر القاعدة الظالمة الحاكمة، وتعيد التوازن المفقود للعلاقة بين الحاكم والمحكوم. ولكن لسوء الحظ ان ثورة ديسمبر وجدت اوضاع انقاذية في غاية الاختلال، وهي في الاصل ممارسات اجرامية، استنزفت كل طاقة الدولة، واحالتها الي خرابة لا يصعب اصلاحها فحسب، ولكن جعلت اي اصلاح هو في جوهره معادٍ لمصالح اجهزة ومؤسسات الدولة المسؤولة عن الخراب.
وبعد الوصول لتسوية سياسية ذات كلفة عالية من دماء الثوار، ورغم انها تصب في صالح المكون العسكري المتسبب الاول في الجرائم والانتهاكات. إلا ان كل ذلك لم يمنع العسكر من التربص والكيد والعرقلة للمرحلة الانتقالية. وعندما اعيتهم الحيلة وحان اوان الوفاء بتسليم رئاسة مجلس السيادة للمكون المدني (ازاحة البرهان من موقع الرجل الاول في الدولة). إلا وارتكب المكون العسكري جريمة الانقلاب التي ادخلت البلاد في متاهة، اسوأ وبما لا يقاس من جريمة البشير/الترابي الانقلابية. لانه اذا كانت جريمة البشير/الترابي اسست للخراب، فان جريمة البرهان/حميدتي قطعت الطريق علي معالجة الخراب. خاصة وهي تاتي عقب شراكة، كان القصد الاساس منها، ترميم العلاقة بين المدنيين والعسكريين، وكف نزعة العسكريين الانقلابية التي اوردت البلاد موارد الهلاك.
وهذا الارتداد نحو الانقلابات العسكرية وازدراء السلطة والحياة المدنية، يجد له نسب في ثلاثة مصادر: اولها، عدم احترافية المؤسسة العسكرية، مما يجعلها عرضة للتورط في مهام ليست من اختصاصها، فما بالك وهذه الاختصاصات تتعلق بالسلطة وامتيازاتها. وثانيها، بعد استيلاءها علي السلطة تمكث فيها اطول فترة ممكنة، مما يجعل السلطة وكانها حق او جزء من مهام وعقيدة المؤسسة العسكرية (اي عسكرة السلطة كذريعة للحفاظ علي بقاء الدولة وسلامة المواطنين). وثالثا، عدم رسوخ ثقافة ومؤسسات الدولة الحديثة، بسبب الدخول في الحلقة المفرغة، من ترسيخ الاستبداد الذي يغيب شروط الحداثة، كارضية لبناء دولة وحياة حديثة! وتغييب شروط الحداثة تمكن لثقافة الاستبداد (قابلية الشعوب للاستبداد) ومن ثمَّ التكريس لدولة الاستبداد كقدر للشعوب المضطهدة. اي خلاصة المسألة وكأن الحكم العسكري هو الاصل والثورة والفترات الديمقراطية هي النشاز الذي يجب منعه واجتثاثه.
وما جعل المشهد يتعقد اكثر وينتج فوضي الانقلاب، اجتماع اربعة عوامل: اولها، ان قائد الانقلاب البرهان هو من الفقر القيادي والتلهف علي السلطة بمكان، مما جعله (شُخشيخة) في ايدي اعداء الثورة والتغيير في الداخل والخارج. اي بقدر ما لا يتحسب لافعاله وتحركه اطماعه، بقدر ما يتحكم في المؤسسة العسكرية بكل نفوذها وسطوتها. ثانيها، وجود قوات الدعم السريع، بذات القيادة غير المؤهلة وخضوع قواتها لرغبة القائد، والذي لا يخفي بدوره تلهفه للسلطة وارتهانه للداعمين في الداخل والخارج. وثالثها، التوافر علي لصوص وحاقدين وانتهازيين (فلول وقادة حركات مسلحة وبقية قادة تحالف الموز) يعبدون مصالحهم الخاصة، بقدر استرخاص قدرهم ومكانتهم (وهم يجهلون ان العبودية ليست لون وشكل ولكنها استعداد وقابلية)، وتاليا هم رهن اشارة البرهان، والذي بدوره لا يستنكف استخدامهم لتخريب اي عملية سياسية او اصلاح او تغيير جاد، يتعارض مع رغبته في الاستفراد بالسلطة. رابعها، العامل الاقليمي المصري، والذي لا يخفي دعمه للعسكر ومناهضته للتحول الديمقراطي. وذلك لتكريس حالة التبعية للمصريين والذي يوفرها الانقلابيون.
ولكن اخطر ما افرزه الانقلاب الفوضوي، فهو من ناحية جعل الفوضي هي السمة الغالبة في الدولة، وطبيعي في ظل هكذا اوضاع فوضوية، يصعب الحديث عن تغيير او اصلاح او ثورة، ويصبح المطلوب او المهمة العاجلة هي كيفية السيطرة علي الفوضي، حتي لا تدخل مرحلة استحالة السيطرة عليها، ومن ثمَّ ذهاب ريح الدولة؟ ومن ناحية، كرس حالة من الاستقطاب والشقاق وفقدان الثقة، بين الشركاء والفرقاء وداخل التحالفات وفيما بينها! ومؤكد في هكذا بيئة مليئة بالشكوك وتجارب الغدر والاطماع السافرة، يصعب طرح الحلول للمشاكل والقضايا الماثلة، لانها والحال كذلك تتحول هي نفسها لمشاكل تحتاج للحلول، بعد ان تخلق بدورها استقطابات وشكوك جديدة! وتصبح المحصلة، هي المراوحة في حالة من الجمود غير المسموح بالتصدي لها او تغييرها! وذلك عندما يكتفي كل طرف بما يحمله من تصور ورغبات، وتتحول التسويات والالتقاء عند منتصف الطريق الي خسارة علي مستوي المكاسب وخيانة علي مستوي المبادئ!
ومن ناحية كذلك، مكن لسلطة الامر الواقع للبرهان وحلفائه، وهم في الاصل ليس ضد الثورة والثوار والتغيير فحسب، وانما يضاعفون من اخطاء نظام الانقاذ سواء من جهة تردي الخدمات ونهب الموارد والتمكين للاتباع والارتهان للخارج، او من جهة تزايد الفتن الداخلية وانفلات السلاح وتغلغل الحركات والمليشيات المسلحة بهمجيتها داخل المدن. اي باختصار عوض عن حل المشاكل تتراكم الخيبات والفشل، الشئ الذي يؤدي لليأس والاحباط، والاخطر زيادة المخاطر.
وفي ظل هكذا اوضاع يشوبها الحذر وتغطيها الشكوك وتكتنفها السيولة المفتوحة علي كل الاحتمالات، طُرح الاتفاق الاطاري كمساهمة مشتركة بين تحالف سياسي داخلي وضغوط المجتمع الدولي، للخروج من عنق الزجاجة باقل كلفة. وبطبيعة الحال، القت الظروف السالف ذكرها بثقلها علي الاتفاق الاطاري، لتجعل منه وكانه يحتاج للتبرير اكثر من كونه محاولة لمعالجة التعقيدات الراهنة! ورغم ان جزء اساس من هذه التعقيدات المتفاغمة، هي غياب المبادرات الموضوعية كالاتفاق الاطاري؟!
وكما هو متوقع واجه الاتفاق الاطاري صعوبات جمَّة، واصبح كمن يمشي حافٍ علي اشواك سامة، وهو يتعرض للانتقاد والرفض من كافة الاطراف ما عدا اصحابه! فالعسكر بقيادة البرهان يرون فيه تنازل غير مستحق من جانبهم، لمن لا يستحقون من تحالف الحرية والتغيير. والثوار والجذريون يرون فيه منح شرعية للعسكر الانقلابيين بدل محاكمتهم علي جرائمهم. والفلول وقادة الحركات السلحة ورموز تحالف الموز، يرون فيه تجريد لما يحوزنه من امتيازات، كثمن لمناصرتهم الانقلاب وتحالفهم مع العسكر. ومصر تري فيه ضرب لمخططاتها بتمكين العسكر الانقلابيين.
لكل ذلك يصبح نجاح الاتفاق الاطاري، رغم ما بُذل فيه من جهد وما يشكله من مخرج معقول من الازمة، علي كف عفريت! ولو صدف وحدثت معجزة ونجح التوقيع عليه في هكذا مناخ معادٍ، فان استمراره بدوره يحتاج لمعجزة اخري (تعقل الرافضين غير العقلانيين). ولكن الخطورة وكما صرح الاستاذ خالد عمر ان الاخفاق في هذا الاتفاق قد يفتح المجال امام حرب اهلية لا تبقي ولا تذر، وهذا ليس تخويف ولكن مبني علي حيثيات. ومن ابرز دلائلها، انه في حين البرهان يماطل ويرواغ ويسعي بكل الحيل للتملص من التزام الاتفاق الاطاري الذي يحد من سلطاته ويهدد طموحاته للاستفراد بالسلطة، وهو كالعادة يوظف كل اعداء الثورة في مراوغاته، لمحاولة الالتفاف علي ضغوط المجتمع الدولي. نجد ان حميدتي يصر علي مواصلة الاتفاق والتهديد بالتعرض لكل من يعترضه. اي ان حميدتي بطموحاته وما يملكه من قوات لن يسمح للبرهان بالاستفراد بالسلطة بذريعة الامر الواقع، لانه بمستطاعه تغيير هذا الواقع بقواته، او اقلاه قلب عاليها سافلها علي الكل. ويكفي بسبب الاتفاق الاطاري وقبله طمع الجنرالين في السلطة، شهدت الفترة الماضية تراشق وتلاسن ومطاعن بين الجنرالاين، ومحاولة المزايدة علي بعضهما البعض.
بمعني آخر، لاول مرة لا يملك الجيش منفردا سلطة فرض الامر الواقع. بعد ان دخل الدعم السريع كقوة موازية للجيش في مشهد المعادلة السلطوية (شراكة ما بعد ابنعوف او بصورة اصح تسببت في ابعاده). وبالطبع هذا واحدة من خيبات وتفاهات نظام الانقاذ الذي كرس كل جهده وموارد الدولة للمحافظة علي سلطته المرفهة. وذلك بالاستثمار في انشاء الاجسام والكيانات والمليشيات المسلحة وتضخيم انشطتها ونفوذها. اي الانقاذ لم يكن نظام عسكري ولكن عسكرة لها منظومة.
والحال كذلك، اي خلاف بين الجيش والدعم السريع علي الاتفاق الاطاري، او محاولة الالتفاف عليه او التلاعب به، بعد ان اصبح آخر فرصة لمنع البلاد من الانزلاق للمجهول. لا يعني اكثر من اشعال وقود الحرب. وحتي البرهان الذي يطمع في اجهاض الاتفاق الاطاري، كيف يضمن ان الاوضاع ستعود لما قبل الاتفاق الاطاري، اي سيطرته منفردا علي الوضع بحكم الامر الواقع، بعد ان يختل هذا التوازن بخروج الدعم السريع مغاضبا! ولكن كما هو معلوم ان سكرة السلطة تغيب العقل، ناهيك لمن اثبتت التجارب انه اصلا لا يملك عقل يعتد به. والحال كذلك اذا قدر لهذه البلاد التفكك والضياع وهلاك اهلها سيكون ذلك علي يد الغادر المغرور البرهان.
اما من يدقون طبول الحرب ويحرضون الجيش علي الدعم السريع بمظنة عودة الاوضاع لحضن الجيش منفردا، ومن ثم سهولة توظيفه والسيطرة عليه. فهم ينسون او يتناسون ليس قوة الدعم السريع وقدرته علي احداث ضرر هائل بالمجتمع والبني التحتية، حتي اذا خسر المعركة، هذا اذا صدف وانتهت ولم تستمر الي ما لم يعلم احد. ولكنهم يجهلون ان هكذا صراع غير مسؤول، سيعمل علي اضعاف الدولة، ومن ثمَّ افساح المجال لدول الجوار الطامعة في موارد البلاد، لفك اختناقاتها الوجودية بسبب نقص الموارد لديها. بمعني ستتخذ تلك الدول الحرب وسيلة لدعم طرفي الصراع حتي يطول امد المعركة وتصاب الدولة بالشلل والعجز، ومن ثمَّ تقتطع من البلاد مساحات كبيرة وتشرع في احتلالها استيطانيا وتغير تركيبتها المجتمعية سكانيا. وبالطبع المقصود مصر واثيوبيا. ولنا في احتلال حلايب والفشقة العبرة واعتداء روسيا علي اوكرانيا الاعتبار.
اما الذين يحسنون النية بمطالب الجيش الموضوعية، فهي من ناحية ذريعة للتنصل من الاتفاق علي طريقة كلمة الحق التي يراد بها الباطل، ومن ناحية حتي اذا تم القبول بها، واصبح هنالك جيش واحد، سنرجع لخانة انفراد الجيش بالسيطرة علي المشهد، ولا عزاء حينها للمؤسسية والاحترافية وغيرها من حجج واهية لم تصدق تاريخيا.
ولكن ما الحل امام هكذا معضلات تظهر وكان ليس لها حلول؟ للاسف ليس هنالك من وصفة جاهزة او توقع حل ساهل او مخرج في القريب العاجل، مع توافر كم هائل من الاخطار والسيناريوهات السيئة والمحتملة الحدوث بنسبة عالية. وهذا ما يتطلب الاعتراف بالواقع كما هو، اي ليس هنالك امكانية لحلول مثالية، مما يعني سحب مقترحات الحلول الجذرية من التداول. والاصرار ليس علي الحلول السلمية كشعارات يمكن ان تصبح خاوية دون تحولها لادوات ولغة سياسية (مثل الاتفاق الاطاري كمدخل للحلول)، ولكن بالانفتاح علي المزيد من اجراء الحوارات المتواصلة مع الجيش والدعم السريع، كاكثر قوتين تتحكمان في المشهد السلطوي وتملكان توجيهه الوجهة التي يمكن ان تخدم او تضر بالجميع! والمقصود بالحوار ان المسالة تتعدي الدمج الي اعادة الصياغة والتكوين والعقيدة، التي تحولها الي مؤسسة من مؤسسات الدولة تخضع لدستورها وتختص بمهام محددة.
وباختصار يبدو ان ما نحتاجه ليس التفكير خارج الصندوق، ولكن اعادة النظر في الشعارات والطروحات والمسلمات التي ظلت مرفوعة علي الدوام بذات معدل التراجع المطرد. اي بما فيها شعارات الديمقراطية والدولة المدنية بطريقتها المثالية، وكان قيامها اصلا ممكن من غير مقدمات. بمعني تغيير طريقة التفكير يمكن ان تفتح مجال ارحب لتغيير الوسائل وقبول خيارات اقل طوباوية. فمثلا بدل عن مطلب الديمقراطية والدولة المدنية، يمكن ان ينصب التركيز علي تهيئة البيئة المساعدة علي قيام الديمقراطية والدولة المدنية، بطريقة تتلاءم وظروفنا الداخلية وفي الوقت المناسب. واهمية هذه القفزة من المقاربة، انها يمكن ان تتيح مساحة تلاقي وشراكة مع العسكر، لا تٌبني علي قلة القناعة والتربص، ولكن علي المصالح المشتركة في وطن مستقر. لانه لو قدر لنا ان نصل لهذا القدر من بناء الثقة والاستقرار، مؤكد ان التطور المخدوم والدفع الذاتي والعمل المثابر برؤية واهداف، يمكن ان يقودنا للمطالب المنشودة، في وقتها الذي يلاءم درجة نضوجها وتاليا ترسخيها. ولنعلم ان جل من بَشَّر وعمل علي تحقيق قيم العدالة والحرية والسلام ورهص بقيام الدولة المدنية والحياة الديمقراطية لم يستمتع بها، ولكنه ترك للاجيال من بعده ما يستمتعون به ويضيفون اليه. واذا صح ذلك يصبح اي تغيير يتقدم ببطء ولكنه يترسخ مع مرور الايام، خير الف مرة من تغيير سريع او مفاجئ، غالبا ما يتعرض للضياع بذات السرعة.
اخيرا
عاجل الشفاء للاستاذ الرائع اشرف عبد العزيز، والذي يبدو ان لاوجاع الوطن نصيب في مرضه ومرض الكثير من الصادقين المرهفين. ودمتم في رعاية الله.

 

آراء