الحداثة والماضي الروحي للإنسانية الحالية… الحرية وليست الهوية… بقلم: طاهر عمر

 


 

 

أزمنة صعبة، وحروب قاتلة خاضتها أوروبا حتى إنفك إرتباطها من وهم الهويات القاتلة، والأوصوليات الدينية. وتحررت من قداسة المقدس، وجلالة السلطة، وذلك بفضل فلاسفة، جعلوا معركة صراع الكليات واحدة من أولوياتهم، كما فعل إيمانويل كانت، في تحرير الفلسفة من أن تكون خادمة تحت نير كلية اللاهوت في فكرة صراع الكليات. أي كلية الفلسفة، وكلية اللاهوت. وبعدها قد أصبح العقل متبوع لا تابع. و بالتالي قد تسيد العقل لا النقل، والفلسفة التي تقدم ما يحتاجه الإنسان لوظائف الدين المقبول في حدود العقل. عكس التجريف، والتحريف لوظائف الدين، الذي قد أنتج القتل على الهوية كما يحصل اليوم في العراق. ويقظة طوائف في بحثها عن فردوس مفقود كما في اليمن تتغول على الدولة. وتمكن حزب الله من أن يكون دولة داخل دولة كأنهم لم يسمعوا بقول بودلير عن الحداثة. وبعدها قد أصبحت المعرفة واحدة, و أن البعد الإنساني اللا متناهي هي الحرية, وليست الهوية كما يقول فتحي المسكيني. و بالتالي قد تسيد سؤال الوجود وليس سؤال الموجود في محاولة مارتن هيدغر في أن عطب الفلسفة قد بداء من أسئلة إفلاطون نفسه، الذي قد أسس لأكبر خطاء في محاولات الفلسفة. وقد حاول مارتن هيدغر تصحيحه في أفكاره الفلسفية التي حاول التفريق ما بين سؤال الوجود، وسؤال الموجود. والغريب أن مارتن هيدغر كان مغرما بالشعر، وخاصة شعر فردريك نيتشة. وكرس له زمن طويل لدراسته. وكذلك أهتم مارتن هيدغر بأشعار هولدرلين، و يقول أن الشعر مثل العلم، ولكنه يقول الأشياء بطريقته الخاصة. وكما زار مارتن هيدغر رينيه شارل، وتحدث معه عن الشعر. ولكن لم يوليه الإهتمام كما تفعل النخب السودانية لمدرسة الغابة والصحراء في تأسيسها لفكرة الهوية، وفكرة تيار الغابة والصحراء.ورينيه شارل قد أعلن هو نفسه بأننا نحن في زمان قد أصبحت تجربته ليست مسبوقة بعهد. ولكن عندنا في السودان أن تجربتنا مسبوقة بعهد، وهو عهد الفكر الديني الذي يفوج أرتال أعراس الشهداء في غياب فكر الأقلية الخلاقة، وتسيد فكر الهوية في تيار الغابة والصحراء, ومدرسة الخرطوم، وأبادماك. في غياب فكر الأقلية الخلاقة، يتضح لنا لماذا سيطرت الجبهة الإسلامية في السودان لما يزيد عن ربع قرن، ولم تستطع الصمود في كل من مصر وتونس لأكثر من عام. عند مارتن هيدغر إن الشعر يتقدم نماذج الروح. كما عده أيضا الموسوعي ديدرو. ولكن كل من ديدرو، ومارتن هيدغر قد قصدا نماذج الروح في سؤال الوجود، وليس سؤال الموجود الذي يظهر في شعر مدرسة الغابة والصحراء وتأسيسها وإعادة إستخدامها الى أنفسنا القديمة,وإظهار سطحهها الهووي الصاخب والعنيف والمهزوز، كما يعني فتحي المسكيني الفيلسوف التونسي ما وضح في إنفعالاتنا القومية والدينية.وهذا الذي قد طفح في ساحة الفكر السوداني بسبب تيار مدرسة الغابة والصحراء، وترويجها، وإستعمالها من أنفسنا القديمة إلا سطحها الهووي الصاخب والعنيف والمهزوز وهي إنفعلاتنا القومية والدينية.فكما يقول فتحي المسكيني فيجب إعادة الإنصات لأنفسنا المحسوسة، واليومية كما تقول نفسها في بعدها البشري، الكوني، بعيدا عن أجوبة ثقافية نهائية حول من نكون؟ وماذا يجب علينا أن نفعل؟ كما كرست مدرسة الغابة والصحراء، ومدرسة الخرطوم فكرة الهوية، وإستمرار الهرج الذي يواصله عبد الله علي ابراهيم بطرح هووي سطحي صاخب وعنيف ومهزوز. فعبد الله مازال يشغله سؤال من نكون؟ وماذا يجب علينا أن نفعل؟. فعبد الله يتسيد التفلسف على الإطار المحلي إذا ما قارناه بفتحي المسكيني، الذي لا يضحي بالحرية في سبيل الهوية.  وفتحي المسكيني من المعجبيين بفلسفة مارتن هيدغر، كما كان فيلسوف مصر، عبد الرحمن بدوي من المعجبيين بمارتن هيدغر. إذا قارنا فتحي المسكيني الشاعر، نجده يتخطى شعراء الغابة والصحراء بقامته كفيلسوف. لذلك كان مرامه الحرية، وليست الهوية كما إنشغل بها كل من تيار الغابة والصحراء، ومدرسة الخرطوم، وأبادماك. فعندما يخطر ببالنا محاولة مصر، والدخول الى الحداثة منذ عام ،1819 وتونس ومحاولاتها أيضا، ونشطاها من فلاسفة مبتغاهم الحرية، وليست الهوية، كفتحي المسكيني، نعرف لماذا إنحنى الغنوشي للعاصفة؟ ولماذا أطاح المصريون بالأخوان المسلميين بعد عام واحد من محاولاتهم الرجوع بمصر الى أعتاب القرون الوسطى؟ فمصر قد كان لها من يلعب دور الأقلية الخلاقة أمثال طه حسين، و علي عبد الرازق، وأحمد لطفي السيد. أفكار الأقلية الخلاقة في المجتمع المصري كانت بمثابة اللقاح الواقي من مرض سيطرة الأصولية، وسقوط الأخوان المسلميين في أقل من عام في مصر. وغياب الأقلية الخلاقة في السودان, عبره, يتضح لنا لماذا سيطرت فكرة الهوية, وهيأت الأرض لترسخ جزور الحركة الإسلامية في السودان لتنفرد بالحكم بعد إنقلابها المشؤوم على مدي ربع قرن، وأرجعت مستوى المعيشة للشعب السوداني الى حقب القرون الوسطى. ويتضح غياب فكر الأقلية الخلاقة في السودان في إزدهار عرس الشهيد، الذي قد كان إعادة لفكرة عروس النيل, فقط أن الضحية قد تحولت من عروس النيل، الى عريس في عرس الشهيد الذي يوضح بربرية الحركة الإسلامية السودانية بسبب غياب فكر الأقلية الخلاقة التي تكافح فكرة تقديم الذبائح البشرية. فسيطرة فكر تيار الهوية المتمثل في الغابة والصحراء, و مدرسة الخرطوم, وأبادماك، يوضح المأزق الذي لم تسطع النخب السودانية الخروج منه. لأنها مازالت تضحي بالحرية في سبيل البحث عن هوية قد أصبحت تطير، وحفيف أجنحتها، يعلن الخراب، والدمار الذي طال ربوع السودان بسبب مثقف يجيد الهرج النابع من سطح النفس الهووي، الصاخب، والعنيف، والمهزوز. وهنا نورد قول فتحي المسكيني"بسبب أننا لم نستعمل من أنفسنا القديمة الى حد الآن إلا سطحها الهووي، الصاخب، والعنيف، والمهزوز، نعني بالأساس إنفعالاتنا القومية والدينية. فاننا أحوج ما نكون الى إعادة إنصات شديد لأنفسنا المحسوسة، واليومية، كما تقول نفسها في بعدها البشري، الكوني، بعيدا عن أي أجوبة ثقافية نهائية حول من نكون؟ وما يجب علينا أن نفعل؟ نحن مدعون اليوم الى الإقرار بشكل لا رجعة فيه بأن المعرفة الإنسانية واحدة. لأن الفعل البشري واحد. لذلك كل من يواصل تتريث عقله باسم الإنتماء الى هذا التراث، أو ذاك، تهوية ذاته تحت هذا العنوان الهووي, أو ذاك. هو يؤجل فقط لحظة ولادته الثانية. نعني ولادته الذاتية التي وقعت بعد وصارت جزء من ذاكرته العميقة دون أن يدري. نعني لحظة الأزمنة الجديدة للإنسانية الحالية التي سماها بودليرمنذ 1823 باسم شعري ومتردد حداثة". فالحداثة، عند فتحي المسكيني، تعتبر الماضي الروحي الوحيد للإنسانية الحالية. ولذلك ينصح أن نكف عن التدبير الهووي للأصالة. وعلينا أن نطرح مشاكلنا طرحا مدنيا صرفا. لذلك أن فكرة العودة الى سنار لمحمد عبد الحي، تعتبر حنين. والتفلسف كما يقول فتحي المسكيني، هو التحرر من الحنيين، و التحرر من فكرة إنسان الذاكرة، والتوجه بإتجاه إنسان المنهج. فتحي المسكيني يفكر في ذات حرة بلا هوية، وهنا يثمن فتحي المسكيني دور الفلسفة على التحرر من صناعة الهوية، وهنا يظهر تأثر فتحي المسكيني بأفكار مارتن هيدغر. في مصر نجد مفكريها كخطوط الكنتور، كل منهم يمر ويوضح تضاريس مكانه، وبينهما فواصل توضح مستوى التقدم المنجز بين مفكر وآخر. فمثلا نجد القطيعة المعرفية الواضحة بين فكر طه حسين، ومحمد عبده. وبالتالي بعدها ينساب فكر طه حسين موضحا حوض نهر الفكر لكل من أحمد لطفي السيد، و علي عبد الرازق. ويأتي عبد الرحمن بدوي كتلميذ لطه حسين، كخط كنتور يوضح تضاريسه التي قد وصلت لمستوى أن تنادي الى أن يصل الدين الى مستوى قبول التناقض، ويستوعب في ثناياه حتى الذين قد نفد رصيدهم من الإيمان. وبالطبع لا يمكن نسيان دور فؤاد زكريا كتلميذ لعبد الرحمن بدوي. رغم إختلافهم، فقد كتب فؤاد زكريا عن فردريك نيتشة. وقبله قد كتب عبد الرحمن بدوي عن نيتشة. وقد كان مدخل فؤاد زكريا، وفهمه لنيتشة، مختلف عن فهم أستاذه عبد الرحمن بدوي لأفكار فردريك نيتشة. ولكن من يستطيع إنكار دور فؤاد زكريا في مقاومة الأصولية الدينية, رفعه لشعار العلمانية هي الحل، في مقابل شعار الإسلاميين الإسلام هو الحل. وهنا يظهر دور الأقلية الخلاقة في مكافحة الأصولية الدينية. ويلتقط محمد أركون موجات البث من إرسال طه حسين, ويأتي بمشروعه الضخم، الذي عبره يحاول تفكيك العقل الضاري، الذي قد تحدث عنه فولتير. أي العقل الوثوقي، التقديسي، والتبجيلي. وترجع شرارة الفكر مرة أخرى الى مصر، وتظهر في فكر نصر حامد أبوزيد. ويرى النقاد، أنه لولا كتابات محمد أركون، لما ظهرت كتابات نصر حامد أبوزيد. وهكذا تصبح هذه الجرعة من الأفكار كلقاح فكري بسببه قد نجت مصر من الأصولية الدينية. ولم يستطع الأخوان في مصر الإستمرار في الحكم لأكثر من عام. وبعدها كان في إنتظارهم منجل الحصاد الأكبر، ثم الطوفان الشعبي الذي قد إستطاع إخراج أكبر مسيرة، وتجمع بشري عبر التاريخ ليسقط أوهام الاخوان المسلمين، ولتكنسهم مكنسة الفناء الأبدي من أرض مصر. ولا يختلف حال تونس في أخذ جرعة اللقاح من الأصولية الدينية. ولكن لها تاريخها الخاص بها, ويختلف عن تاريخ مصر، وأحمد لطفي السيد، وطه حسين، وعبد الرحمن بدوي، ونصر حامد أبوزيد. الآن في تونس، لا أحد يستطيع تجاهل أفكار فتحي المسكيني، والفيلسوف يوسف صديق، الذي قد عانى كما عانى نصر حامد أبوزيد، ومنعت كتبه. وله كتاب لما نقرأ القرأن أبدا، وأيضا العفيف الأخضر، في تكوينهم للقاح تونس من مرض الأصولية الدينية. وبالطبع لأفكارهم نتائجها، ومن ضمنها إنحاءة الغنوشي للعاصفة. العفيف الأخضر، رأى فيه الكثيرون من يستطع حمل الشعلة بعد موت نصر حامد أبوزيد، ومحمد عابد الجابري. رغم معاناته مع المرض، ومن بعدها وفاته، ولكن اليوم تصبح أفكاره جزء من لقاح يقاوم مرض الأصولية الدينية. ففي السودان سيطرت تيارات فكرية يسيطر عليها الحنيين، الذي يعتبر أكبر سد معادي للفلسفة. ويتضح في حنين محمد عبد الحي في العودة الي سنار، وحنين عبد الله علي ابراهيم في الرجوع الى مروي، وفكرة أبادماك. فتيار الغابة والصحراء، وأبادماك، وسيطرة الحنين على فكرهم، يوضح التفاعل الموضعي الذي يذكر بفشل  تجربة  عمود لكلانشيه. فمتى نخرج من سيطرة التفاعل الموضعي على ساحة الفكر في السودان؟ فعلاج التفاعل الموضعي الذي يفشل التجربة، هو أفكار الأقلية الخلاقة التي تستطيع أن تنتصر للحياة عبر تقوية النزعة الإنسانية. فمثلا نجد أن محمد أركون يصل الى نتيجة بأن العرب والمسلميين قد إستعصت عليهم فكرة غربلة تراثهم عبر جهدهم الفكري الخاص. فلا مناص من الإستفادة من تراث الإنسانية، وإستخدامه من أجل إحياء النزعة الإنسانية، والبحث عنها في المرفوض من أدب الفلسفة الإسلامية. كذلك نجد في الماضي أن جان جاك روسو قد وصل الى نتيجة أن الإنسانية قد وصلت الى مرحلة من الفشل يحتم أن تفرض عليها الحرية فرضا. اليوم الشعب السوداني قد وصل الى مرحلة من العجز بسبب بحثه عن الهوية. وينبغي أن تفرض عليه الحرية فرضا. ومتى ما فرضت الحرية, سيخيب جهد نخب السودان، التي قد أضاعت العمر في حوار الهوية عبر ذوات غير حرة، كما في حنيين محمد عبد الحي والعودة الى سنار، وحنين عبد الله علي ابراهيم الى مروي، وحنينه الآن الى الشريعة الإسلامية، وهويته العربية. فلا ينبغي التضحية بالحرية، في سبيل البحث عن هوية متوهمة، من ذوات غير حرة. وكما ذكرت, فكرة محمد أركون في عجز العرب والمسلميين في غربلة تراثهم بجهدهم الخاص، وحالة الإنسانية التي قد أصبحت عاجزة. وينبغي فرض الحرية عليها كما في فكر جان جاك روسو. فكذلك نجد أن جون ماينرد كينز قد جاء بفكرة التدخل الحكومي من أجل فكرة العدالة الإجتماعية، بدلا من فكرة اليد الخفية التي تؤدي الي التوازن التلقائي في فكر أدم إسمث, حتى أتهم بأنه شيوعي مندس يريد تخريب الرأسمالية من الداخل. فالذوات الحرة تروم الحرية، وليست الهوية. في جريدة الشرق الأوسط قد ورد خبر تأييد الأزهر لحظر الأحزاب التي تقوم على أساس ديني. وفي العراق قد أجبرت المظاهرات الشعبية العبادي الى إعلان مكافحة الفساد، ومحاربة المحاصصة الطائفية. وهذه بوادر التخلص من وهم الطائفية، والبحث عن قيم الجمهورية. فالهوية القاتلة في السودان، تطير بجناحي الجهل المقدس، والجهل المؤسس حسب أفكار أوليفيه روا، و محمد أركون.     taheromer86@yahoo.com

 

آراء