الحرب ومحنة التعافي من الوباء
د. الوليد آدم مادبو
16 April, 2023
16 April, 2023
الحرب هي إحدى السبل التي يختطها القدر ليُعدِل بها مجرى التاريخ او يسلب البشر قدرتهم على التحكم في مجريات الأمور. كم هي جارحة لكنّها ناجعة في التخلص من الطواغيت فالركود يورث القادة التبلد ويوهم الاتباع بأنّهم مسلوبي الارادة او يلهمهم الحجة فينتفضوا غير مبالين بحيل الجلاد. لقد استطال مكر العسكريين حتى ظنت طائفةٌ منهم بأنّه لا ملجأ من الاستبداد إلّا إليه، واستفحلت حيل بعض المدنيين حتى استكبروا في أنفسهم وعتوا على فطرة الخلق وتنكروا لبديهيات الامور.
يجب أن ننتبه لحجم الورطة التي اوقع فيها الطمع، التردد وسوء التقدير كلا الرجلين (برهان وحميدتي). لم يكن بمقدور البرهان أن يقدم على خطوة توقيع الاتفاق الاطاري والسيف مسلط على رقبته من قبل ضباط الجيش (كيزان وغيرهم)، كما أنّه لم يكن بمقدوره التراجع والمجتمع الاقليمي والدولي واقف له بالمرصاد. الكيزان ارادوا الالتفاف على العملية السياسية، أمّا الضباط غير المؤدلجين وهم قلة فيرون أن هذا الاتفاق لا يحظى بأغلبية جماهيرية (الأدهى أنه تتبناه أغلبية فاشلة سلفاً ومنبوذة إرثاً، هم سبب المحنة التي نحن فيها) ولذا فهم يرون أن مجرد الاقدام عليه مغامرة غير محمودة العواقب.
السؤال: حتى لو كُتب لضباط الجيش المؤدلجين (تحديداً الكيزان) الانتصار على مليشيا الدعم السريع، ماذا هم فاعلوا في شأن الحكم وقد اشاحوا القناع عن وجوههم الكالحة؟ ستكون هنالك مقاومة شعبية عنيفة وسيستبسل السودانيون في مقاومتهم، ليس حبّاً لحميتي إنما كرهاً لفعايلهم المنكرة، وستكون هناك مقاطعة إقليمية ودولية، يدخل السودان على إثرها في عزلة داخلية وخارجية ، تزيد من معاناة المواطنين فوق ما هم معانون. إذا لم يستطع البرهان تعيين رئيس وزراء لمدة العام ونصف في ظرف أقل صرامة، فماذا هو او خلفه فاعل اذا ما كتبت له السلامة والانتصار؟
سيواجه الكيزان حتماً مصير الشيوعيين مع "مايو الاغر" اذا ما كتب للدعم السريع انتصاراً -ولو جزئي- وسيتم اقتلاعهم من ارض السودان فهم اليوم في مواجهة مليشيا لا تحفل حتى بقيام محاكمات ميدانية، وسيعم نهج الاغتيالات في كافة عضويتهم واذا ما هربوا عبر الصحراء فالسيسي لهم بالمرصاد. ألم يكن الأجدى لهم الاعتذار للشعب السوداني، تقديم نقد ذاتي، انتظار المحاكمات المدنية، المثول أمام قضاء مستقل، والسعي لكسب معركة الانتخابات، لا سيما أن الاتفاق الاطاري قد حدد مدة عامين للفترة الانتقالية، ولم يحفل مطلقاً بتحقق المطلوبات الدستورية والمؤسسية؟ لكنّها إرادة الله التي تعمي بصائر المجرمين وتجرهم إلى مرقدهم فيموتوا حتف أنفسهم.
استمعت "للسيد القائد" حميتي (كما يحلو لاتباعه مناداته) في حديث ادلى به للجزيرة وقد بدأ منفعلاً ومتحاملاً بعض الشئ على الفريق برهان، فالأخير وافق تحت ضغط من الكيزان على خطة الانقضاض على الدعم السريع لكنّه لم يختار التوقيت، بل إنّ من خططوا وعزموا هم من بادروا بحملة التطويق لإحدى معسكرات الدعم السريع بغرض اتخاذ خطوة استباقية تحول دون حدوث توافق بين الرجلين اللذين لم يكونا بعيدين من نقطة التفاهم. فهما يدركان خطورة هذه المعركة العدمية -الرابح فيها خاسر.
ما الذي سيجنيه حميتي من انتصار كاسح على الجيش السوداني؟ وإن استطاع ان يخضع كل المدن فهو سيظل يتحرك دون غطاء اخلاقي، فكري أو سياسي. لقد كان الترابي وعبدالخالق اكثر نفاذاً من ناحية عقائدية وأيديولوجية لكنّ غرورهم اعماهم عن رؤية الدولة وبطشها -بل ومقدرتها على تفعيل آلياتها الاعلامية والمؤسسية واللوجستية- فعُلق الاخر في حبل مشنقة وذهب الاخر بحسرته إلى قبره. هل هذه دعوة للجبن او الاستسلام، لا لكنّها دعوة للتعقل. إن رجلاً غره "مطبخ الانقاذ السياسي" وقد رأى هيافة أصحابه من الداخل (اللمبي وإخوانه)، وسولت له نفسه استرضاء النخب المتعهرة أصلا بالمال، يجب أن يعي حدود قدراته ومبلغ طموحه، فالسودان بلد عميق وفيه تقاطعات اجتماعية وأدبية وتاريخية يمكن العمل من خلالها لكن يصعب إنكارها أو القفز عليها.
ارجو ان لا يحدثني "السيد القائد" عن التحول المدني الديمقراطي او تلكم العبارات التي تلقفها مستشاروه من الوثيقة الفضفاضة التي تسمّى الاتفاق الاطاري، إن إجراء تتحكم فيه اقلية عرقية وشِلة مناطقيه لا يمكن أن يحقق تحول مدني ديمقراطي كما إن مُسَوّدة عمل على تحبيرها "أصحاب الامتياز التاريخي" الذي يدّعي أنه قدم لمناهضتهم لا يمكن أن تقيم دولة مواطنة حقيقية. إن المتغطي بالاطاري عريان، عليه فيجب أن يركز حميتي في حملته الدعائية والاعلامية على مناهضة الكيزان فهذا كفيل أن يجلب له التعاطف محلياً، إقليمياً وعالمياً.
في هذه اللحظة، المطلوب التعقل والسعي للحصول على ضمانات وإيجاد مخرجاً أمناً للرجلين (حميدتي والبرهان) في إحدى الدول الخليجية شريطة أن يتخلى الرجلان عن طموحمهما السلطوي ويقبلا تحول قيادة مجموعتيهما لجهات مهنية غير مؤدلجة ومن ثم النظر في كيفية الدمج للمليشتين المتقاتلتين. هل الجيش مليشيا قبلية؟ نعم، مثلها مثل الدعم السريع، لكنّا يمكن أن نُعول على الذاكرة المؤسسية في استعادة مجدها القومي ودورها الوطني.
إن المليشيات -كل المليشيات- سرطان يسري في جسد الأمة السودانية فهي ترتزق في دول الجوار، تتاجر في البشر، تنهب ثروات البلاد، تهدد أمن المواطنين وهي تدّعي حمايتهم، تبتز السياسيين، تغتال المعارضين، لكنّ البلاد لن تتعافى منها إلا إذا رصدت تجاوزات الدولة المركزية وعملت على تدارك الخلل الهيكلي في بنية الدولة نفسها.
يجب أن ننظر للانقاذ على أنّها عرض وليس فقط مرض، وإلّا سنستمر في اجترار حدوتة "الزمن الجميل" وسنهمل النظر في جذور الازمة الحقيقية. لقد اتاحت الحرب لنا فرصة للتفاكر الحيوي والجدّي (حرب المدن خاصة، لأنّها تنبه النخب المتعالية لفداحة الحرب والتي ادمنت اشعالها في كافة أنحاء الوطن)، فاوروبا مثلاً نهضت بعد الحرب لأنّها أدركت خطورة التعامي عن حقوق المواطنين التي تبدأ بمساواتهم عبر الدستور والدستور فقط.
ختاماً، اعتقد ان الحرب سيطول أمدها مدة الاسبوعين أو زهاها وسيتكبد المواطنون حينها أضراراً يمكن تلافيها إذا التزموا بُيوتهم وقللوا من التسكع في الشوارع. مطلوب أن تكون هناك هدنة بين الطرفين كي يستطع الكل شراء الاغراض، الوصول للمستشفيات، نقل الجرحى ودفن الموتى. هذه الحرب ستستحيل إلى معاركة وسط الأزقة والحواري إذ لا يمكن للطيران أو المدرعات أن تحسم تحرك المليشيات المنتشرة في اصقاع البلاد، كما أنّه سيكون هناك تحركاً داخل الجيش -أو هكذا أتمنى- من بعض الوطنيين في محاولة للتخلص من الضباط المفسدين المؤدلجين الذين ظلوا لسنوات متحصنين بالعاصمة ومكتفين باشعال الحريق في هامش البلاد. هذا الجهد يجب أن يدعمه المثقفون بتكوين "جبهة للمستقلين الوطنيين"، إذ لا يمكن لجهد عسكري أن يكلل بالنجاح في غياب مظلة فكرية ورؤية أخلاقية.
يجب أن ننتبه لحجم الورطة التي اوقع فيها الطمع، التردد وسوء التقدير كلا الرجلين (برهان وحميدتي). لم يكن بمقدور البرهان أن يقدم على خطوة توقيع الاتفاق الاطاري والسيف مسلط على رقبته من قبل ضباط الجيش (كيزان وغيرهم)، كما أنّه لم يكن بمقدوره التراجع والمجتمع الاقليمي والدولي واقف له بالمرصاد. الكيزان ارادوا الالتفاف على العملية السياسية، أمّا الضباط غير المؤدلجين وهم قلة فيرون أن هذا الاتفاق لا يحظى بأغلبية جماهيرية (الأدهى أنه تتبناه أغلبية فاشلة سلفاً ومنبوذة إرثاً، هم سبب المحنة التي نحن فيها) ولذا فهم يرون أن مجرد الاقدام عليه مغامرة غير محمودة العواقب.
السؤال: حتى لو كُتب لضباط الجيش المؤدلجين (تحديداً الكيزان) الانتصار على مليشيا الدعم السريع، ماذا هم فاعلوا في شأن الحكم وقد اشاحوا القناع عن وجوههم الكالحة؟ ستكون هنالك مقاومة شعبية عنيفة وسيستبسل السودانيون في مقاومتهم، ليس حبّاً لحميتي إنما كرهاً لفعايلهم المنكرة، وستكون هناك مقاطعة إقليمية ودولية، يدخل السودان على إثرها في عزلة داخلية وخارجية ، تزيد من معاناة المواطنين فوق ما هم معانون. إذا لم يستطع البرهان تعيين رئيس وزراء لمدة العام ونصف في ظرف أقل صرامة، فماذا هو او خلفه فاعل اذا ما كتبت له السلامة والانتصار؟
سيواجه الكيزان حتماً مصير الشيوعيين مع "مايو الاغر" اذا ما كتب للدعم السريع انتصاراً -ولو جزئي- وسيتم اقتلاعهم من ارض السودان فهم اليوم في مواجهة مليشيا لا تحفل حتى بقيام محاكمات ميدانية، وسيعم نهج الاغتيالات في كافة عضويتهم واذا ما هربوا عبر الصحراء فالسيسي لهم بالمرصاد. ألم يكن الأجدى لهم الاعتذار للشعب السوداني، تقديم نقد ذاتي، انتظار المحاكمات المدنية، المثول أمام قضاء مستقل، والسعي لكسب معركة الانتخابات، لا سيما أن الاتفاق الاطاري قد حدد مدة عامين للفترة الانتقالية، ولم يحفل مطلقاً بتحقق المطلوبات الدستورية والمؤسسية؟ لكنّها إرادة الله التي تعمي بصائر المجرمين وتجرهم إلى مرقدهم فيموتوا حتف أنفسهم.
استمعت "للسيد القائد" حميتي (كما يحلو لاتباعه مناداته) في حديث ادلى به للجزيرة وقد بدأ منفعلاً ومتحاملاً بعض الشئ على الفريق برهان، فالأخير وافق تحت ضغط من الكيزان على خطة الانقضاض على الدعم السريع لكنّه لم يختار التوقيت، بل إنّ من خططوا وعزموا هم من بادروا بحملة التطويق لإحدى معسكرات الدعم السريع بغرض اتخاذ خطوة استباقية تحول دون حدوث توافق بين الرجلين اللذين لم يكونا بعيدين من نقطة التفاهم. فهما يدركان خطورة هذه المعركة العدمية -الرابح فيها خاسر.
ما الذي سيجنيه حميتي من انتصار كاسح على الجيش السوداني؟ وإن استطاع ان يخضع كل المدن فهو سيظل يتحرك دون غطاء اخلاقي، فكري أو سياسي. لقد كان الترابي وعبدالخالق اكثر نفاذاً من ناحية عقائدية وأيديولوجية لكنّ غرورهم اعماهم عن رؤية الدولة وبطشها -بل ومقدرتها على تفعيل آلياتها الاعلامية والمؤسسية واللوجستية- فعُلق الاخر في حبل مشنقة وذهب الاخر بحسرته إلى قبره. هل هذه دعوة للجبن او الاستسلام، لا لكنّها دعوة للتعقل. إن رجلاً غره "مطبخ الانقاذ السياسي" وقد رأى هيافة أصحابه من الداخل (اللمبي وإخوانه)، وسولت له نفسه استرضاء النخب المتعهرة أصلا بالمال، يجب أن يعي حدود قدراته ومبلغ طموحه، فالسودان بلد عميق وفيه تقاطعات اجتماعية وأدبية وتاريخية يمكن العمل من خلالها لكن يصعب إنكارها أو القفز عليها.
ارجو ان لا يحدثني "السيد القائد" عن التحول المدني الديمقراطي او تلكم العبارات التي تلقفها مستشاروه من الوثيقة الفضفاضة التي تسمّى الاتفاق الاطاري، إن إجراء تتحكم فيه اقلية عرقية وشِلة مناطقيه لا يمكن أن يحقق تحول مدني ديمقراطي كما إن مُسَوّدة عمل على تحبيرها "أصحاب الامتياز التاريخي" الذي يدّعي أنه قدم لمناهضتهم لا يمكن أن تقيم دولة مواطنة حقيقية. إن المتغطي بالاطاري عريان، عليه فيجب أن يركز حميتي في حملته الدعائية والاعلامية على مناهضة الكيزان فهذا كفيل أن يجلب له التعاطف محلياً، إقليمياً وعالمياً.
في هذه اللحظة، المطلوب التعقل والسعي للحصول على ضمانات وإيجاد مخرجاً أمناً للرجلين (حميدتي والبرهان) في إحدى الدول الخليجية شريطة أن يتخلى الرجلان عن طموحمهما السلطوي ويقبلا تحول قيادة مجموعتيهما لجهات مهنية غير مؤدلجة ومن ثم النظر في كيفية الدمج للمليشتين المتقاتلتين. هل الجيش مليشيا قبلية؟ نعم، مثلها مثل الدعم السريع، لكنّا يمكن أن نُعول على الذاكرة المؤسسية في استعادة مجدها القومي ودورها الوطني.
إن المليشيات -كل المليشيات- سرطان يسري في جسد الأمة السودانية فهي ترتزق في دول الجوار، تتاجر في البشر، تنهب ثروات البلاد، تهدد أمن المواطنين وهي تدّعي حمايتهم، تبتز السياسيين، تغتال المعارضين، لكنّ البلاد لن تتعافى منها إلا إذا رصدت تجاوزات الدولة المركزية وعملت على تدارك الخلل الهيكلي في بنية الدولة نفسها.
يجب أن ننظر للانقاذ على أنّها عرض وليس فقط مرض، وإلّا سنستمر في اجترار حدوتة "الزمن الجميل" وسنهمل النظر في جذور الازمة الحقيقية. لقد اتاحت الحرب لنا فرصة للتفاكر الحيوي والجدّي (حرب المدن خاصة، لأنّها تنبه النخب المتعالية لفداحة الحرب والتي ادمنت اشعالها في كافة أنحاء الوطن)، فاوروبا مثلاً نهضت بعد الحرب لأنّها أدركت خطورة التعامي عن حقوق المواطنين التي تبدأ بمساواتهم عبر الدستور والدستور فقط.
ختاماً، اعتقد ان الحرب سيطول أمدها مدة الاسبوعين أو زهاها وسيتكبد المواطنون حينها أضراراً يمكن تلافيها إذا التزموا بُيوتهم وقللوا من التسكع في الشوارع. مطلوب أن تكون هناك هدنة بين الطرفين كي يستطع الكل شراء الاغراض، الوصول للمستشفيات، نقل الجرحى ودفن الموتى. هذه الحرب ستستحيل إلى معاركة وسط الأزقة والحواري إذ لا يمكن للطيران أو المدرعات أن تحسم تحرك المليشيات المنتشرة في اصقاع البلاد، كما أنّه سيكون هناك تحركاً داخل الجيش -أو هكذا أتمنى- من بعض الوطنيين في محاولة للتخلص من الضباط المفسدين المؤدلجين الذين ظلوا لسنوات متحصنين بالعاصمة ومكتفين باشعال الحريق في هامش البلاد. هذا الجهد يجب أن يدعمه المثقفون بتكوين "جبهة للمستقلين الوطنيين"، إذ لا يمكن لجهد عسكري أن يكلل بالنجاح في غياب مظلة فكرية ورؤية أخلاقية.