الحركة الشعبية .. في مفترق الطرق !! .. بقلم د. عمر القراي
(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا)
صدق الله العظيم
omergarrai@gmail.com
ما تمر به الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال، اليوم، أمر يستدعي التضامن معها، والنصح لها، والوقوف بجانبها، حتى تتجاوز أزمتها.. وهو أمر ما كان ينبغي أن يقابل بالتجاهل، وعدم الإهتمام، من الاحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدني، وكافة مجاميع المثقفين السودانيين. وذلك لأن الحركة الشعبية حركة وطنية، نشأت على مقاومة الظلم، وحملت على عاتقها قضايا أهل الهامش، منذ مطلع الثمانينات، وعاشت آمال وأحلام هذا الشعب، وناضلت من أجله لسنوات عديدة.
أما حركة الاخوان المسلمين، التي تحكم البلاد، فقد أظهرت الفرح، والشماتة، في جهالة واضحة، وظن سقيم، بأنهم تخلصوا من ألد أعدائهم. ويكفي قادة الحركة الشعبية تميزاً على قادة المؤتمر الوطني، أنهم حين اختلفوا، لم يختلفوا على حصصهم من سرقة أموال الشعب السوداني، ولم يعتقلوا بعضهم البعض، وإنما إختلفوا حول الأفكار والمبادئ، بين مخطئ ومصيب.
ونحن لا نعلم كل مايدور داخل أروقة الحركة الشعبية، من نقاش داخلي، ولكننا قرأنا إستقالة القائد عبد العزيز آدم الحلو، التي قدمها في مارس 2017م. ورأينا في الأسافير، نقده لرئيس الحركة مالك عقار، وأمينها العام ياسر عرمان.
أول ما يلاحظ في استقالة الحلو، من منصبه كنائب لرئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال، أنه قدمها الى مجلس تحرير اقليم جبال النوبة، ولم يقدمها الى رئيس الحركة الشعبية، في إشارة واضحة، إلى عدم اعترافه برئاسة الحركة الشعبية، قبل أن يغادر موقعه فيها !! وهذا خطأ فادح، لا يبرره إرتكاب قيادة الحركة الشعبية، لأي أخطاء، ما دامت هذه القيادة، لا زالت هي القيادة الشرعية، خاصة وأن الحلو شريك في تلك الأخطاء، بحكم منصبه في تلك القيادة، ولهذا يحمد له أنه ختم خطاب استقالته، باعترافه بارتكاب أخطاء قيادية وإدارية !!
ولقد هاجم الحلو غياب المؤسسية داخل الحركة الشعبية، ووصف رئيسها، وأمينها العام، بالإنفراد بالقرارات، وغموض المواقف، والإعتماد على التقديرات الشخصية، وفقدان المصداقية، وعدم الرجوع الى القاعدة، والتفاوض بإسمها، والقبول بسقوف دنيا في ذلك التفاوض. ومن حق القائد عبد العزيز آدم الحلو، أن ينقد آداء زملائه في الحركة الشعبية، بل من واجبه أن يفعل ذلك، متى ما كان ضرورياً، ومن حقه أن يطالب بأن يكون للحركة " منفستو" واضح، ومن حقه أن يطلب من قاعدة الحركة الشعبية، سحب الثقة في القيادة، وعزل عقار وعرمان .. ولكن كل ذلك يجب ان يتم بصورة ديمقراطية، تتفق مع دستور الحركة الشعبية نفسه، أما أن تجتمع مجموعة كبيرة أو صغيرة، من أعضاء مجلس تحرير جنوب كردفان /جبال النوبة، والذي عينة القائد عبد العزيز الحلو نفسه، ليصدر هذا المجلس الإقليمي، قراراً بحل المجلس القيادي للحركة الشعبية، والتي تضم إلى جانب حركة جبال النوبة، حركة النيل الأزرق، وعضوية الحركة الشعبية في جميع أنحاء السودان، وخارج السودان، فإن هذه مفارقة للأسس الديمقراطية، ما كان ينبغي للقائد عبد العزيز الحلو أن يتورط فيها، خاصة وأنه قد إنطلق في إدانته لصاحبيه من الحرص على المؤسسية والديمقراطية، داخل الحركة الشعبية .. يضاف الى ذلك، أن مجلس تحرير جنوب كردفان/ جبال النوبة، لا يمكن من الناحية القانونية الإجرائية، أن يحل المجلس القيادي للحركة الشعبية، الذي هو سلطة أعلى، قامت بتكوين هذا المجلس نفسه، ومنحته صلاحيته. ثم لا يمكن أن يبعد الحلو صاحبيه، ويصبح هو الرئيس، وكأنه لم يشاركهما القيادة، ولم يكن مسؤولاً مثلهما، عما حدث من أخطاء، إعترف بنصيبه منها في خطاب استقالته. كما أن الحلو قد ذكر في خطاب استقالته، أنه لن يصبح رئيساً للنوبة، لأنه لست نوبياً!! وإذا تجاوزنا الملمح العنصري، لهذه العبارة، تجئ إشكاليتها، من أن الحلو لم يلتزم بها، وأصبح الرئيس، بعد أن أطاح بزميليه !! لهذا إعتبر القائد عقار، ما فعله الحلو مجرد إنقلاب، فرفضه، وكتب (وإذا كنا نقبل بانقلاب عبد العزيز لقبلنا بانقلاب البشير) !!
ولعل الحل الأمثل، لأزمة القيادة في الحركة الشعبية، هو ما اقترحه القائد مالك عقار، وذلك حيث قال ( وكان من وجهة نظرنا شخصي والأمين العام أن تترجل القيادة الثلاثية وأن تتولى التحضير للمؤتمر قيادة مؤقتة تتكون من الرفيق اللواء جقود مكوار رئيساً للحركة واللواء أحمد العمدة نائباً للرئيس واللواء عزت كوكو رئيساً لهيئة الاركان ... وان يتولى الرفيق محمد احمد الحبوب موقع الأمين العام .... كما أكدنا أننا لن نترشح لأي موقع بأي حال من الأحوال في المؤتمر القادم وكنا نتمنى من الرفيق عبد العزيز آدم الحلو أن يحذو حذونا )(مواقع التواصل الاجتماعي).
إن الخلاف الجوهري داخل الحركة الشعبية، يدور حول قضية تقرير المصير، لمنطقة جبال النوبة. فبعد العزيز ومن يدعمه من أبناء النوبة، يطالبون بحق تقرير المصير، لمنطقة جبال النوبة، بدلاً عن الحكم الذاتي الإقليمي. وهم حين يفعلون ذلك، يظنون أنهم منسجمون مع فكر الحركة الشعبية، التي ضمنت حق تقرير المصير للجنوب في اتفاقية نيفاشا. أما عقار وعرمان، ومن يؤيدهما من أعضاء الحركة الشعبية، فإنهم لا يؤيدون حق تقرير المصير لجبال النوبة، أو للنيل الأزرق.. ويرون أنه في الظروف الحاضرة، لن يكون في صالح هذه المناطق، بل إنه سيضر بموقف الحركة الشعبية في أي مفاوضات، إذ لن يجد تعاطفاً من المجتمع الدولي أو الوسيط الأفريقي. كما أنه ليس منسجماً مع فكرة السودان الجديد، التي قامت عليها الحركة الشعبية. والحق أن حق تقرير المصير من الناحية النظرية لا خلاف عليه، لأنه حق ديمقراطي أصيل، يعطي الشعوب والجماعات، الفرصة في اختيار الوضع الملائم لها. ولكن من الناحية العملية الواقعية، فإن لرأي عقار وياسر وزناً كبيراً، خاصة بعد تجربة إنفصال الجنوب.
لقد كان الدكتور جون قرنق، رحمه الله، زعيماً مبصراً، ورجلاً عالماً بالسودان، ولذلك حين طالب للجنوب بحق تقرير المصير، طالب لجبال النوبة والنيل الأزرق ب"المشورة الشعبية" .. وفي المشورة الشعبية، يستفتى أهالي المنطقتين، حول ما إذا كانت اتفاقية السلام، تحقق تطلعاتهم، في حل قضايا أقاليمهم. فإن قبلوا باتفاقية السلام، وما جاءت به من حل، فإن ذلك يعني الحكم الذاتي، في اطار السودان الموحد. وإن لم تقبلوا باتفاقية السلام، يجب عليهما مفاوضة الحكومة، في الوضع الذي يريدانه. جاء في قانون المشورة الشعبية (المادة 17 نتيجة المشورة الشعبية يقوم رئيس المجلس التشريعي المنتخب في الولاية المعنية بإعلان نتائج المشورة الشعبية المتفقة عليها وذلك على النحو التالي:
1. في حالة اعتماد المجلس التشريعي الولائي اتفاقية السلام الشامل باعتبارها تلبي تطلعات شعب الولاية تعتبر الاتفاقية تسوية نهائية للنزاع السياسي في الولاية المعنية وتحيل حكومة الولاية الأمر إلى رئاسة الجمهورية لإصدار مرسوم جمهوري بهذا الشأن.
2. في حالة عدم اعتماد المجلس التشريعي الولائي المعني اتفاقية السلام الشامل باعتبارها لم تلبِ تطلعات شعب الولاية المعنية تدخل الولاية المعنية في التفاوض مع الحكومة من أجل تضمين وإقرار تلك التطلعات في الاتفاقية وذلك بمرسوم جمهوري).
ولعل السبب في هذا الاختلاف، بين وضع الجنوب، ووضع وجبال النوبة والنيل الازرق، هو أن هذه المناطق تقع جغرافياً في وسط السودان، وترتبط ثقافياً، وتاريخياً، بمختلف قبائله، وتتزاوج معها.. ولم تكن في يوم من الأيام، مناطق مقفولة يمنع منها بقية السودانيين، كما كان الجنوب. ولهذا فإن الحديث عن تقرير المصير، تمهيداً لفصلها عن بقية السودان، إنما هو شرك تدفعها إليه حكومة الإخوان المسلمين، التي حاولت من قبل، أن تدفع اليه حركات دارفور، ولكنها أفلتت منه. إن هدف حكومة الاخوان المسلمين الآن هو إظهار حركة جبال النوبة، بمظهر الحركة العنصرية، التي تنادي بالإنفصال عن بقية السودان، وترويج هذا الفهم وإشاعته من شأنه أن يعزل الحركة الشعبية، إذا تبنته، ليس عن المجتمع الدولي والوسيط الأفريقي فحسب، وإنما عن المواطن السوداني البسيط، في شمال السودان، وشرقه، وغربه، ووسطه، والذي ما زال رافضاً لفصل الجنوب، دع عنك أن يقبل فصل جبال النوبة. إن تشخيص المشكلة، بأنها مشكلة النظام السياسي، الذي يقوم على الأيدولوجية الإسلاموية العروبية، وليس مشكلة الشعب السوداني، وهو ما ذهب اليه عقار وعرمان، أصوب من الإتجاه الآخر الذي طرحه عبد العزيز الحلو، والذي يريد أن يقرر حق تقرير المصير، قبل أن تحل إشكالية الحكم في السودان. ولكن هذا الخلاف، والذي يملك كل طرف فيه حججه، كان يمكن أن يناقش داخل الحركة الشعبية، وفي مؤتمراتها، دون أن يؤدي الى تمزيق أوصالها، وعزل قادتها، وتنازع أفرادها بين الولاء لهؤلاء وأولئك.
لقد أشار القائد عبد العزيز الحلو، إلى أمر هام، حين ذكر أن السودانيين منقسمين الى فريقين: فريق المشروع العروبي الإسلامي الاقصائي، الذي يسعى الى تثبيت الوضع الحاضر، والفريق الذي يدعو الى رؤية السودان الجديد .. وذكر أنه حتى دعاة "الجهاد المدني"، هم من ضمن المشروع العروبي الاسلامي، الذي قام عليه السودان القديم. ولعل القائد الحلو يشير الى حزب الأمة، كما يشير إلى أن قادة الحركة الشعبية عقار وعرمان، قد اتجهوا لموالاة السيد الصادق المهدي، والحرص عليه، في كل مؤتمراتهم، وتجمعاتهم. كما أنهم اعتبروه من حلفائهم، في معارضة النظام، والسعي لإسقاطه. إن ما ذكره الحلو نقد واعي، وصحيح. فالسيد الصادق المهدي هو بالفعل يمثل السودان القديم، ويمثل الطائفية البغيضة، التي يجب التحرر منها، في إطار تحرير السودان، وبناء السودان الجديد. وموالاة عقار وعرمان للسيد الصادق المهدي، واحتفائهم به، خطأ جسيم، وقع بسببه تضليل كبير للشعب السوداني .. ومع أنه تم في اطار الدبلوماسية، وتوسيع قاعدة المعارضة، إلا أن مفارقة السياسة للمبادئ بهذه الصورة السافرة، لا تسوق إلا إلى خسران الأثنين معاً !! ثم إن ما فعلته قيادة الحركة الشعبية بمولاة السيد الصادق، هو مفارقة لنهج الزعيم الراحل جون قرنق، الذي حين خرج السيد الصادق المهدي من التجمع، وهاجمه في خطاب، رد عليه بتحميل السيد الصادق المهدي، كافة مشاكل السودان، كرمز للطائفية، وحليف استراتيجي للاخوان المسلمين.
ورغم أن السيد الصادق المهدي، يريد أن يتزعم المعارضة، التي تسعى الى اسقاط النظام، والتي تتهم النظام بسرقة أموال الشعب، إلا أنه ذهب إلى إفطار رمضان، الذي أقامة السيد الرئيس، في قاعة الصداقة !! وهو إحتفال صرف عليه من الأموال المسروقة، من قوت الفقراء، واليتامى، والأرامل، والجوعى في معسكرات النازحين في دارفور .. وجاء السيد الصادق المهدي زعيم المعارضة لإحتفال الحكومة، بسيارة الدولة التي يقودها إبنه مستشار السيد رئيس الجمهورية .. فهل هذه معارضة تشرف الحركة الشعبية وسيرة زعيمها ؟!
والسيد الصادق المهدي، ليس ضعيف المواقف فحسب، بل أن افكاره، هي نفس أفكار الجماعات الإسلامية المتطرفة، وهو يمكن أن يتفق حتى مع داعش نفسها، ما دام ذلك يحفظ له الزعامة .. فقد جاء (إتفق تيار الأمة الواحدة وحزب الأمة القومي على ضرورة وجود حوار بين جماعات العمل الإسلامى وصولاً إلى قدر مشترك من المفاهيم لمواجهة الاستهداف الذى تعيشه الأمة الإسلامية. وقال رئيس تيار الأمة الواحدة د. محمد علي الجزولي في تصريح صحافي أمس: إنه التقى رئيس حزب الأمة القومي الصادق المهدي وبحثا التحديات التي تواجه الأمة المسلمة، والاستهداف الممنهج الذي تتعرض له، وأوضح للمهدي رؤية تياره لمواجهة التكفير وقال: "تناولنا الالتباس الذي لحق بمصطلح الوسطية التي تذكر مقابل الجهاد والمقاومة بصورة جعلت من الوسطية مشروعاً ثقافياً متماهياً مع الاستعمار". وأكد على أن الوسطية التى لا تقر المقاومة الشرعية هي وسطية مدمجة، لافتاً إلى إن الجانبين خرجا باتفاق على توقيع مذكرة تفاهم بينهما للعمل على الحوار بين جماعات العمل الإسلامي)(الصيحة 16/6/2017م)
ومحمد علي الجزولي، على جهالته، داعشي معروف، وكان قد ذكر أنه بايع البغدادي، وجعله أميراً على السودان !! وأعتقله رجال الأمن، ثم أطلقوا سراحه، لتقارب حركة الإخوان المسلمين وحركة داعش.. وهو المسؤول عن تضليل عدد من الشبان والشابات، من جامعة مأمون حميدة، وتجنيدهم لداعش، ومقتل بعضهم في سوريا وفي ليبيا. فإذا اتفق السيد الصادق المهدي مع هذا الداعشي، على أي شئ، فإن تلك واحدة من مخازي السيد الصادق المهدي، التي لا تحصى، والتي تلحق بمخازيه الأخرى، منذ توقيع إتفاق التراضي الوطني مع حكومة الاخوان المسلمين، وحتى إفطاره معهم، في موائد السحت، الملطخة بدماء الأبرياء.
إن الحركة الشعبية تقف الآن في مفترق الطرق، وأمامها طريقين لا ثالث لهما. فإما أن تصر على مبادئها، وتركز على النهج الديمقراطي، وتعيد هيكلة نفسها، وتحديد أهدافها القائمة على مبادئها، وتتعالى على الصغائر وحظوظ النفوس، فتتجاوز أزمتها، وتحقق وحدتها.. وإما أن تركن إلى النزاعات، والأقاويل، والتراشق بالإدانات في الأسافير، والإختلاف دون السماع لوجهة النظر الأخرى، حتى تتمزق وتفنى. إن واجب القادة في الحركة الآن أن يفكروا، حتى يقيض الله لهم مخرجاً، يكون لهم به نجاة، وللسودان حركة واعدة وقوية.
د. عمر القراي