الحكمانية: تحكم أم إحكام: تعليق علي تجربة الحكم المحلي في السودان
د. الوليد آدم مادبو
27 November, 2011
27 November, 2011
(الإنقاذ حالة خاصة!)
الحكمانية هي عملية ترشيد الموارد البشرية والمادية بما يحقق الأهداف المعلنة للدولة ويلبي الأشواق المرجوة من الشعب. غير أن غياب الفلسفة التوجيهية (أي الرؤي) في بعض الحالات يؤدي إلي إرباك قانوني وإداري يجعل من الصعب، إذا لم يكن من المستحيل تفعيل خطة تهدف إلي إحكام "دورة إتخاذ القرار." كما أن الشروخ التي تحدثها محاولة التغول الفوقي تحول دون الإستثمار الحيوي والفاعل للموارد وتفنِّد من جدوي الإعتناء القيمي بالبشر (كغاية وليست فقط وسيلة لتحقيق مصلحة حُكمية). إذ أن التصميم الخلاق والصياغة المُحكمة لمقررات الحكم المحلي في مدينة ما، تجعل أولي أولوياتها إيجاد وحدة شعورية وإستبصار وجهة حضارية بناءة تكون بمثابة الجسر المدني لكسر حلقة الإنعزال الفكري، الطبقي والمكاني.
إذا لم نُسرف في التعريف فإن روح الحكم المحلي كادت تُُزْهَق متأثرة بالإعتلال السلوكي والبنيوي في بعض البلدان. من الناحية السلوكية فإن مشرب الحاكمين كان مَلامتياً يهدف إلي التخلص من التبعة المالية ويتعمد الإمساك بزمام الأمر السياسي، حتي إذا ما فشلت التجربة أو كادت تفشل مثقلة بالتكلفة المالية الباهظة لتشييد المحليات ومستدفعة حد الإحتراب محاولة التغول في سلطتها السيادية، لا يُلام إلاَّ من طالب بالإستقلالية في أول الأمر، أو من سعي للإيفاء بحاجات المواطنيين (من المهد إلي اللحد) ودفع إستحقاقات المواطنة متجاوزة فواصل الهوية ومتقلبة علي حدود المكان.
أمَّا من الناحية البنيوية فيلزم تقييم مؤسسات الحكم المحلي بمعياري الكفاية والكفاءة. كيف يتم التنسيق علي المستويين الرأسي والفوقي (يشمل ذلك توزيع الإيرادات وتلقي الأوامر الإدارية)؟ هل هنالك تباين بين النصوص الدستورية القانونية والواقع الإداري/التنفيذي؟ هل يتمتع المسؤول (الضابط الإداري، المعتمد، المدير التنفيذي، إلي آخره) بمؤهلات وملكات تؤهله لردم الهوة بين المثال والواقع؟ ماهي درجات التداخل بين تلقينا لمفهوم الحكمانية كعلم وتشربنا لتفاصيله كفن أم أن نصيبنا من الإثنين هو نصيب "أم الحُليس" كما يقول المثل العربي؟
في الوقت الذي تركَّزُ فيه الهيئات العالمية علي المعايير المهنية والنظم الإحترافية، يواري التساؤل عن الأزمة الهيكلية التي عقبت الحرب العالمية الباردة والتي تسببت في إنهيار نظم سياسية واجتماعية بإسرها دون أن تحاسب الجهات المسئولة بذات المعايير، أو أن تعمل غيرها علي صياغة موجهات أخلاقية جديدة، إنما التباكي وإلقاء اللائمة علي القيادات الوطنية التي لم تحسن مراعاة الخصوصية ولم تدافع عن حقوق المجموعات الأثنية المتحاربة حتف أنفها -- حال انشغال النخب العالمية بتفكيك المنظومات الإنتاجية المحلية قبل إعادة إنخراطها في النظام العالمي، وذلك لضمان إندماجها كأطراف تابعة لا كمراكز مستقلة متساوية. ففي الوقت الذي شهدنا فيه حرباً إعلامية علي الإمبرالية في بعض البلدان لم تبذل النخب المحلية أي جهد لمقاومة التوسع الرأسمالي، بل قبولاً لفكرة العميل المنوط به تعميم علاقات السوق علي أنها ظواهر أبدية، غير تاريخية، الموكل به تأويل العلاقة بين الدين والدولة تأويلاً يرفض القيم التي أنتجتها الرأسمالية مثل الحرية الفردية، والديمقراطية السياسية. "من هنا نفهم شمولية الخطاب الأيديولوجي الرخيص الذي يرسي في نهاية المطاف إلي هجرة النضال من أرضية الواقع الإجتماعي إلي سماوات البديل "المطلق" " (سمير آمين، ص:52،288).
في الوقت الذي تسعي فيه السلطات المحلية لتقديس ما هو دنيوي يتحاشي المواطنون تدنيس ما هو سماوي. مثلاً، عندما قرر أحد المعتمدين "الرساليين" إعطاء الشويحات نظارة علي حساب البديرية برر ذلك بقوله: الأرض لله سبحانه وتعالي يورثها من يشاء من عباده، مافي زول عندو أرض. لم تعجز بداهة الأعراب إفحامه بقولهم: "من أم قيعو لأم صميمة الله ما عندو شبر واحد!" إذا كان الله قد اورث الأرض للعباد فإنه قد إستودعهم الحكمة التي تهيئ إستغلالها بطريقة تخلق التكامل الإجتماعي والإقتصادي. هذا ما فهمه الإعرابي بقريحته التي أدركت أن إقحام البعد الرأسي إنما قصد منه تغييب البعد الأفقي الذي يستهدف أول ما يستهدف إمكانية التماسك الداخلي ومن ثم إضعاف المقدرة التفاوضية للمجموعات الإقليمية المعينة. وإلاًّ فأي فائدة جناها الترجم أو المعاليا من نظارات لم يكن لديها مردود مادي علي حياتهم (إنما مجرد تضخم معنوي)؟ وإذ أن التقوقع الوجداني يحول دون إمكانية الانفتاح الاقتصادي فإن الانفساح المادي يهئ لأصحابه تغليب التجمع "المصلحي" علي الالتقاء "الطبيعي". فما الذي يخشاه المعتمدون الرساليون؟ علي الصعيد السياسي هم يريدون ريفاً مفككاً يحول دون توزيع الثروة لصالح الأطراف، وعلي الصعيد الإقتصادي هم يريدون تفاوضاً سهلاً يعفيهم عن تحمل الأعباء الخدمية وتدارك الأخطار البيئية حال الزحف المرتقب لقوي التوسع المركانتاليسمي. يُعجب المرء عندما يسمع قولهم أن الأرض ملك الدولة (بعد ما عجزوا عن تمريرها للسماء) علماً بأنه لا يوجد في هذا البلد شبر إلاّ وهو مسجل حاكورة بإسم قبيلة ترفض تجاوزها بوكلاء غير شرعيين ولا يستحيل التفاوض معها علي أسس تنموية تغلَّب المصلحة البشرية علي الإعتبارات الربحية المحضة. لقد نجح الإنجليز في إيجاد صيغة عدلية مُرضية للمستثمر وللطرف القبلي/ الوطني في مشروع الجزيرة، فلما يستحيل إيجاد مثل هذه الصيغ في العيلفون، جبال النوبة، جبل مرة، أم عجاجة أو أبو فاما وكافة المشاريع الزراعية؟ بل كيف يستبدل العنصر الوطني بعنصر أجنبي علماً بأن إنسان السودان والإنسان النوبي قديماً، هم أول من إبتكر مفهموم الزراعة وعلَّمه من بعد للبشرية جمعاء. إن أبسط التقنيات ساعدت هؤلاء البسطاء (حديثاً وليست قديماً) علي تحسين إنتاجيتهم وتدارك بؤس حالتهم، فلماذا تضنُّ عليهم الأنظمة "الوطنية" بالتمويل، التدريب والبحث العلمي الرشيد؟ ببساطة، أن العولمة لا تجعل الإنسان (محور) تفكيرها، إنما الربح والربح علي المدي القريب أو الوسيط.
في كتابه (في مواجهة أزمة عصرنا)، يفسر د. سمير امين الأزمة التي نعيشها بأنها ازمة هيكلية تتمثل في الإستقطاب العالمي الذي الغي فاعلية الدولة علي التدخل من أجل تأطير قوانين السوق كما حرمت المجتمعات من قدرتها علي تطوير ديمقراطية ذات مضمون إجتماعي شعبي. لقد اطبق الغول (غول العولمة) بفكيه --الإنفتاح الإقتصادي والفيدرالية السياسية-- علي مجتمعات الجنوب إطباقاً أذهلها عن نفسها وسلبها فرصة التضامن المطلوب لمواجهة التحدي لفرض مشروع مستقبلي يتجاوز المحلية لتحقيق عالمية شاملة تخضع العولمة لاحتياجات التقدم الاجتماعي ومقتضيات الرفاه الإنساني. إذن، لسنا في حوجة إلي أجنده تفتيتية (حقوق المرأة، حقوق الطفل، حقوق الأقليات، إلي آخره) قدر حاجتنا إلي منهجية كلية تجمع بين آليات الإقتصاد والصراعات السياسية والاجتماعية التي حددت إطار حركية المجتمع علي الأصعدة الوطنية وعلي الصعيد العالمي (المصدر السابق، ص:104).
لقد التقت النخبة المحلية ولأسباب خاصة بها مع إستراتيجية النخب العالمية العامدة إلي كسر استقلالية المجتمع الريفي من خلال الغزو المقنن لأراضيه المملوكة جماعياً، والساعية إلي ضرب الحركة العمالية من خلال التوزيع غير السوي إلي عائدات رأس المال المستخرجة إضافياً من الخصخصة والموظفة لصالح فئة متنفذة مدينياً. لا غرو فقد أحدث التفاوت الطبقي والتمايز الجهوي فراغاً أدخل السودان ومن حوله من الدول الفقيرة في إتجاه تكوُّري سلبي وأسنده حلقة جهنمية مفرغة.
في ظل هذا الفراغ يصعب بل يستحيل التكلم عن وجود فلسفة إدارية أو حكمة أهلية، إنما إسناد مهمة النعيق إلي وكلاء مهمتهم تفعيل التناقضات الأثنية والقبلية وجلّ غايتهم تأجيل الزحف نحو المركز ومقاومة تفكيكه، ولو مفاهيمياً، بكافة الوسائل الإعلامية والسبل الكيدية.
بإستطاعتنا أن نبكي: حتي الأشجار لم يعد بإمكانها أن تموت واقفة.
ماذا يستطيع الشجر أن يفعل ضد وطن يُضمر حريقاً لكل من ينتسب إليه؟
وبإمكان البحر أن يضحك: لم يعد العدو يأتينا في البوارج. أنه يولد بيننا في أدغال الكراهية.
أحلام مستغانمي
لا أعلم عن شعب من الشعوب السودانوية قد أخلص لفكرة قومية مثل شعب النوبة، لكنهم دوماً رفضوا، وبإباء، إستغلال فكرة القومية لتقنين هرمية عرقية لا تكتفي بالنزر اليسير والمرير من المنابذات العنصرية، إنما تستبيح أرضهم وديارهم وأموالهم وأراضي غيرهم من شعوب التخوم. ولنا أن نسأل: ما الذي أعاق إمكانية تحقيق (كون)فدرالية تحقق أشواق الريف وتبعد شبح الإقتتال بين المجموعات الأثنية المسلحة؟ هل كان من الأجدي الإبقاء علي فكرة الحكم الإقليمي والتقدم تدريجياً نحو الفيدرالية أم أنه لا يسعنا إلاََّ الرجوع إلي المركزية مع إجراء بعض التعديلات الدستورية اللازمة.
قبل الإجابة علي هذه الأسئلة وغيرها يجب أن نتتبع مسيرة الحكم المحلي للوقوف علي المحطات الرئيسية، ومن ثم تقييم التجربة وفق معايير محددة مثل الإستقلالية في إتخاذ القرار والإيفاء بحاجات المواطنين. في ورقته (محطات في مسيرة الحكم المحلي)، تتبع الأستاذ عبدالله علي جاد الله مسيرة الحكم المحلي تتبعاً زمنياً فيه إشارات لبعض التغييرات النوعية.
بدءاً أوصت لجنة ملنر عام 1931م بتبني مبدأ الحكم غير المباشر والذي أصُدر قانونه وسمي قانون المحاكم الأهلية عام 1932م. لم يكن الحاكم العام متحمساً للإدارة الأهلية، فإستصدر ثلاثة قوانين للحكم المحلي (سمي قانون الحكومات المحلية للبلديات، الأرياف والمدن 1932م) أفسحت المجال للمتعلمين للانخراط في سلك الإدارة الجديدة. تكونت بموجب هذه القوانين 26 سلطة للأرياف و17 سلطة للمدن. كان التكوين بالتعيين وانتهي بالانتخاب المباشر لثلثي المجلس وبالتعيين للثلث لضمان وجود الكفاءات والخبرات. تعتبر هذه من اللحظات النادرة التي انفتحت فيها قنوات الاتصال بين النخب المحلية التي كانت ترياقاً للحركة الوطنية ورجالات الإدارة الأهلية. كما انفسح المجال لتحقيق ديمقراطية قاعدية كانت مثالاً للطرفة جعلت الناظر إبراهيم موسي مادبو يقول حينها أن "أولادنا الأفندية علمونا كلام الفلهمة: أجندة، أقترح وأثني، ونقطة نظام، كو مافي عوجة" (جاد الله، ص:142).
لم يخلو هذا التواصل القاعدي من مناكفات جعلت كثير من المتطلعين يثأرون لعجزهم عن خوض معركة التنوير بأدواتها الحقيقية بالمزايدة علي الإدارة الأهلية في الوطنية والتشكيك في جديتها لإلحاق رعاياها بركب التقدم والمدنية. ويتندرون بالوراثة التي كانت وسيلة النظم التقليدانية "للحفاظ علي إستمرارية المؤسسة، وتراثها وأدبياتها، ومفاهيمها ورموزها" (المصدر السابق، ص:156). تشأ الأيام أن تفضح مزاعم أولئك وهؤلاء، فها هي "الفئة المستنيرة" التي تعاقبت علي حكم السودان لمدة أربعة عقود تستبدل الوراثة بالقداسة، بل تهرع إلي تحقيق مصالح ذاتية ولا تتواني إذا دعا الأمر أن تستثمر محنة أهلها وقد كان من قبلهم من رجالات الإدارة الأهلية ينافحون بكل ما أوتوا من بأس للحفاظ علي كرامة أهلهم مستندين علي مرجعية كونية جعلت الضعيف في ذمة القوي والفقير في ذمة الغني والفاجر في ذمة التقي. لقد سد أولئك الرجال فراغاً تركه المآمير المصريون بعد ثورة 1924م، فعملوا بهمة ونفاذ ضاهي فاعلية الجهات الرسمية. مثلاً، مقارنة ب25452 قضية جنائية و 4049 قضية مدنية حاكمتها محاكم الدولة عام 1943م، حاكمت المحاكم الأهلية 49327 قضية جنائية و 14084 قضية مدنية (المصدر السابق، ص:121). فلم يستكنف أحدهم أن يراجع في قضية أوقعت ظلماً بأحدي رعاياه دون أن يعد ذلك إنتقاصاً لسيادته. بل أنهم كثيراً ما كانوا يدرءون عن أهاليهم الرسوم والأتاوات بحكمة ترفع عنهم غل المستعمر وتحفظ لكياناتهم الإستقرار الإجتماعي والاقتصادي، فكيف بنا ان نقارنهم بفئة كادت تقرض علي أهلها رسوماً علي النوم والصحوة. كل ذلك في سبيل تأمين إحتياجات المعتمدية الآنية مثل المصروف اليومي والعربة وإذا استدعي الأمر فلزوم الاستقبالات الجماهيرية.
لم يكن رجل الإدارة الأهلية في حوجة إلي صفة رسمية تؤهله للقيام بواجباته الإنسانية أو رتبة تستحثه لدفع استحقاقات الزعامة التاريخية والاجتماعية. فها هو الناظر منصور العجب ينفق علي فقراء مدرسة بسنجة الوسطي وهم عشرات ويمر علي المستشفي فيتفقد المرضي، وها هو الناظر منعم منصور يتكفل بتعليم الرحل، ومن بينهما ينبري الناظر الصديق طلحة بأريحية حلت عقدة عن لسان الشاعر الكبير عبدالحليم علي طه فأنشد:
الجود إنتصر و حاتم لقالو طبيق
إحسانك كثر وإنا سدري بيهو يضيق
لقد قام النظار والسلاطين والمكوك بواجباتهم علي أتمها في ظل حكومة مركزية كانت تدعم قراراتهم وتحافظ علي مكانتهم الرفعية وسط أهلهم. أما وقد تبدل الزمان فإن معظمهم قد أصبح لسان حال الحاكم وأذنه الصاغية. ليست بإرادتهم ولكن بإرادة المركز الذي ما عادت تحكمه لوائح ونظم قانونية، إنما أمزجة حزبية وأهواء شخصية.
تلت فترة تكوين السلطات وتنفيذها عبر إداريين منتدبين من وزارة الداخلية، حقبة قانون الحكم المحلي لعام 1951م والذي تضمن ثماني مبادئ رئيسية أوصي بها د.مارشال عملت علي تنظيم العلاقات بين المصالح المركزية والسلطات المحلية. ثم إستصدر قانون إدارة المديريات 1960م والذي قلص سلطات المجالس المحلية وخول بعضها لمجلس المديرية، مع استمرارهما في العمل جنباً إلي جنب. وهنا يرد سؤال مهم تجنب الإجابة عنه كثير من المنظرين والمشتغلين بالإدارة الحديثة. حال حدوث تقاطعات، أيهما يتبع الاخر--النظام الأهلي أم المدني-- حيث أنه قد يتعذر سيرهما بالتوازي في ظل التطورات الراهنة، إدارياً وسياسياً؟
يجب أن ينتبه المرء إلي أن قانون إدارة المديريات 1960م قد استصدر في فترة حكم الفريق عبود (1958-1964م) والذي حافظ علي المهنية الإدارية رغم تبرم بعض من قادته من تردد بعض رجالات السلك الإداري في قبول الموجهات السياسية التي إعتبروها مساساً باستقلاليتهم وقد كانوا شديدي الحساسية من إختلاط السياسي والإداري، وتغليب الأول علي الآخر تغليباً يؤدي في نهاية المطاف إلي إختلاط العقائد السياسية بالاعتبارات الإدارية السليمة (محمد مريود، ص136). ألغيت بموجب قانون الحكم الشعبي المحلي 1971م سلطات مديري المديريات ومفتشي المراكز وتم تكوين المجلس الشعبي التنفيذي للمديريات الذي يرأسه المحافظ المشرف علي تعبئة المنظمات الشعبية المحلية والمتكفل برعاية "النظام الثوري الإشتراكي". فإستعاضت السلطة المايوية في هذه الحقبة عن الإدارة الأهلية بنظام المحاكم الشعبية والمجالس الإدارية والتي تولتها مجموعات طفيلية لم تجد أفضل من بعض شعارات إكتوبر الزائفة لإفشاء حنقها فسادت الفوضي والخراب المتعمد أنحاء البلاد (المصدر السابق، ص:97).
يندرج تحت هذا مجلس شعبي المنطقة، يليه في التدرج الرأسي المجلس الشعبي الريفي (الذي ينضوي تحته مجالس القري والفرقان) ومجلس شعبي المديرية (الذي ينضوي تحته مجلس الحي، مجلس السوق ومجلس المنطقة الصناعية). غير أن مجلس الشعب التنفيذي، حسب رأي الأستاذ شيخ الدين يوسف من الله، لم يمنح سلطاته إلي أي مستوي آخر، مما ساهم في تركيز سلطات الحكم المحلي في هذا المستوي، جاعلاً منه مركزاً خانقاً، هذه المرة علي مستوي المديريات التي واجهت اختصاصات إضافية دون أن تنال مصادر تمويل كافية مما دفعها إلي فرض ضرائب العون الذاتي علي مبيعات المحاصيل والحيوانات وعوائد السكن لتلافي العجز في ميزانياتها (من الله، ص:117،121) وذلك لأول مرة في تاريخ الحكم المحلي. اتسمت العلاقة المالية بين الحكومة المركزية والحكومة المحلية منذ ذلك الوقت وحتي الأن بضبابية حالت دون وضع نظام ضريبي يعمل علي تنويع وتقسيم مصادر الدخل الضريبي بين الحكومة والمركز. لا ننسي تفشي روح الإتكالية التي أدت إلي إهمال الإيرادات الذاتية وأضعفت همم الراغبين في الإلمام بالمكونات التفصيلية لموارد الثروة بالأقاليم. سيما أن السعي إلي إشباع رغبات المواطنين الجهوية قد كان علي حساب الكفاية الإدارية (المصدر السابق، ص:194،204). مما أفقد الحكم المحلي فاعليته في تخطيط، تمويل وتنفيذ المشروعات التنموية. إذ أن الممثلين "الرسميين" يشكلون عائقاً يحول دون إنسياب المعلومة ويزهدون في تحقيق المصالح الحيوية لأهليهم، فقد إنخفضت روح المشاركة الشعبية في حقبة لاحقة إلي حد يستحيل معه منع التجربة من الإنهيار.
تحت تنامي الضغط لنيل حداً معقولاً من اللامركزية السياسية (وليست بالضرورة الاستقلالية السياسية)، ورغبة المركز في التخلص --ولو تدريجياً-- من العلاقات السياسية الهرمية ذات الجذور الإقطاعية، أصدر قانون الحكم الإقليمي 1980م والذي أنشأ بموجبه مجالس مناطق بالمديريات سميت بالمجالس الوسيطة، خولت لها سلطات مجالس الشعب التنفيذية التي تضمنت بعض الشخصيات الاعتبارية من المدن والارياف. لم يجد المركز صعوبة في تركيز العمل السياسي علي المستوي الإقليمي، إذ سرعان ما استعرت المنافسة القبلية للسيطرة علي أجهزة الحكم الإقليمية وذلك قبل أن تأتي الإنقاذ فتقنن مفهوم المخاصصة الأثنية وتفعِّل الإستقطاب القبلي إلي درجة "تعطيل الفاعلية الحركية في إطار المعادلة الوطنية الكبري" (آدم الزين، دراسات في تجربة السودان الفيدرالية، ص:44). كما أصدرت الحكومة الديمقراطية قراراً بشأن الحكم الاقليمي والمحلي لكنها لم تصدر قانوناً حتي قيام الإنقاذ في 1989م.
جاءت الانقاذ مزمعة تطبيق الفيدرالية من خلال نظام إتحادي يعين الذات المحلية علي اكتشاف نفسها التي أوغلت في الإرتباط بمركز طائفي لم تنل منه سبل الإزدهار المعنوي والمادي، لكنها فعلت ذلك بطريقة سلبية جعلت مكونات هذه الذات في تشاكس دائم ولم تعنها علي "إعادة تركيب المعاني الحقيقية للحكم الإتحادي" (الكرسني، دراسات في تجربة السودان الفيدرالية، ص:124).
تم التوسع علي المستويين الأفقي والرأسي علي أسس أيديولوجية لم تراع التوازن بين المقدرة المؤسسية والعبء التنموي. كما لم تستحدث معالجات هيكلية تعرِّف مستوي التداخل بين مستويات السلطة المختلفة، محلياً، ولائياً وإتحادياً، ولم تحدد معايير لترسيم الحدود الإدارية: قبلية، خدمية، أم أمنية (أنظر خريطة بعض المحليات والتي تشبه الكلية في خاصرة بعض المعتمديات). أصدرت الدولة المرسوم الدستوري العاشر لسنة 1994م والذي أوجد ست وعشرين ولاية بدلاً عن تسع أقاليم وقد كانت النظم الأولي بمثابة وحدات إدارية كبيرة وفَرت قدراً أكبر من الأمكانات الاقتصادية والموارد البشرية والطبيعية مما يكفل كفاءة إدارية أعلي ويرفع مستوي الأداء ويؤدي إلي زيادة الإنتاج (من الله، ص:129). وقد كانت القوانين تتوالي منذ عام 1991م حتي اصبحت الولايات هي التي تصدر قانون الحكم المحلي بموجب الجدول الرابع من الدستور الانتقالي 2005م. فلا عجب أن زاد عدد المحافظات بنسبة 444% (الكرسني، ص:6)، إنما العجب تضخيم الأجهزة الاتحادية والتي كان من المفترض أن تتقلص لصالح الأجهزة الولائية حتي تتفرغ الأولي لرسم الإستراتيجية علي رأي الإداري علي جرقندي. وإذا كانت الحكومة الإتحادية بذات الحجم فما الداعي لوجود حكومة ولائية في الخرطوم؟ كل هذا والانقاذ تبحث عن غطاء جماهيري تعوض به عن الشرعية التي يفتقدها النظام (يوسف تكنة، دراسات في تجربة السودان الفيدرالية، ص:9) والذي ضحي بنظم الإدارة الحديثة ليقر نظاماً لا مركزياً في ظاهره ومركزياً في حقيقته (من الله، ص:197).
لم يعمد النظام علي إعادة تقويم تقسيماته الاعتباطية والتي هزأت بهوية الريف وضربت تماسكه الوجداني (دون المساس "بفلسفتها" الشمولية الرامية إلي جعل المحليات عبارة عن وكالات للسلطة التنفيذية)، حتي اصطدمت قواه بحائط المبكي المالي (المستوي الولائي ينال 75% من ميزانيته من المركز، مستوي المحلية ينال 75% من ميزانيته من الولاية). مما اضطره إلي اتخاذ قرارِِ بتقليص المحليات من 674 محلية إلي 134 محلية، ومراجعة وضعية المعتمدين (عددهم 168) باتجاه تقليصهم إلي 100 محافظ في قانون 2003. بل إن بعض المختصين قد أوصي بإلغاء مستوي المحافظة والإبقاء علي الحدود الإدارية للمحليات بغية تحسين كفاءاتها الإدارية والحاقها بوحدات ولائية كبيرة بالقدر الذي يسع جغرافية المنطقة وتاريخها ويمكنها من الإيفاء بالتزاماتها الاجتماعية (من الله، ص:46،81). ومن السياسيين من يري ضرورة الإبقاء علي فكرة الإقليم مع إلغاء المستوي الولائي والأمر كله خاضع للتشاور في نهاية الأمر.
يناسب هذا التوجه الفلسفة الإدارية الرامية إلي الإستفادة من الحوكمة الإلكترونية وتقنين السلطة السيادية من خلال تفعيل عملية التدامج لمجموعات متباينة من البشر. فالاولي تسهل عملية التواصل الرأسي والثانية تقنن عملية الدمج الأفقي.
يقول محمد مريود (إداري بالمعاش) في كتابه القيم --تجربتي الإدارية في السودان-- إن "الإدارة لا تتطور بالشعارات أو--بالتصنيفات أو الألفاظ المبهمة، إنما الترجيح بين النظرية والواقع" (محمد مريود، ص:22). حتي الآن تعاملت الإنقاذ مع الحكم المحلي علي أساس أنه مشروع سياسي تعبوي وليست مشروعاً تنموياً خدمياً، مما جعلها تصدر ست قوانين ما بين 1991م و2007م دون أن تستند في أيهم علي معايير علمية أو لوائح تنظيمية. إنما الإستقواء بموقف المعتمد أو الوالي الذي يعتبر المنفذ الفعلي بل المنعم علي الأجهزة التشريعية التي اكتفت بالبصمة علي الموجهات التي تتنزل عليها إتحادياً. في مثل هذه الظروف: التغول المستمر من قبل السياسيين علي الجهاز الإداري، غياب المؤسسية التي تعُنْيَ بتحديد المهام الوظيفية، أصبح من الصعب، بل من المستحيل علي الضابط الإداري أن يحافظ علي حياديته وبالتالي موضوعيته وعلميته. فهجرت هذا الحقل المنيف كفاءات أعطت أفضل ما لديها لتقويم هذه الدعامة التي إعتبروها ركناً اساسياً في بناء سودان موحد وجدانياً ومتوازن تنموياً وخدمياً. لا ننسي الجيوش المتفانية التي احيلت الي الصالح العام عاماً بعد عام، (معدل 35- 45 ضابط إحيلوا سنوياً للصالح العام منذ بداية الإنقاذ)، والتي لا يمكن استبدالها بعد القطيعة المهنية التي حدثت بتلقي اخر دفعة تدريباً إتحادياً 1987م. في الوقت الذي ترشح فيه الإنقاذ النفاية للعمل في ميدان الإدارة، كان البريطانيون ومن عقبهم من الوطنيين يختارون الأكفاء من الخريجين الجامعيين وذلك بعد اجتيازهم إمتحان في الثقافة العامة والأدب والفكر. كان هؤلاء الضباط يتلقون تدريباً ميدانياً يستمر زهاء 18 شهر يفسح لهم إمكانية التعرف علي المجتمعات، لتشرب قيمها والتعرف علي فلسفة الحكم المحلي من منطلق أخلاقي وانساني. ينتدب بعدها الضابط لتلقي دبلوم عالي أو ماجستير من بريطانيا أو الولايات المتحدة. ما أن يكمل الضابط دراسته حتي يضمَّن في كشف التنقلات الذي يحتم عليه العمل في كافة أنحاء البلاد. إعتاد الضباط الاداريين مؤخراً علي التمترس في الخرطوم، علي سبيل المثال، خصص لجنوب دارفور في فترة من الفترات 57 ضابط إداري وللإشراف علي 16 وحدة إدارية، كما خصص للخرطوم 300 ضابط إداري للإشراف علي 6 محليات (عبدالله علي جاد الله، ص:3).
إن ضياع المعالم العامة والخاصة لمفهوم الإدارة المدنية، عجز الدولة عن ترقية شروط الخدمة العام (أبراهام كوت رياك، دراسة في تجربة السودان الفيدرالية، ص:117) وتخليها عن مسؤولياتها في تقديم الخدمات (الكرسني، ص:124) كان بمثابة الحكم غيابياً علي تجربة الحكم المحلي بالفشل وقد كانت هذه التجربة ذات إنجازات كثيرة في مجالات الخدمات الأساسية والتنمية الاجتماعية، كما حرمها فرصة الإستعانة بكوادر "قيادية جديدة ورسمية مقتدرة وملتزمة بالأهداف العامة" (محمد أحمد داني، دراسة في تجربة السودان الفيدرالية، ص:111).
إننا (عن اهلهم البشاريين) لم نطلب من عبود مدرسة عند زيارته لنا، فقط طلبنا منه أن يبني لنا شفخانة بيطرية................... (من الله، ص:40)
لابد من وجود كوادر مؤهلة ومدربة كي تسهم في وضع الاختصاصات والصلاحيات للسلطات المحلية المنوط لها تخطيط وتنفيذ وتمويل مشروعات التنمية (من الله، ص:40،41) بناءاً علي قاعدة معلوماتية متينة (داني، ص:100، 117) وأطر مفاهيمية سليمة. هنا يجب أن ننوه أنه لا يمكن للمستوي الثالث أن ينجح فيما فشل فيه المستوييان الكبرييان. مثلاً، إن مسئولية المستوي الاتحادي أن يوجد البنية التحتية الأساسية الموصلة بين الولايات، كما أن مسئولية المستوي الولائي ان يوجد الطرق التي تربط مدنه بعضها ببعض، وكذلكم الأمر بالنسبة للمستوي المحلي. فلا يمكن للدولة أن تستخدم الفدرالية ذريعة لتقليص أو تجفيف الموارد المقدمة من الوزارات لصالح الصحة والتعليم. فإن من أولي واجبات الدولة الاتحادية أن تقيم مدارس بداخليات لأبناء الرحل والمزارعين في الريف (لا أن تكتفي بمدارس المدن)، أما ما يطرأ من نقص فإن من واجب الولاية ان تسده إلي حين تطور خطة إستراتيجة جديدة. لقد كانت التنمية تدعم إتحادياً بنسبة 80%، وتوفر 20% من الموارد الذاتية. أما وقد أنعكس الأمر، فقد عجزت المحليات حتي عن دفع نسبتها لخلو المواعين الضريبية من الدخل. لقد كان المواطن حتي حين "يحمل وعياً ناضجاً وفهماً وطنياً لقيمة الضريبة بإعتبارها أمرًُ واجب السداد" (محمد مريود، ص:9، 25)، أنظر حال المك في جبال النوبة الذي ظل محتفظاً بالضريبة في جرابه لمدة ست سنوات.
لكنه (أي المواطن) بعد التمحيص أحس بأن أمكانته المالية تدفع لسد فم الغول الفاغر الذي أغرت شهيته الجيوش الجرارة من العاطلين الذين إقتضت شرعه الولاء أن تستحدث لهم وظائف سيادية تلتهم 90% من البند الأول وهو لا يمثل في بعض الولايات أكثر 0,6% من نسبة العاملين بالخدمة العامة بالولاية في ولاية جنوب دارفور (إبراهيم كوت، ص:60). (تخيل أن مواطناً يدعي أبو حليمة، كان كاتباً مؤقتاً في سوق المحصول، وجد نفسه بين عشية وضحاها، وزيراً ولائياً للمالية). وإذا نظرنا إلي كافة الأقاليم فإن هذه الإعتمادات المركزية علي شحها تمثل 6.5% من الموازنة البالغة 349 مليار جنيه و0.7% من الناتج القومي الإجمالي المقدرة ب2,946 مليار جنيه للعام 1994/1995م (الكرسني، ص:124)
لعلنا نهتدي من هذا إلي سبب من أسباب انهيار الخدمات الأساسية (كالصحة العلاجية والوقائية والتعليم)، وانتقال جل الولايات من خانة الاكتفاء إلي خانة الدعم (إن ولايتين فقط نجحتا في تحصيل 50% من الإيرادات ذاتياً، هما الخرطوم والبحر الأحمر، كما أن 60% من المحليات فشلت في تسديد الموارد)، الأمر الذي إعتبره المختصون إنتكاسة كبيرة تعود بأدراجها إلي إهمال أنماط ودرجات إستقلال أجهزة الحكم اللامركزي عن المركز وإستقلالها عن بعضها البعض (من الله، ص:195).
لقد نظرت الإنقاذ في جدوي تمركز ميزانية التنمية بوزارة المالية والإقتصاد الوطني لكنها لم تهتدي إلي آلية وكيفية تقسم بها الثروة حتي استصدر مرسوم جمهوري سنة 1995م بإنشاء صندوق قومي لدعم الولايات. لقد كان من المفترض تطوير معايير تراعي خصوصية التمييز النسبي مثل المعيار الإداري الذي يعمل علي إعادة توظيف وتوزيع القوة العاملة علي المستويين الاتحادي والولائي، المعيار الاقتصادي الذي يعكس المكونات التفصيلية لموارد الثروة بالإقاليم؛ المعيار الجغرافي الذي يتطلب الإلمام بطبيعة المجتمعات وسلوكها والإطار البيئي التي تعمل فيه؛ المعيار الأمني الذي يستلزم النظر إلي طبيعة المنطقة العسكرية والسياسية إذ أن المناطق التي تقع في شريط نزاعي (علي حد تعبير الأستاذ الطيب حاج عطية) تتطلب مراعاة الخصوصية الثقافية التي أدي اهمالها إلي تعميق أزمة الهوية (كما يقول الأستاذ حامد علي محمد نور).
قبل أن يهتدي الإنقاذيون إلي فلسفة تخصصية تعالج مسألة الاختلال التنموي جاء الاستقطاب داخل المؤتمر الموطني عام 1999م ليؤجج مسألة الاستقطاب الجهوي والعرقي التي انفجرت باندلاع حرب في غرب البلاد عام 2003. لقد شهدت هذه الفترة توتراً هيأ للنخبة الغالبة إستخدام الصندوق وسيلة للسيطرة المركزية علي الولايات والتدخل في شؤونها، بل معاقبتها أحياناً وحرمانها من كافة حقوقها الأساسية استناداً إلي الموقف الأمني الذي ظل متراوحاً بين الإغارة والحرب الشاملة. علماً بأن الأموال التي أهدرت (أوهكذا صنفت 80% من الموازنة العامة) في الحرب والتآمر الأمني كان يمكن أن تزيل جزءاً من الغبن لو أنها وجهت للتنمية في المناطق الآمنة نسبياً مثل جنوب دارفور التي لم تشهد حرباً حتي تاريخ اتفاقية أبوجا (2006). لكنها الإستراتيجية القاضية بإستبقاء الريف (خاصة دارفور المتغلغلة شمالاً) في حالة عجز نسبي متمثل في القصور المادي والفناء المعنوي كي ينشغل بنفسه ولو إلي حين. صحيح ان هنالك تعقيدات حالت دون الوصول إلي حل شامل لكنها تعاويذ من فعل الساحر الذي إن شاء سعي إلي إبطالها، لكنه إنشغل بالتلاعب علي أعين الناس بالوصول إلي اتفاقية فوقية لا تغني عن محاولة الإصلاح القاعدي. لقد اختصرت الدولة خارطة الاستثمار القومي علي الربع الخالي من أرضها وقد كان حري َّ بها أن تسعي سعياً دءوباً وجاداً لحصر "المكونات التفصيلية لموارد الثروة بالبلاد" (من الله، ص:194). نرجع فنقول إنها العنصرية التي جعلت النخبة الغالبة تستقطب دعماً إقليمياً لبناء أربعة مصانع للأسمنت في الشمالية علماً أن إقتصاديات التنمية تقتضي بناء هذه المصانع في مناطق مختلفة لتقليل تكلفة الترحيل إذا لم ندرك أهمية التشغيل (فهل نعزي هذا إلي إنعدام المادة الجيرية في شتي بقاع السودان؟).
لقد بلغ هؤلاء المسوؤلون من عدم المبالاة، والإستهتار بعواطف الناس مبلغاً جعل بعضهم لا يتحرج من إفتتتاح المشروع الواحد مرتين إذا لم يجد ما يقدمه للناس في تلكم الزيارات الجماهيرية الصاخبة! كم مرة وُضِعَ حجر الأساس لمشروع تنموي في دارفور وغيرها دون أن يدرج في الميزانية أو توضع له الإعتمادات اللازمة. بل كم مرة تم إعادة توظيف أموال تبرعت بها دول آخري لصالح التنمية في الشرق أو الوسط، أو غيره من التخوم التي لا تري النخبة الغالبة (المغلوبة بإذن الله) مصلحة في تطويرها. سأل أحد نافذي النظام عن سبب إهماله للشرق فتعذر بأن تعداد الشرق لا يعدل ربع الخرطوم! إذن فالنظرة نظرة تمكينية تتجاوز الجغرافيا والتاريخ وكل ما من شأنه أن يذكر بالإنسان المنوط به تحقيق البيان.
عِوضاً عن توسيع قاعدة المشاركة الشعبية فإن "تقصير الظل الإداري" (كممارسة غير معيارية لفلسفة حكمية) قد أدي إلي تركيز السلطوية الهرمية إذ إن كافة الصلاحيات قد سُحبت من الضابط الإداري وأُعطيت للوالي أو المعتمد الذي لا يخضع لقانون محاسبة العاملين كما لا يخضع للجهاز التشريعي لأن هذا الأخير معين علماً بأن القانون ينص علي شرعية انتخابه ودستورية مساءلته من قبل الجهاز التشريعي. حال إنعدام الثقافة الدستورية، هل يَحِل الانتخاب (بخلاف الإنتداب) مُشكلة النغمات التي تشذ عن سيمفونية الإدارة؟ هل يُعتبر المعتمد "الأول وسط رصفاء" هم المدير التنفيذي ومدراء الإدارات، أم أنه سيظل الراعي في ظل ثقافة سياسية مُترعة بالوصاية؟
إذن، فالناظر إلي شأن السودان اليوم برؤية وطنية خلاقة ينشد إنتقالاً تدريجياً من حالة المركزية الإدارية والسياسية إلي اللامركزية السياسية واللامركزية الإدارية، الأمر الذي يتطلب إنفاذه وجود سلطة إتحادية قوية وفاعلة تمكن أي مستوي من الحكم من أداء الواجبات وإنفاذ التخصصات التي كلف بها (الكرسني، ص:114). كما يستلزم مُراعاة درجة النمو الاقتصادي ومستوي التدهور البيئي الذي إضمحل بفعل الطبيعة وإصطناع البشر للحرب (مهدي بشير، دراسة في تجربة السودان الفيدرالية، ص:150).
ختاماً، بعد أن تتبعنا مراحل التردي الإداري والسياسي في السودان تتبعاً زمنياً يلزم أن ننتقل إلي التلخيص البياني الذي يشير تجوزاً إلي ثلاثة مراحل رئيسية: قانون المديريات (1960)، قانون الأقاليم (1980)، قانون الولايات (2000). بالنظر إلي درجة الإستقلالية في إتخاذ القرارات المالية والإدارية، مستوي المشاركة الشعبية الذي يقره الإيفاء بحاجات المواطنين ومتطالباتهم، نلاحظ أن الفلسفة الإدارية قد إنتقلت تدريجياً من محاولة الإحكام لدورة إتخاذ القرار إلي التحكم الذي أفقد السلطة فاعليتها وحرمها فرصة الارتقاء بالمواطن معرفياً وحضارياً. سيما أن الإفتقار التام للمنهجية والتغييب المتعمد إلي التدابير المؤسسية قد أهدر طاقة حكمية كان يمكن أن توظف مثلما فعلت الهند في تعميق مفهوم الحكمانية وترسيخ مبادئ الحكم الراشد الذي يستلزم وجود الدستور كجهة منظمة للعلاقات الرأسية والأفقية بين المواطنين، سيما تحديد الحقوق والواجبات وتعريف الإطار القانوني الذي يحول دون التغول في الشأن السيادي أو ذاك الإداري. حبذا المؤامة بين النظرة الجزئية المُتخصصة التي تحدوها الرغبة في المكسب والرؤي الشاملة التي تنشد التنمية المتوازنة كوسيلة للإستقرارالمادي والوجداني للشعب.
االمراجع:
حامد علي محمد نور. دارفور: حديث في تاريخ التهميش وتهميش التاريخ. 2000م.
دراسات في تجربة السودان الفدرالية. الطبعة الأولي. شعبة العلوم السياسية بجامعة الخرطوم ومؤسسة فريدرش أيبرت، الخرطوم،٢٠٠١م.
سمير أمين. في مواجهة أزمة عصرنا. دار سينا، القاهرة، 1996م.
د/ شيخ الدين يوسف من الله. الحكم المحلي خلال قرن عرض تحليلي لتجربة السودان (1899- 1998).
أ.عبدالله علي جاد الله. مع الإدارة الأهلية في مسيرتها.
محمد مريود علي إبراهيم. تجربتي الإدارية في السودان بين النظرية والواقع. دار الطباعة والتجليد.
مقابلات شخصية:
أ. إسماعيل مراد (إداري بوزارة الحكم الإتحادي). 1/ إكتوبر/2009م.
أ. عوض سعيد سعدون (إداري بوزارة الحكم الإتحادي). 6/ ديسمبر/2009م.
أ. صلاح بابكر (أمين عام وزارة الحكم الإتحادي). 19/يناير/2010م.
أ. فتح الرحمن عبد الماجد (مدير إدارة التنسيق والمتابعة بوزارة الحكم الإتحادي).
21/ يناير/ 2010م.
أ. إبراهيم علي موسي (مدير وزارة الحكم المحلي والخدمة المدنية). 26/ يناير/2010م.
أ. الشيخ بشير أبوكساوي (معتمد محلية امدرمان). 28/ يناير/2010م.
أ. علي جرقندي (إداري بوزارة الحكم الإتحادي). 12/يونيو/2010م.
أ. عبدالله علي جاد الله (رئيس إتحاد الضباط الإداريين سابقاً بوزارة الحكم الإتحادي). 27/يوليو/2010م.
أ. الجيلاني عمر تريبو (امين عام الحكومة). 1/اغسطس/2010م.
أ. نعمات شريف عمران (ضابط إداري بالمعاش). 6/مارس/2008م.