Military Rule in the Sudan: The First Five years of Ja’far Numayri (2/2)
Peter K. Bechtold بيتر كي. بيشتولد ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذا هو الجزء الثاني من ترجمة مختصرة لمقال للدكتوربيتر كي. بيشتول، الذي عمل أستاذا للعلوم السياسية بجامعتي ميري لاند ثم بورتلاند، ومسؤولا في مكتب معهد الخدمة الخارجية التابع لوزارة الخارجية الأمريكية (1976 – 2006م)، نُشر عام 1975م في العدد التاسع والعشرين من مجلة الشرق الأوسط Middle East Journal . وللكاتب عدد من المقالات الأخرى عن الحكومات البرلمانية والعسكرية بالسودان، وكتاب صدر عام 1976م بعنوان: Politics in the Sudan: Parliamentary and military rule in an emerging African nation (السياسة في السودان: الحكم البرلماني والعسكري في دولة أفريقية ناشئة). عاش بيشتولد لسنوات في مصر والسودان في سنوات السبعينيات الباكرة. المترجم ************* ************ انقلاب يوليو 1971م (1) ليس بإمكان الاستياء وخيبة الأمل وحدهما إزالة نظام أي طغمة عسكرية من سدة الحكم. غير أنهما تمهدان الطريق للتغيير عند محاولة الإطاحة بمثل ذلك النظام. وليس بوسعنا الآن تقويم تقدير قيادة الحزب الشيوعي الاستراتيجي لخيبة الأمل والاستياء الشعبي من حكم نميري. غير أننا نرى أن تلك القيادة ربما تكون قد قررت الرد على هجوم نميري على حزبها بُعَيْدَ صدور قرارات نوفمبر 1970م، وقررت بالفعل القيام بانقلاب عسكري عليه منذ فبراير 1971م (2). ولم يكن نميري يتوقع مثل ذلك الرد اليساري القوي، ربما بسبب عدم اطلاعه على ما كان متداولا حينها في مراكز الرأي السياسي. فقد كان قد أمر في مايو بحل النقابات العمالية ومنظمات الشباب والنساء (التي كانت تحت قيادة الشيوعيين)، ووضعها جميعا تحت مظلة "الاتحاد الاشتراكي"، ذلك التنظيم الوحيد الذي كان بصدد إنشاءه. وظل الشيوعيون يمارسون نشاطهم السياسي حتى يوم 18 يوليو 1971م، بينما بقي نميري يفتخر بنجاحه في السيطرة على نشاط الحزب الشيوعي عند إعلانه عن إرسال مجموعة أخرى من قادته إلى سجن زالنجي. وفي اليوم التالي لذلك الإعلان قاد الرائد هاشم العطا انقلابا ناجحا ضد نظام نميري، بطريقة تشابه تماما ذلك الانقلاب الذي قاده خصمه قبل نحو عامين. غير أن انقلاب هاشم العطا كان قصير الأجل، وغدا قادته في نهاية المطاف ضحايا لمحاولتهم. ويصعب بالطبع تخمين ما كان سيحدث في ظل ظروف أخرى مختلفة. غير أنه كانت هنالك بعض المعلومات الموثوقة بأن ردة الفعل الشعبي لوقوع ذلك الانقلاب لم تكن معارضة له بصورة خاصة، وكان معظم السودانيين فيما يبدو يتنظرون مزيدا من المعلومات عن هوية وتوجه وسياسات ذلك الانقلاب الجديد قبل أن يحكموا له أو عليه. ولا شك أن نميري كان قد جمع ضده في غضون عامي حكمه عددا كافيا من الأعداء المدنيين من كل الاتجاهات، وكان عليه في 19 يوليو أن يواجه أعدائه في الجيش، قاعدة سلطته الوحيدة الباقية. وبدا أن الحركة الانقلابية الجديدة لن تواجه اعتراضات أو احتجاجات شعبية لمناصرة نميري وجنده إلى أن ارتكب الحكام الجدد خطأ قاتلا (حرفيا) بسماحهم بقيام مظاهرة جابت شوارع العاصمة، رُفِعَتْ فيها الأعلام والرايات الحمراء تبشر بـ " بزوغ فجر جديد" تحت قيادة السلطة (الانقلابية) الجديدة. وبذا انطبعت هوية ذلك الانقلاب في أذهان الجماهير بارتباطه بالشيوعيين. وسرعان ما أيقظ ذلك المشاعر المعادية للماركسية عند كثير من مواطني السودان والدول المجاورة له. وقام بعض العسكريين من هؤلاء باستعادة حكم نميري ورفاقه في يوم 22 يوليو 1971 (3). ونسبت غالب الصحف العالمية الفضل في عودة نميري للحكم للرئيس المصري أنور السادات وللقائد الليبي معمر القذافي. فقد كان السادات قد أعلن من إذاعة "صوت العرب" بأنه سيقف إلى جانب شريكه في "اتحاد الدول العربية" الذي كان يزمع تكوينه، بينما أَنْزَلَ القذافي طائرة الخطوط البريطانية لما وراء البحار التي كانت تقل اثنين من قادة انقلاب 19 يوليو (في مطار بنينة ببنغازي) يوم 22 يوليو، وسلمتهما لاحقا إلى نميري لمحاكمتهما وإعدامهما (4). وسمحت السلطات المصرية لخالد حسن عباس – وزير دفاع حكومة نميري الذي كان خارج البلاد يوم 19 يوليو- بقيادة القوات السودانية التي كانت ترابط في السويس والتوجه للخرطوم. غير أن من أعاد نميري للحكم كانوا هم ضباط وجنود القيادة العسكرية الشمالية في شندي، والذين تحركوا نحو الخرطوم بُعَيْدَ إعلان ليبيا عن القبض علي قائد حركة 19 يوليو. والجدير بالذكر أن قائد حركة 19 يوليو بالخرطوم (هاشم العطا) كان قد أذاع بيانا للناس بمجرد سماعه لتحرك قوات القيادة الشمالية نحو الخرطوم كي يهبوا لحماية "الثورة الحقيقية ضد الغزاة الأجانب". ولم يَجِدْ ذلك البيان الداعي للدفاع عن حركة 19 يوليو استجابة إلا من قلة من أشد مناصريه إيمانا بالحركة. وفي غمار الفوضى التي أعقبت دخول تلك القوات نجح نميري في الهرب من حراسه في القصر الجمهوري، وقاد قوة محلية ضد جنود هاشم العطا. وفي غضون ذلك اليوم وما تلاه تم القضاء على "التمرد" والقيام بأكبر عملية مطاردة تمت بالشرق الأوسط للبحث عن الشيوعيين واعتقالهم. وتم الحكم بالإعدام رميا بالرصاص على أكثر من 12 من الضباط المشاركين في الانقلاب، مع عدد من المدنيين كان من بينهم عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي، والشفيع أحمد الشيخ رئيس نقابات عمال السودان، والمحامي والوزير الشيوعي الجنوبي جوزيف قرنق. وهنالك جوانب مهمة في أحداث 19 – 22 يوليو ينبغي هنا التعليق عليها: أولها هو أن تلك المحاكمات العجولة والاعدامات الفورية أصابت قطاعات كبيرة من عموم السودانيين بالصدمة، ليس لسابق بقية من تعاطف مع قادة الشيوعيين، بل لأن كل الانقلابات السابقة بالبلاد كانت "سلمية"، ولم ترق فيها نقطة دم واحدة، ولم يحدث قط أن صاحب أي انقلاب سابق عنف سياسي الأسباب (عدا في حالة التمرد بالجنوب). وكان ذلك العنف والقتل الذي مارسته قوات نميري بعد عودته يخالف الأعراف السودانية التقليدية المعتادة. وهنالك العديد من التفسيرات من ذلك السلوك "غير السوي"، كان من أهمها ما كابده نميري من شِدّة وكرب وغضب شديد لما جرى للمخلصين من ضباطه على أيدي الانقلابيين (الجدد)، انعكس بصورة مباشرة على المحاكمات العاجلة والاعدامات السريعة، التي كانت تشابه ما جرى في المغرب قبل أسبوعين من انقلاب 19 يوليو، إضافة إلى الاشمئزاز الذي أحس به غالب السودانيين (لما جرى لضباط نميري) وجعلهم يتصرفون بصورة مبالغ فيها، لم تكن لتحدث في الظروف العادية (5). أما النقطة الثانية فتتعلق بالحزب الشيوعي، وكيف أن تلك الحركة الانقلابية في 19 يوليو قد كشفت – للمرة الأولى - عن قوته الحقيقية. فحتى ذلك التاريخ كان الحزب الشيوعي يعمل خلف أو داخل منظمات (نقابية أو شبابية أو غيرها)، أو متحالفا مع يساريين أو متعاطفين آخرين، خاصة من الشباب في المدن الثلاث. وكان الشيوعيون يبالغون دوما في تقدير قوتهم بمساواتهم بين النفور من الطوائف العقائدية والعسكرية والأحزاب المدنية التقليدية وبين الايمان بالماركسية والالتزام بها. ولا شك أنه كان هناك من أنجذب للحزب الشيوعي من باب الاعجاب بتفانيه ودقة تنظيمه ومستوى قيادته الرفيع. غير أن كثيرا من أمثال هؤلاء لم يكونوا على استعداد للتضحية بأرواحهم أو حريتهم عندما حانت ساعة الشدة في يوم 22 يوليو 1971م. ولا شك أيضا في أن تزايد شعبية جعفر نميري بصورة مُفَاجِئَة بعد ذلك التاريخ تَأَتَّت – لو بصورة جزئية - من تعامله الحاسم مع الشيوعيين، وبدا نميري في نظر البعض وكأنه "المنقذ الْمُخَلِّصُ" من "التهديد الشيوعي". والنقطة المهمة الثالثة المتعلقة بذلك الانقلاب هي تدهور علاقات السودان مع دول شرق أوروبا بصورة دراماتيكية. فقد أشار نظام نميري لبلغاريا وألمانيا الشرقية بأصابع الاتهام لتورطهما في التخطيط للانقلاب، وأتهم كذلك الخبراء العسكريين السوفييت بالتدخل غير المباشر مع هاشم العطا، وذلك باكتفائهم بمراقبة صامتة لما كان يحدث بمعسكر الشجرة، ولمحاولتهم تأخير بدء مهمة إنقاذ نميري التي كانت تجري بقاعدة وادي سيدنا. وبعد العودة لسدة الحكم اتهم نميري الإتحاد السوفيتي علنا بالتدخل في شؤون بلاده، وهدد بقطع العلاقات الدبلوماسية معه. وعلى الرغم من أن ذلك التهديد لم ينفذ فعلا، إلا أنه ساعد على تهيئة الأرض لإعادة وتحسين العلاقات مع الدول الغربية لاحقا. وأخيرا، ومصداقا لمفهوم "الكرامة السودانية" التي يَضْرُبْ بها المثل، يندر أن يذكر أحد في السودان الدور الذي أدته دول خارجية في عملية إعادة نميري للحكم في 22 يوليو 1971م. فلم يعد يذكر عند الكثيرين إلا لماما نقل مصر للجنود السودانيين لقاعدة وادي سيدنا، أو إنزال القذافي للطائرة التي كانت تُقل بابكر النور وفاروق حمد الله، الأمر الذي قصم ظهر الحركة الانقلابية. ولعل السودان كان يشعر ببعض الحرج الوطني من ذكر مساعدة دولة "صغيرة" مثل ليبيا له. ****** ************ تطرق الكاتب بعد هذا الجزء عن انقلاب 19 يوليو 1971م إلى تحول نظام نميري إلى اليمين اقتصاديا وسياسيا (مع الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية والخليج العربي). وكتب في خلاصة بحثه (التي جاءت في صفحتين ونصف) التالي عن الحكم العسكري: "في غضون العامين الأولين للحكم العسكري يحتمل الشعب حكم العسكر عادة تحت ذريعة "منحهم فرصة". وعقب ذلك يجب على ذلك الحكم إما: أ. أن يقوم الحكم العسكري بتمدين (civilize) نفسه بطرق شتى، مثل تلك التي سلكها عبد الناصر في مصر، وأيوب خان في الباكستان، وأتاتورك في تركيا. أو ب. أن يحتفظ النظام بشكله العسكري، ولكن عليه في هذه الحالة أن يقيم مؤسسات وحركات سياسية خارج التنظيم العسكري الحاكم حتى يمكن له استقطاب قطاعات واسعة من الشعب، لجعلها – على الأقل- تتخيل أنها تشارك في الشؤون العامة بالبلاد. وإن عجزت الطغمة العسكرية أو تأبت عن عمل أي من هذين الخيارين، فسيحيق بها ما حاق بنظام إبراهيم عبود من فقدان لأي صلة له بما يعده عامة الشعب من أمور مهمة بالنسبة له، وهذا من شأنه أن يجعل التأييد الشعبي للنظام يتآكل ويضمر (6). ************ ***************
إحالات مرجعية 1. عنون الكاتب هذا الجزء (The July 1971 Putsch)، وتعني كلمة Putsch "عصيان أو تمرد مسلَّح" أو "محاولة انقلاب عنيف". وآثرنا هنا أن نسميه هنا "انقلاب يوليو 1971م". 2. استشهد الكاتب هنا بما أدلى به بابكر النور عثمان في لندن يوم 21 يوليو 1971م، والوارد في مقال لبيتر هارفي بصحيفة .Manchester Guardian 3. للمزيد عن انقلاب 19 يوليو 1971 وعودة نميري للحكم بعد ثلاثة أيام يمكن النظر في كتاب عبد الله علي إبراهيم "انقلاب 19 يوليو: من يومية التحري إلى رحاب التاريخ"، وكتاب فؤاد مطر المعنون: "الحزب الشيوعي السوداني: نحروه أم انتحر". والروابط: https://tinyurl.com/yyp2l6qj و https://tinyurl.com/y3c2rop7 . 4. أنظر ما جاء في موقع إسفيري حول إجبار طائرة بابكر النور وفاروق حمد الله على الهبوط في ليبيا https://tinyurl.com/yyyux7vu 5. لقراءة وجهة نظر مغايرة يمكن النظر في كتاب عبد الله علي إبراهيم المعنون "مذبحة بيت الضيافة 1971م: التحقيق الذي يكذب الغطاس" في سلسلة "كاتب الشونة". 6. لعل الحكم العسكري الأول (1958 – 1964م) كان قد حاول تجريب الوصفة التي ذكرها الكاتب فأنشأ مجالس حكم محلية وكون "المجلس المركزي". غير أن ذلك لم يجد فتيلا. انظر المقال المترجم بعنوان "الانتخابات في السودان خلال العهد العسكري" https://tinyurl.com/y9nno4y4