الحلقات المفقودة … التغيير والحرب في السودان

علي عكس ما يظن البعض فإن حميدتي و قواته كانوا العقبة الكبري في طريق التغيير المعقد أصلا و لفهم ذلك لابد من فهم طبيعة التغيير الذي حدث في السودان أواخر العام ٢٠١٨ و أدي إلي إنهاء حكم الرئيس البشير.
أما التغيير نفسه و الكيفية التي تم بها قد خلق فراغا في الساحة و أضعف الدولة بدرجة جعلت التربص بها سهلا مما فتح المجال لطموحات و أطماع من الداخل و الخارج، ذلك لأن الجهة التي قادت التغيير و استجاب الناس لنداءاتها أختفت كقوة فاعلة عقب التغيير مباشرة و سبب ذلك بوضوح شديد أنه لا وجود حقيقي لهذه القوي في أرض الواقع.

لم تحدث في السودان ثورة شعبية حقيقية قادتها جموع المعارضين و تنظيماتهم السياسية و نقاباتهم المهنية و إن توفرت كل أسباب الثورة و الإستعداد الشعبي فإن التغيير لم يتم بطريقة طبيعية organic لقد تمت سرقة كاملة للغضب الشعبي و أدارت قوة خفية هذا الغضب لتحقيق تغيير منسق محدد الأهداف orchestrated يرمي للإطاحة بمجموعة الرئيس البشير و مجموعات أخري داخل منظومة الحكم دون فقدان السيطرة علي ماكينة الدولة.
في نفس الوقت تم تسويق هذه العملية إقليميا و دوليا كإقتلاع كامل للنظام لتحقيق إنفراجة علي هذين المستويين و هذه الجزئية كانت ضرورية لكسر الجمود في علاقات السودان الخارجية.
من المهم هنا أن نذكر أن من كان وراء هذا التغيير قد أخطأ التقدير و أن هذا التذاكي و الذي سيكلف البلاد فيما بعد أثمان باهظة لم ينطلي تماما علي الأطراف الإقليمية و الدولية المشاركة و الداعمة له لكن مصلحة تلك الأطراف دعتها أن تتظاهر بالتصديق playing along كون أن هذه العملية منسجمة مع مصالحها علي المديين الطويل و القصير حيث أن المقصود هو فتح البوابات المغلقة و خلق فجوات للتمدد و بطبيعة الحال لن تكتمل هذه العملية دون تقديم تنازلات حقيقية لا يهم معها في الواقع اذا ما كان التغيير فعليا أو مفتعلا و هذا هو المطلوب تحديدا للعالم الخارجي.

كيف تم ذلك؟ كما ذكرنا فإن الوضع العام في السودان كان ناضجا للتغيير و لسنوات عدة بسبب ملل الناس من النظام الذي فسد و أفسد و بسبب انحراف منسوبيه عن المسار نتيجة لمًا فتحته لهم سياسات التمكين من فرص للتنفذ ضعفت معها النفوس مما أدي لتمددهم و سيطرتهم علي كل مقدرات البلاد و ظلمهم للناس و قد استمر هذا الوضع لزمن طويل بسبب غض قيادات التنظيم الحاكم النظر عن كل شيء مقابل الولاء الأعمي فلم تعد هنالك مسئولية أو محاسبة لأفراد التنظيم طالما قدموا هذا الولاء و و رغم ضجر الناس و بغضهم للظلم و المحسوبية فأنه قد تأخر التغيير لأسباب موضوعية:

أولا الغياب شبه الكامل لقوي معارضة و منظمة حيث أن العدمية السياسية التي أدار بها النظام البلاد أدت إلي تدمير شامل لكل التنظيمات السياسية في الساحة و اختراق ما تبقي منها لتكون مطية للنظام يسيطر به علي الحكم و المعارضة في آن و يمرر عبرها كل أجندته .. هذا واقع لا يمكن انكاره بحيث أن بلغ منسوبي النظام في بعض التنظيمات المخترقة ما يمكنهم تمرير المخططات و أجندة النظام بالأغلبية الميكانيكية و تصعيد الموالين للنظام ليكونوا و جوها للتنظيمات المختطفة.

ثانيا: الإنفراج الإقتصادي الذي حدث في منتصف الألفينات و ما تبعه من رفاهية محدودة لبلد عاني شظف العيش سنين طوال كان ذلك تخديرا استمر تلك السنوات و أمتد لسنوات أخري تحايل فيها الناس علي الضيق و ابتكروا كثير من الوسائل لذلك و لكن بشكل عام كانت الحياة محتملة.

ثالثا و كنتيجة لما سبق ذكره من غياب قيادة سياسية مجتمعية ثقافية و النهاية المفاجئة للإنفراجة الإقتصادية بعد إنفصال الجنوب دخل المجتمع السودان في صدمة كبيرة هددت منظومته القيمية و الأخلاقية مما أدي إلي حالة ارتباك كامل تراجعت فيه كل الأعراف و الثوابت المجتمعية بدرجة ملحوظة و تغيرت اهتمامات الناس و أولوياتهم، كل ذلك تم بصورة سريعة جدا و ملحوظة جدا و كارثية جدا مما أدي إلي تكريس الفراغ و تعثر تكوين قيادة واعية تدير دفة التغيير و توصل مركبته إلي نهايتها المنطقية و في غياب ذلك وجد الشعب نفسه حائرا و بالضرورة كان منطقيا سهولة تضليله و إختطافه كما حدث لاحقا.

في ذلك الوقت بدأ ثمة صراع داخلي في منظومة الحكم حيث بدأت بعض الأطراف في التململ من طول بقاء الرئيس البشير في الحكم و ينبغي أن نذكر هنا أن طبيعة العلاقات داخل النظام معقدة جدا و ليس من السهل فهمها و لكن أهم ما ينبغي ملاحظته أن أكبر خاصية مكنت النظام من الإستمرار لثلاثين عاما هي مقدرة قادته علي إدارة خلافاتهم و توزيع أدوارهم علي عكس بقية القوي السياسة الأخري.
كانت بداية النهاية عندما فقد النظام هذه الخاصية و دون الدخول في تفاصيل سنتعرض لها مستقبلا فإن خروج الخلافات عن السيطرة لأسباب متعددة أهمها موت الدكتور حسن الترابي و الذي كان صاحب الدور الأساسي في سياسة إحتواء الخلافات و عدم السماح بتفاقمها مهما كلف الأمر أيضا فأن الصراع الذي تفجر مع الأجهزة الأمنية و التبديلات التي تمت علي مستوي قيادتها التي كان تسيطر علي الدولة و أسرار النظام …. هذه الأجهزة لعبت فيما بعد دورا كبيرا ربما كان انتقاميا من الرئيس البشير و بدأت في خلق الأزمات لإضعاف النظام و تأجيج الغضب الشعبي ضده و تسخيره لإحداث تغيير جزئي للإطاحة بالرئيس البشير و مجموعته و مجموعات أخري متنفذه.
و من ثم بدأت تظهر الأزمات المفتعلة بشكل واضح من تجفيف للأسواق من العملات و أزمتي الخبز و الوقود و بدأ واضحا أن الرئيس بدأ في لحظات تائها كالسيدة ماري أنطوانيت مستغربا الأزمات و كان ذلك بسبب التغييب المتعمد له و ذلك لأن القصد تغيير وجه النظام كما لو حدث تغيير شامل فيما يكون الفصيل المتآمر مسيطرا علي ماكينة الدولة خفاءا و قد تم تسويق هذه العملية داخل منظومة الحكم بأمرين هما الفساد العائلي الذي ارتبط ببعض أقارب الرئيس البشير و من حوله و أيضا ضرورة إجراء تغيير ظاهري بالإطاحة برأس النظام الرئيس البشير و معاونيه لتجاوز العزلة العالمية.
أيضا كانت بعد مقدمات و خلفيات هذه الصراعات عملية التطهير التي تمت لخلصاء البشير فيما عرف بعملية القطط السمان و التي سميت فيما بعد التغيير بلجنة إزالة التمكين! و بعض مظاهر الصراع أيضا مسألة الإغتيالات المعنوية التي استهدفت البشير نفسه و القيادات المقربة منه سبق ذلك أيضا بعد المحاولات التجريبية لإختبار الشارع و قابليته للإنقياد كما حدث في موضوع العصيان المدني و البقاء في المنازل! سقط الكثيرون في تصديق هذه الأكاذيب و الوقوع في هذا الفخ اللعين كما توهم آخرون و رغبوا في تبني أدوارًا كبيرة تمكنهم من تسويق نفسهم كأبطال في معارك لم يشاركوا فيها. بعد و أثناء التغيير تجاهل الناس أسئلة هامة:

السؤال الأول: ما هو تجمع المهنيين و كيف تم تكوينه و من هم قادته الحقيقين و ما هي مواقفهم و هل هم فعلا شخصيات صلبة مقاتلة بمقدرات أكبر من الذين عارضوا النظام و عانوا لسنين عجاف؟ حقيقة الأمر أن تجمع المهنيين و معه التجمع الإتحادي لما يكونا إلا أدوات في أيدي القوي الخفية بتكوين ذكي من بعض منسوبيها و بعض من تم استغفالهم لتكملة الصورة..
من خلال تجمع المهنيين و تنظيماته تم السيطرة علي عملية التغيير و بيع الوهم للشعب الذي لم يميز بين الثورة و الإحتفالية فمعظم الذين يتحدثون عن الثورة هم مما لا تاريخ لهم في رفض الظلم و التسلط لسنين طوال و لا دور نضالي لهم في عملية التغيير التي دخلوا فيها بعد أن أصبحت قرارا سهلا و سباحة مع التيار. ما حدث في أبريل ٢٠١٩ كانت إحتفالية كبري لا علاقة لها بفكرة الثورة .. خرجت جموع الشعب محتفلة بنهاية النظام بعد أن فتحت لها الأبواب و تجمع الثوار الجدد في الخارج بعد أن أصبح التغيير واقعا و توهم الجميع أدوار عظيمة و معظم هؤلاء ممن لم يكن لهم دور او موقف مبدئي لثلاثة عقود و لكن بريق التغيير و ضرورة اللحاق بركبه زينت للناس تغيير ألوانهم و إعادة انتاج مواقفهم. و بالتأكيد ضمن هؤلاء من كانوا صادقين في ذلك و معظمهم من الشباب الذين تمت خديعتهم و منهم من ضحوا بكل غالي و نفيس و قدموا نفوسهم فداءا و لكن قطار التغيير كان مليئا بجموع الإنتهازيين.
كل هذه الفوضي كان من الممكن لملمة أطرافها لولا الوجود الخطر لقوي غريبة علي المشهد السياسي السوداني و هي قوات الدعم السريع التي كانت تعزف لحنا مختلفا و لديها خططها المختلفة جدا.. فالجانب المشترك بين بقية القوي السياسية الأخري بما فيها بعض فصائل النظام السابق كان هو حتمية التغيير و لم يكن هنالك مفر من ضرورة ذلك و كان واضح أن الصراع السياسي كان من الممكن أن يفضي لنتائج جيدة و لمستقبل أفضل لجيل التغيير و لكن وجود الدعم السريع أفسد كمل شيء فالدعم السريع ظهر كقوي متربصة بالجميع و بإختصار فإن التغيير أفسد خطة الدعم السريع و قائده حميدتي الذي كان يعد العدة للإطاحة بالبشير و نظامه.
لذلك أنه بعد أن تمت عملية التغيير و خلالها انتهزت قوات الدعم السريع و التي بدا واضحا أن لديها خططها المختلفة و الملاحظ أنه و منذ نهايات حكم الرئيس البشير فإن هذه القوات ظلت تنمو بشكل مضطرد و بإستقلالية عن النظام الحاكم و نجحت في تحقيق نمو في خط موازي للجيش ساعدها علي ذلك فكرة أنها تتبع مباشرة للرئيس البشير و لعل هذه كانت أكبر أخطاء البشير الذي وضع نفسه رهينة للمجهول حيث يحتار المرء كيف لدولة أن تري كيانا عسكريا يتمدد و يتنفذ و يتطور بسرعة صاروخية دون ان يشعر بالقلق الكبير عن كنه هذا الكيان و من يقف خلفه فمن الواضح جدا أن نمو الدعم السريع و بناءه بالصورة التي تمدد بها في السنوات الأخيرة لم يتم عن طريق الدولة السودانية بل تم ذلك عن طريق جهات خارجية اتخذت عطاءات و مبررات للدعم كمحاربة الهجرة غير الشرعية و الإتجار بالبشر و هنا تظهر سذاجة الدولة و مسئوليها و ضعف الحس الأمني لدي مؤسساتها و ربما بعض التآمر أيضا و عندما تتستمع لقائد هذه القوة متحدثا عن نشأتها تشعر بأن وراء هذه القوي قصة ما مريبة و مثيرة للأسئلة.
فيما انشغل الناس في السودان بالعبث السياسي و الفوضي التي أعقبت التغيير و الذي كان من ضمن خططه تصعيد الصغار إلي المناصب الكبري كجزء من لعبة ترمي لإستمرارية السيطرة علي الدولة ففي خلال تلك الفترة بدأ المشهد السياسي مؤسفا و مخيبا لآمال من ظنوا أن التغيير حقيقي و أن البلاد تسير في الطريق الصحيح فتم تقديم قيادات بائسة و غير مقتدرة و معظمهم ممن كانت لديهم ارتباطات خفية بالنظام السابق و ليس سرا أن كثير من قيادات تلك المرحلة كانوا ممن كانت لديهم إرتباطات خفية بالنظام و أجهزته التحتية.
لم يكن لذلك الوضع أن يستمر كثيرا و كان من الممكن للقوي السياسية الأخري أن تستفيد من مناخ التغيير الظاهري الذي لم تكن هنالك إمكانية للتراجع لضرورة تحقيق الإنفتاح الخارجي و مكتسبات أخري علي هذا المستوي.
بيد أن العقبة الحقيقية كانت بظهور الدعم السريع كخطر حقيقي أربك الجميع و أدخل الشعب في حالة من التوجس صرفته عن قضية التغيير نفسها.
حقيقة الأمر فإن أكبر تغيير حدث في السودان بعد سقوط البشير هو ظهور الدعم السريع كمهدد للتغيير نفسه و كمهدد للأمن الوطني و الجيش. و مهما كان من أمر الإختلاف حول حقيقةً فص الإعتصام فهي لا تخرج عن أمرين أما أن يكون الدعم السريع هو من فض الإعتصام أو يكون قد أستخدم إسما في فض الإعتصام و لا فرق في الحالتين حيث أنهما تقودا للتخويف و فرض الدعم السريع لنفسه كقوة باطشة مخيفة لدعاة التغيير .. و بالطبع فإن فض الإعتصام نفسه يكشف بعض أسرار التغيير لأنه لم يكن لثورة زمكتملة أن تتوقف فور استخدام القوة ضدها و لكنها كانت مسيرة.. فتوقفت حيث توقف مسيروها.
بدا واضحا أنه كان متوقعا أن يقف الدعم السريع موقفا ساكنا يتم معه معالجة أمره بإستيعابه ضمن القوات المسلحة و طي صفحته إلي الأبد.. و لكن لأن الدعم السريع كان يسير في خط موازي للأحداث و لديه خطط مختلفة ظهرت بوادر الخلافات و أغلق حميدتي هاتفه معلنا بداية التمرد .. هنا دفع بالبرهان و الذي رغم كل الإنتقادات التي توجه إليه نجح في إحتواء حميدتي محاولا تجنب المواجهة بين الجيش و الدعم السريع و نجح في ذلك وقتها بسبب الغلاقة الخاصة التي ربطته به إبان عملهما بدارفور و أقنع الفريق البرهان حميدتي بالإنضمام للتغير و واصل في محاولات احتوائه.. حقيقة الأمر أنه و رغم إنشغال الناس بصراعات سياسية لم تكن ذات قيمة بسبب ضعف القيادات المتآمرة التي كانت تلعب علي عقل الشعب و شبابه المتطلع لغد أفضل لكن الصراع الحقيقي منذ التغيير هو صراع بين الجيش السوداني و قوات الدعم السريع فالجيش ليس لديه سبب أن يخشي من المدنيين و إنما خشيته الحقيقية هي أن يتمكن الدعم السريع من استخدام القوي السياسية لكي يتنفذ علي حساب الجيش و يتمكن عبر ذلك من تمرير المخطط الكبير لذلك فإن الحرب كانت واقعة لا محالة و لا مفر منها بسبب تعقيدات لا علاقة لها بالإتفاق الإطاري الذي لا يعني حميدتي إلا في كونه مدخل للتنفذ لإضعاف الجيش و التمدد علي حسابه للترتيب لإنقلاب معد له مسبقا.

habusin@yahoo.com