يُعتبر السلوك السياسي ثم القرارات السياسية من أفضل تجليات ثقافة مجتمع ما، كما يكشف عن الشخصية الأساسية للشعب صاحب تلك الثقافة. لذلك يجب ألاّ يترك فهم تعقيدات السياسة لمتخصصي العلوم السياسية فقط، بل لا بد من أن يكون لعلماء الثقافة والاجتماع والانثروبولوجيا نصيبهم في التحليل والتنظير. ينطبق هذا القول تماماً على الحالة السودانية المُحيرة، وغالباً ما تأتي الحيرة بسبب عدم الفهم الصحيح والعميق للإنسان السوداني والثقافة السودانية. فالسودان قطر شديد التنوع ثقافياً، وسريع التقلبات سياسياً، وبالتالي يستعصي على التحليل الدقيق والتوقعات أو التنبؤات الصائبة. كذلك، يبدو الإنسان السوداني «طيباً» بالمعنى المصري أو العربي بعامة، وبسيطاً ومؤدباً، لكنه في الحقيقة شخصية مركّبة وداخلية، ومن أكثر الناس قدرة على عدم التعبير عن مشاعره الداخلية. وهو يرى في هذا المسلك نوعاً من المجاملة أو ما يسميه «جبر الخواطر». وضلل هذا القناع السوداني كثيراً من الذين تحمسوا للتخصص في الشأن السوداني، لذلك راحوا يتخلون سريعاً عن هذه الغاية الصعبة. ومن المفارقات، أن الاستاذ محمد حسنين هيكل يقول «بصراحة» إنه لا يريد الكتابة عن السودان، على رغم أن السودان أقرب إليه من حبل الوريد، ويستحيل فصل داخل مصر عن خارجها السوداني. ويبرر البعض مثل هذه المواقف الغريبة، بأن السودانيين «حساسون»، وهذه صفة لا يليق إطلاقها على الشعوب الناضجة. تسبب عدم فهم الثقافة السودانية وبالتالي الإنسان السوداني، في غرق كثيرين من الإعلاميين والأكاديميين في المستنقع السوداني. وأعرف كثيرين من الأصدقاء كانوا شديدي الاهتمام بالشأن السوداني، لكنهم توقفوا تماماً. ولهذه الوضعية تاريخ، ولكن بعض الأجانب تعاملوا مع الخيبة بطرقهم المختلفة. فالصحافي البريطاني أنتوني مان غطى لصحيفة «ديلي تلغراف» انتخابات الحكم الذاتي عام 1953 ولم يفهم شيئاً معقولاً عن ذلك البلد الشاسع جغرافياً وسياسياً. واكتفى بكتاب عنوانه «حيث ضحك الله» ترجمته صحيفة «الأيام» السودانية بعنوان «حين سخر القدر». وسبقه بسنوات الكاتب الانكليزي المشهور ج.أ.اسبندر في كتابه: «الشرق المتطور»، وهو نتيجة رحلة في ربيع 1925-1926، حيث كتب: «السودان كلب نائم»، في إشارة إلى المثل الانكليزي: «لا توقظ الكلب النائم خيفة أن ينبح ويعض»! ويمكن أن أصف السودان بأنه «بلد لُقاح» حسب المفهوم الجاهلي الذي فسره هادي العلوي: «القوم الذين لا يعطون للسلطان طاعة». وظل السودانيون بسبب التعدد القبلي والمساحة الشاسعة، على تخوم الفوضوية، يضيقون ذرعاً بأي سلطة، وتردد أمثالهم تعبير «كبير الجمل» بمعنى أنهم لا يعترفون بكبير. من المفترض فهم السودان عبر منظور مهم هو هامشيته أو أنه هامش الهامش جغرافياً وثقافياً كما وصفه مزروعي. وبما أن سكانه هجينون وخُلاسيون من العرب والأفارقة، تملّكهم هاجس «الهُوية»، وهم يُكثرون، بخاصة نخبتهم، سؤال: من نحن؟ وهل نحن عرب أم أفارقة؟ ولم يحسم فصل الجنوب الحيرة، كما كان يتوقع الإسلامويون، إذ لم يتحول السودان إلى دولة عربية-إسلامية «نقية». فما زالت البلاد تعج بكثير من السحنات واللغات والثقافات التي تدحض ذلك الوهم. ولا تتوقف الهامشية والهجانة والخُلاسية عند الجغرافيا والأشكال الخارجية، لكنها تظهر في طرائق التفكير والعقلية، ثم تأثير ذلك على السياسة. فالسوداني يميل إلى مواقف وسطية أو توفيقية تبقيه دائماً في منطقة رمادية غير حاسمة. وهذه وضعية فكرية تشبه جغرافيته وملامحه الفيزيقية. وهذه الوسطية تسمح بتساكن المتناقضات داخل الشخص الواحد من دون تصادم. ونلاحظها في طريقة التعامل مع عملية الحوار الحالية نظاماً ومعارضة. فهناك تعبير سوريالي لا نجده إلا عند السودانيين، يقول: «كلام ساكت»، واصفاً الكلام بالسكوت وأنه مجرد كلام. ضمن هذا الفهم أطلق الرئيس السوداني عمر البشير نهاية 2014 دعوة لحوار وطني يفضي لمصالحة شاملة. وعلى رغم عدم إصداره أيّ قانون يُنظم الحوار أو يهيئ أجواء الحريات، كما العادة في كل البلدان، هرولت المعارضة ورحبت بالدعوة. وسُميت المبادرة «الوثبة» لأنها ستكون سريعة خلافاً للمشي الوئيد. والآن مر أكثر من 22 شهراً، ولم تُطرح شروط تهيئة الظروف. وهذا شكل لتوفيقية عدم حسم الأمور. كما أن الثقافة السودانية تُعلي دور ما يُسمى «الأجاويد» أي الوساطة أو مجالس العرب. لذلك، وعلى رغم الرفض لفظياً للتدخل الأجنبي، نجد أن المحركين للحوار هم مجلس الحكماء الأفارقة والاتحاد الأوروبي وبالذات المانيا. لقد قرر البشير وحزبه «المؤتمر الوطني»، وبالطريقة السودانية، أن يكون الحوار كسرير بروكست، وهو قاطع طريق كان يمدد ضحاياه على سرير خاص، فإذا كانت الضحية أطول من السرير، قام بتقصير الضحية، وإذا كانت أقصر مدّها بالقوة على طول السرير. وهكذا تصرف النظام وحزبه مع كل شروط الحوار. فالبشير يُصر على أن يكون رئيس اللقاء ولا يقبل بشخصية محايدة. ويرفض المؤتمر التحضيري في دولة جوار، ليضع ضمانات قانونية لدخول المعارضة المسلحة والمدنية للبلاد. لكنْ، من جانب آخر، تساعده وسطية وتوفيقية البلد الهجين، فالمعارضة تتجنب مواجهة المواقف الحدية. فنجد الصادق المهدي زعيم المعارضة، يعد البشير بدخول التاريخ من أوسع أبوابه في حالة إنجاح الحوار، غافراً له كل الانتهاكات والجرائم المدانة دولياً. والأخير يبعث له ابنه عبدالرحمن الصادق، مساعد رئيس الجمهورية، ليقنع أباه بالمشاركة في الحوار. أما «الجبهة الثورية» أو المعارضة المسلحة، فأعلنت وقف القتال، وصارت تسمي كفاحها المسلح، وفقاً للغة النظام، «وقف العدائيات». من البديهي في أي حوار أن يكون هناك حد أدنى للاتفاق أو قاسم مشترك. لكننا أمام حوار طرشان يتسق مع الثقافة السودانية. تجيء الحكومة بعقلية «الحوار من أجل التمكين»، أي ضم المعارضة لخطها من دون تنازلات عن السلطة. لذلك يقول البشير وحزبه أن على المعارضة ألاّ تفكر في المشاركة في السلطة، لأن هذا أمر حسمه فوز حزب «المؤتمر الوطني». أما المعارضة، فترى أنها فرصة لتفكيك النظام سلمياً تبدأ باقتسام السلطة والمشاركة. وهذه عينة لتفكير سوداني بحت، فالمعارضة لم تعمل بجدية ومثابرة لتغيير ميزان القوى السياسية لمصلحتها. لكنها لا تسأل نفسها ما الذي يجعل أي نظام لا يشعر بخطر أو تحدي التنازل مجاناً لخصومه. فالنظام لا يعترف ولا يشعر أنه يواجه أزمة، وبالتالي يفرض شروطه. لكنها الثقافة الغالبة، وهذه المرة، لن تُعرّض السودانيين لسخرية القدر ولكنْ لنتائج دهاء التاريخ (حسب المفهوم الهيغلي) الكارثية. فهم دأبوا على إهدار الفرص، وهذه فرصتهم الأخيرة.