“الحوار السوداني” .. عبرة مآلات ثورات الربيع العربي

 


 

 

إن كانت هناك ثمة عبرة واحدة من مآلات ثورات الربيع العربي فهي أن الفرصة المواتية لإحداث إصلاح حقيقي يجنّب الدول الوقوع في براثن الفوضى لا تأتي مرتين، كان المشهد الواحد الذي تكرر في كل الأنظمة التي تساقطت هو تجاهل السلطات الحاكمة للمطالب الموضوعية بالإصلاح، ثم الإنكار أن هناك اصلاً ما يحتاج إلى تغيير وأن كل شئ تمام وأن الأصوات المطالبة بالإصلاح "لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون" في تصوير قرآني بديع للعقلية الفرعونية،ثم يفرض منطق التغيير نفسه فتحدث محاولة لمقاومة التغيير ومواجهتها بالعنف, وينتهي الأمر في آخر المطاف باعتراف متأخر لمتطلبات الإصلاح ولكن باستجابة خجولة، لا تفي بشئ من أجندة الإصلاح الحقيقية ولا تقي من غضبة الشعوب المنعتقة من القيود، وهي مع ذلك خطوة تأتي بعد فوات الآوان واندفاع قطار الثورة إلى تغيير حتمي بلا رجعة مهما كانت التضحيات باهظة التكاليف.

ما أغني شعوب هذه المنطقة من العالم من دفع كل هذا الثمن الباهظ من أجل الحرية والتغيير والكرامة لو أدرك حكامها أنهم لن يستطيعوا إعادة اختراع العجلة، فقد كان بوسعهم أن يجنبوا شعوبهم مشقة التغيير لو علموا أن الخلود في السلطة وهم كبير لم يحظ به أحد في التاريخ، ولا حتى الأنبياء المرسلون، ولا عظماء القادة دعك من غمارهم, قيل للجنرال ديغول عندما عزم على الاستقالة في أعقاب احتجاجات الطلاب الشهيرة في العام 1968، كيف تترك فرنسا وأنت محررها، وكان رده أن أخذ بيد هؤلاء الذين لا يرون له بديلاً إلى مقبرة للعظماء في باريس وقال لهم هنا يرقد الكثيرون الذين كانوا يظنون أن فرنسا لن تعيش بدونهم.

كانت تكفي عبرة بن علي الذين ثبت أنه أحكم الجميع حين غادر مغمغماً، نعم فهمتكم، ولكنه فهم لم يعد بذي نفع وقد دارت عجلة التغيير، كان بوسع القادة الآخرين الذين تساقطوا بعده كأوراق الخريف اليابسة الاتعاظ به، ولكن زعم كل واحد منهم أنه آت بما لم تأت به الأوائل، وكلهم يردد أنه ليس مثل الذي سبقه بالسقوط حتى لحق به، ومن ظل يقاوم نداء التغيير الحتمي أهلك شعبه ومع ذلك لن يسلم من مصير من سبقه وإن طال الزمن، فهل التأخر في فهم فريضة التغيير "ماركة مسجلة" عربياً، تغيرت الأمم في كل أركان المعمورة الأربع وتطورت وأصبحت حتى دول صغيرة تناطح كبريات الدول وتزاحمها في النمو والتطور، فهل هي مصادفة أن ينظر المرء في خريطة العالم اليوم فلا يجد الاستبداد السياسي معشعشاً إلا في هذه المنطقة ممن العالم، ولا يجد شعوباً مقهورة غارقة في الحروب الأهلية بسبب تسلط الأنظمة الحاكمة إلا الشعوب العربية.

ومع ذلك فقد كان لبلدين عربيين تليدين في العقلانية، هما المغرب وتونس وكلاهما من المغرب العربي، سيرة مختلفة ونهج أكثر رشداً في الاستجابة للمطالب الشعبية بالإصلاح والتغيير،

لقد نجت المملكة المغربية من زوابع الثورات وقد غشيتها رياح الربيع العربي في أول عهده، يقول رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران إن المغرب لم تكن بدعاً من دول المنطقة العربية ممن تشكو من احتكار السلطة والثروة وإهدار الحقوق، فقد حدث التغيير، ولكنه تغيير من نوع آخر لم تفرضه الاحتجاجات العنيفة والمواجهة بين السلطة والشعب بقوة السلاح، بل جاء سلساً مستجيباً للحاجة للتغيير لأن المغرب كانت الدولة الوحيدة المحظوظة أن كان على رأسها في تلك اللحظة التاريخية الحاسمة زعيم أوتي من الحكمة وروح القيادة والمسؤولية ما جعله لا يجنب شعبه مشقة التغيير فحسب بل يضعه على مسار تحول ديمقراطي حقيقي.

وحدها المغرب كانت هي التي برزت من بين رصيفاتها العربية لتعطي مثالاً نادراً في التحول الديمقراطي السلمي، لم تحتج لتدخل في طلب تغيير مجهول الوجهة محفوف بالمكاره، كانت الحكمة المغربية حاضرة في الموعد ملكاً وقادة سياسيون وناشطون وعامة الشعب، ويشرح بنكيران أنه عندما بدأ الحراك الشبابي الاحتجاجي في المغرب في العشرين من فبراير من عام الثورة العربية لم يكن مجرد استنساخ لموضة الاحتجاجات التي اندلعت في المنطقة ولكنها كانت تعبيراً موضوعياً عن حالة الاحتقان السياسي والاجتماعي في بلاده،والرغبة في إدراك التغيير بما يفضي لتحول يعيد هيكلة وتشكيل النظام السياسي.

تسعة عشر يوماً فقط من الاحتجاجات الشبابية كانت كافية لتصل الرسالة إلى الملك محمد السادس، حين توجه بخطاب تاريخي شهير إلى شعبه، مستجيباً ليس للحراك الشبابي الاحتجاجي فحسب، بل كذلك لصوت الطبقة السياسية والمثقفة في الحركة الوطنية على إمتداد طيفها المنادية بالإصلاح المؤسسي وتوسعة المؤسسات الديمقراطية والمزيد من العدالة في توزيع الثروة والحقوق،تبنى الملك محمد السادس في ذلك الخطاب الدعوة لحوار سياسي موسّع لم يكن بغرض تنفيس الاحتقان، ولم يكن مجرد خطوة للاستهلاك وشراء الزمن والمناورة بمصير الوطن لتحقيق أجندة منغلقة محدودة الأفق، بل كانت عملية سياسية حقيقية وعميقة ومسؤولة متسارعة الخطى، بآجال محددة، قادت أولاً إلى إصلاحات دستورية بالغة الأهمية أعادت تشكيل النظام السياسي بما يستوعب التطلعات السياسية والمطالب الشعبية، ثم ما لبث أن أجريت خلال بضعة أشهر انتخابات عامة مبكرة بعام عن موعدها الدستوري، كانت نتيجته بلد آمن مستقر سياسياً بفضل قيادة حكيمة جنّبت شعبها الدماء والمجهول.

كانت تونس أيضاً محظوظة أن سلكت سبيلاً أكثر سلمياً للتغيير بفضل تقدم وعي طبقتها السياسية لا سيما دافع المسؤولية الوطنية الرفيعة والالتزام الأخلاقي الذي تميزت به حركة النهضة بقيادة زعيمها راشد الغنوشي التي وعت إلى أن بقاء تونس وطناً آمناً مستقراً مسالماً أهم من بقاء النهضةوتمسّكها بالسلطة وإن استحقتها عن جدارة، وأن الرهان على المستقبل يتطلب التضحية بمغنم السلطة العاجل على قوة إغرائه على الرغم من أنها كانت حزب الأكثرية في اختيار ديمقراطي حر، شكّلت حركة النهضة بقيادة الشيخ الغنوشي نموذجاً أخلاقياً في العمل الوطني  والفضاء السياسي لم يسبقهم إليه أحد، وحدهم من جعلوا لوجود "الإسلام السياسي" معنى، في وقت تحوّلسلطتها إلى وبال على شعبها في رصيفتها السودانية.  

يشهد الناس بحسرة ما يجري في اليمن وسوريا وليبيا التي نهضت شعوبها ساعية في ثورات مشروعة من أجل استرداد الكرامة واستعادة الحقوق وتحقيق مطالب التغيير، لقد كان حظها عاثراً أن أصبحت ضحية لمنطق الاستبداد حين آثر الحكام أن يضحوا بشعوبهم واستقرار بلدانهم من أجل البقاء، والتشبث بكراسي الحكم مهما كانت نتائج ذلك وخيمة، كانت النتيجة كل هذه الدماء التي سالت ولا تزال تسيل في أغلب هذه البلدان منذ العام 2011، غرقت أغلب هذه البلدان في بحور الدماء والفوضى لأن حكامها رأوا أنفسهم أكبر من شعوبهم وأنهم أحق بالخلود منها، ولذا لم يأبهون للثمن الباهظ الذي توجب على هذه الشعوب أن تدفعهم لكسب معركة خلود مستحيلة في السلطة، قد يمكثون فيها قليلاً لكن ستطاردهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولن يرحمهم التاريخ.

على خلفية هذا المشهد يواجه السودان لحظة فارقة في تاريخه، ولا أحد يكاد يستبين حتى اليوم أي السبيلين يسلك من أجل التغيير الذي بات ضرورياً وحتمياً، سبيل التغيير الواعي السلمي، أم، لا قدر الله، طريق تغير عنيف ينفجر بسبب انسداد الأفق، لا أحد يعرف متى أو كيف يحدث، لا يبقي ولا يذر في دولة لا تنقصها أسباب التشظي وقد استطونتها الحروب الأهلية وتفشّت فيها أدواء العصبية، وانكسر فيها احتكار السلاح وسادتها سلطة العنف، وتزايد فيها الاحتقان الاجتماعي، وتوفرت لها أسباب الاحتجاج بسبب الضنك المعيشي وتردي الأحوال الاقتصادية في غياب تام لضوء في نهاية النفق.

ولذلك فإن "الحوار الوطني" المطلوب لا يجب ولا ينبغي له أن يكون مجرد تحركسياسي محدود السقف غرضه "رتق" الثقوب التي ضاقت على ثوب النظام السياسي السوداني، أو سوق مناورات قصيرة النظر لعقد "صفقات" لإلحاق هذا الطرف أو ذاك بقطار السلطة المواجه بطريق مسدود بفعل التحديات الخطيرة التي تواجه البلاد، لن تصلح معه الذهنية نفسها التي أوردت السودان هذا المصير، ف"الحوار الوطني" فريضة غائبة لا يمكن أن تُؤدى إلا إذا كان دافعها ومحركها الحقيقي هو البحث عن طريق ثالث، طريق النجاة بالبلاد والعباد من نظام سياسي قديم ظل يتشكل منذ الاستقلال على تعاقب الحكومات، على تقلب طبيعتها وطبائعها، أورث السودان هذا الوضع المأزقي غير المسبوق الذي أضحت فيه البلاد تواجه مفترق طرق مصيري، أن تكون أولا تكون.

وما يحتاجه السودانيون حقاً للخروج من هذا المأزق، حواراً وطنياً حقيقياً لا مراء فيه أول شروطه أن تضع الأطراف السياسية والمسلحة المتصارعة، في السلطة والمعارضة، عقلية المناورة القصيرة النظر جانباً وأن تثوب إلى رشدها، فإن كان ظن السلطة الحاكمة أن داعيها ل"الحوار الوطني" شراء المزيد من الوقت ليضمن تمديد بقاءها في السلطة لأعوام أخرى، فبئس الغرض، وإن كانت قوى المعارضة تعتبر "لحوار الوطني" فرصة فقط لتلحق بركاب السلطة أو لتحل محل السلطة القائمة، فبئس المسعى.

فأهم شروط الحوار أن يكون غرضه الحقيقي ودافعه الوحيد هو البحث بعقل واع وبسقف مفتوح وبوقاية من شح النفوس عن تسوية تاريخية لحل الأزمة الوطنية المستفحلة ولتجاوز الفشل الذي لازم النظام السياسي السوداني طوال سنّي الاستقلال، المطلوب حل شامل وناجع، بحجم الوطن، فلسنا في حاجة لاستراحة محاربين، ولكن بحاجة ماسّة بحلول تتجاوز الصفقات الثنائية والتسويات المجتزأة والمنقوصة المرتهنة للحسابات الحزبية الضيقة، ستتحق التسوية الناجعة الشاملة عندما نجد حلاً بحجم الوطن بكل مكوناته وتنوعه لا صفقة على مقاس جماعات أو شخصيات مهما ظنّت لنفسها من مكانة فهي ليست أخلد من الشعب ىأو أرفع شأناً منه.

وآخر ما يحتاجه السودانيون أن تتحول مبادرة "الحوار الوطني" إلى مهرجان يوم زينة يُحشر فيه الناس ضحى، يملأ أشرعته سحرة السياسة تحضر فيه المظاهر الاحتفالية ويغيب عنه المضمون، أو أن يتحول إلى لعبة تلاوم بين الحكم والمعارضة، فهذه ليست مباراة بين فريقين يحاول كل طرف فيها أن يكسب بالضربة القاضية أو أن يسجل أهدافاً في مرمى الفريق الآخر، هذه لحظة مصيرية لا يمكن عبورها ما لم ينس الساسة الحاكمون والمعارضون ذواتهم الفانية.

لا شك أن الشروط المتبادلة أو المواقف المسبقة التي يتخذها أطراف الأزمة السودانية، سواء في الحكم أو المعارضة، لا تعكس في حقيقة الأمر سوى الأجندة الحزبية الضيقة لكل طرف مهما تدثرت بالحجج فثمار الحوار ينبغي أن تكون من أجل تأسيس نظام سياسي معافى لصالح الشعب، ليس لحجز مقاعد السلطة لهذا الطرف أو ذاك، صحيح أن السياسية ليست لعبة "رعاية اجتماعية"، ولكنها في لحظات تاريخية فارقة في عمر الشعوب يجب أن تكون "مهمة تضحية فدائية"، لا مكان فيها لحظوظ الأنفس الشح، وإلا لما كانت هناك شعوب عظيمة لأنها حظيت بقادة عظام امتلكوا القدرة على التضحية.

ومع ذلك ليسوا سواءً، فمسؤولية السلطة الحاكمة بلا شك أكبر من المعارضة، وعليها يقع العبء الأكبر في دفع استحقاقات حوار جدي يضع أسس تسوية تاريخية، سيهدر الحزب الحاكم فرصة تاريخية لحل ممكن إن كان سقف أجندته تصريحات قادته الذين يعتقدون أن هدف الحوار يجب أن يقف عند حدود الحفاظ على سلطتهم مع إمكانية ردف الآخرين معهم، هذه بلا شك قسمة ضيزى لن تحل مشكلتهم ولن تعالج أزمة البلاد، وسيجدون في نهاية الأمر أنفسهم مضطرين إلى دفع ثمن باهظ، ويورثون وطنهم فوضى لا تبقي ولا تذر.

  عن صحيفة إيلاف/ 7 اكتوبر 2015


 tigani60@hotmail.com

 

آراء