الخرطوم عاصمة وقرية “زرتها” لكنها ليست “كالدامر ولا بربر”

 


 

 

في مرة تواصل تيلفوني مع شقيقي شيخ مجذوب رحمة الله عليه قلت له "والله نحن في شوق شديد لكم وللوطن الذي نحبه". شكرني قائلاً "حب الوطن من المروءة". ما أروعها من جملة تصدق لتكون شعارا يعمم على المدارس في حق الوطن إذا وجد من يطبقها (وإنما الأعمال بالنيات). عند منتصف شهر يناير الماضي كنت على متن الطائرة التركية. تشرفت أن أجد نفسي هكذا تابعا أهل المروءة الكثيرين من أبناء الوطن ، طيور جميلة متعددة الألوان مغردة أثناء رحلتها في موسم السفر نحو الجنوب. فغمرني على التو الشعور بالإنتماء ونشوة اللقاء المستطاب المنتظر ، وأنا أرى على وجوههم أنوار الفرح والسرور تدحر ظلام سنين الغياب ، وهم يتدافعون ويمرحون في ساحات الشوق الذي يحلق بهم في سماء محبة الوطن تمت متعة الصحبة . وكانت رحلة ميمونة وهبوطا ناعما على تراب الوطن الطاهر وداخل المطار كان استقبالا مهولا وبالاحترام والرقي "تتوج " وكان نعم الترحيب من وجوه سمراء متعددة ، ورغم السهر وطول ورديات عملهم فالابتسامة التي استقبلونا بها كانت هي جوهرة بوابة الدخول للوطن الحبيب. التحية والشكر لكل العاملين في الجوازات والجمارك من الجنسين ، وشكر خاص لعمال المطار "شيبا وشبابا" الذين يسرعون ليمدون يد المساعدة.

خرجت مسرعا (وكنت البرنجي) من صالة الوصول فوجدت نفسي غريباً فى وطن أهيم به حباً وشوقاً، وساحة المطار الضيقة كانت مكتظة بكل أصناف الخلق الذي تظهر عليه علامات الإرهاق ومعاناة شظف العيش. "تاكسي تاكسي" ابتدرني أحدهم هكذا بعفوية شخص على بركة الله طالب رزق حلال، للأسف خاب أمله وأنا أقل له "لا، شكرا لك" وكذلك تلاشت آمال آخرين أيضاً ينتطرون رحمة السماء. إستحيت من مظهرى الأروبي وأنا أشق طريقي وعشرات الوجوه كانت تحدق بعيونها صوبي، كدت أقرأ ما دار فى أذهانهم وخلال "فلاش" من التأمل جالت بخاطري صور وجوه تشبه وجوه ذلك الجمع الغفير قد ابتلعتها صحاري شمال أفريقيا وحتى من نجو من الموت فيها كان حتماً هو ينتظرهم هناك عند شواطئ البحر الابيض المتوسط حيث تموت كل الأحلام الجميلة.

عبر الإنارة الخافتة المحدودة شاهدت من على البعد الشباب أبناء أخي مولانا الطاهر " باشمهندس خالد والسيد مجذوب" مسرعان يلوحان، وتم اللقاء والعناق المحبب الذي كنت اتوق إليه واتوقعه من أبنائي. فعلمت أن والدهم وأخي إسماعيل لقادمان. فعلا وصلا بعد هنيهة وكان بالطبع لقاءاً إحتوته مشاعر الحزن بفقد أشقاء أحباء كانوا كلهم في مقدمة مستقبلي عودتي للوطن خلال نهاية كل سنة. إفتقدتهم تلك اللحظة المؤثرة وافتقدت الطرق التى كانت مسفلتة والشوارع المضاءة ومشجرة ، فوجدت نفسي أزور مدينة أعرفها ولا أعرفها ولاتعرفني وعلى ملامحها تبدو ألوان وتضاريس شيخوخة عصرها الأليم وشظف عيش توالي السنين العجاف الجائرة. في الطريق من المطار لم تقابلني أو تهاجمنى مواتر ما تسمى "بتسعة طويلة" لكن فوجئت بمواتر وركشات تتراقص تزاحم نفسها مع تراكم سيارات فارهة رباعية الدفع من ضمنها أحدث موديلات هذه السنة ، وأيضا لاحظت ظهور عمارات شاهقة كناطحات السحاب " قالوا دا كله غسيل اموال"!، كما فوجئت بإختفاء السور القديم للقاعدة العسكرية الضخمة التي تتوسط قلب الخرطوم لصق المطار. البديل الجديد جاء أكثر قبحا، به استعصمت من غير إستحياء تلك القاعدة بالبعد عن مواطنيها والشباب الأعزل. إنه حائط خرساني سميك شاهق العلو، غالي التكلفة، فأعاد لي ذكرى جدار برلين المشهور الذي كان يفصل بين برلين الغربية والشرقية وفى كلا الحالتين فالمستهدف هو المواطن الغلبان. عجبت لم كل هذا الخوف والقوات المسلحة المتمركزة فى تلك القاعدة تمتلك عتاد السلاح الفتاك الذي إذا استعمل بعزم ونية صادقة فإنه في يوم واحد سيحرر حلايب المفقودة “إغتصابا” ويعيدها الي حضن وطنها الأم. هذا الجدار القوي شيد ليحجب عن سمع العسكريين هناك أصوات النداء بمطالب الشعب المدنية المشروعة. لماذا مشروعة؟ لأنه نداء وحق كل مواطن والبلد لا توجد فيه حكومة شرعية ومن قبل كان يحكمه نظام فاسد رفعت فيه الدولة يدها عن إلتزاماتها نحو مواطنيها وصارت مسؤلية الخدمات فيها من واجب المواطنين (كما صرح بذلك التوجه وقتئذ النائب المعروف بالبروف المهندس، "ليكون الإكتفاء ذاتياً" ناسيا نفسه من أين أتي)، فمن جيبهم الخاص عليهم القيام بسداد فواتير رسوم التعليم والعلاج ودفع الإتاوات الباهظة والضرائب المفروضة على كل صغيرة وكبيرة. والآن هذا هو حال البلد " خصخصة كل مؤسسات ألدولة الحكومية " . الأدهى وأمر من كل ذلك تدهور الخدمة المدنية فى كل مرافق الدولة حيث لا يتم إجراء أي معاملة إن لم يدفع صاحب المراجعة مقدماً أجراً للموظف يطلق عليه إسم "الحلاوة". وهى جرثومة وافدة وكانت قديما عندنا عيبا بل جرما لا يغتفر ، لا يقل فى نظري خطرها " وقرفها" عن جرثومة أي مرض معدي كالسل أو التايفويد، للأسف الشديد قد استوطنت وباءاً يصعب استئصاله.

عودة إلي العنوان ، لماذا ذكرت هنا الدامر وبربر؟ أولا بربر واتبرا والدامر هي المدن التي أعرفها وأعرف الكثيرين من أهلها وأزورها عندما يعاودني الحنين إلي زيارة أوطان الجذور الأصلية. المقارنة هنا بينهما والعاصمة الخرطوم تتعلق بمستوى النظافة وتناغم النسيج الإجتماعي. للأسف الخرطوم تحوذ على قصب السبق في السقوط الفاضح ومخجل (أدنى من مستوى الصفر) في مجال النظافة والصحة العامة. فالشوارع والميادين وكل القطع السكنية الغير مشيدة وجدتها قد تحولت إلي مواقع تراكم جميع أنواع النفايات الضارة بالبيئة الطبيعية وفوق ذلك بصحة الإنسان. مثل هذه المناظر المؤذية من كوش وخلافه لا تجدها في الدامر ولا بربر لأن الناس هناك يحترمون مدنهم ويحترمون بعضهم جيرانا إخوة. لا يؤذي أحدهم جاره ولا يسيؤن لبيئتهم. وقد شاهدت ذلك عدة زياراتي لتلك المدن. أدعوك عزيزي القارئ وحتى السيد الفاضل والي الخرطوم للتجول مثلا في الحي "الراقي" كافوري، خاصة مربع 9, فسترى العجب من الفوضى أولا مظهر الفساد الإداري والتخطيطي الواضح في ترسيم وتوزيع الأراضي السكنية (شملت تجاوزات وتعديات حتى على الشوارع والميادين)، ثانيا معظم الشوارع قد تحولت إلي أزقة ضيقة مما شجع بعض أصحاب النفوس الضعيفة الإيمان والتربية الوطنية إلي التغول على معظم الشوراع بقفلها بغابات من الشجر أو تشييد المستطبات ليس غباءاً بل عنوة وقصداً، وكذلك التعدي على ما تبقى من الميادين. الحي تحول كله إلي قرية أسمنتية قذرة، لا تصلح بيئتها لسكن الإنسان. والسبب أن الجار هناك لا يستحي من الرمي العشوائي لزبالة منزله أين ما شاء حتى وإن كان ذلك للأسف على حساب ممتلكات جيرانه

عزيزي القارئ آسف أن يكون تقريري عن زيارتي للوطن جدا محبط. لكن أطمئنك بالرغم من الحصل والحاصل فقد إستمتعت بقضاء عطلة جميلة وسط أهلي والأقارب والصحاب والأحباب من الأسرة الصغيرة والممتدة. برغمهم فقد غمروني بكرم الضيافة وتسهيل مهام حركاتي وسكناتي وأنشطة ترفيهية لا تنسى أيامها ولياليها وموائدها العامرة فى كل بيت وجلسات من الأنس وتفاكر مفيد . كنت محظوظا بحضور الإحتفال الكبير بإفتتاح بيت الخليفة عبدالله بأمدرمان بعد ترميمه، برعاية البريتش كاونسل واليونسيكو ، كما زرت المركز الثقافي الفرنسي ومعرضاً أقيم فيه ومجموعة أخرى زرتها من غالاريات الفنون الزاخرة بروائع التشكيليين السودانيين. شكري بلا حدود لأشقائي وشقيقاتي وابناءهم بقيادة شقيقنا دكتور محمد وعلى رأس الأبناء الذين كلهم مشكورين ساعدوني أخص هنا ذات المهندس خالد الطاهر عبدالمحمود حامل قصب السبق أولا ومن بعده كذلك شقيقه الأكبر المهندس محمد لأن بدون تفرغهما لمساعدتي لما تمكنت من إنجاز أي شيء في وطن لي وجدت نفسي في كل مرافق حكومته غريب ديار وغريب أهل. الشكر لأحبائي أخي رجل البر والإحسان عبدالعزيز مصطفى "سوجي" وأبنائه بقيادة الإبن الهمام البدر المنير بدرالدين حفظهم الله وأسرهم، فليلة أنسكم وإحتفالكم بنا لا تنسى ذكراها.

عزيزي القارئ ، لكن مهما حصل ومهما يحصل لي أو لك ولغيرنا فالحقيقة أن السودان رائع جميل مضياف بخلق وطيبة إنسانه الذي يستحق كل تكريم وإحترام خاصةً من الذين يحكمونه " ليتهم يفهموا ذلك". الأمل بالخير والعطاء القادم للوطن يبقى لا تخبو ناره، فالنتوكل على الله ونشمر السواعد ومع رجائي وثقتي بالله هنا أختم هذا المقال مستعيراً من العقاد (رحمه الله) أجمل بيتين تعجبني، أهديها للوطن السودان ومواطنيه ولك عزيزي القارئ ، وإن بعدنا وإن إغتربنا وسعدنا في الدياسبورا، أقول لك يا سودان:
"نعم أنت الرحيق لنا وأنت النور والعطر
وأنت السحرُ مقتدراً وهل غير الهوى سحر؟"

لا ليس غير هواك سحر" بل أنت كلك السحر!"
عبدالمنعم

drabdelmoneim@gmail.com

 

آراء