مقدمة: هذا هو الجزء الأول من ترجمة لما جاء في الفصل الرابع والخمسين من كتاب (السودان في طريق التطور Sudan in Evolution) الذي صدر بلندن في عام 1921م عن دار نشر كونستابل وشركاه، لمؤلفه البريطاني بيرسي اف. مارتن Percy F. Martin )1861 – 1941م). ويتناول هذا الفصل طرفا من تاريخ الخرطوم في العشرين عاما الأولى من حكم الاستعمار الإنجليزي – المصري. ومن المقالات المترجمة ذات العلاقة بتاريخ الخرطوم مقال بقلم سي. وويكلي نشر بعنوان: " قصة الخرطوم" https://www.sudaress.com/sudanile/38906 ومقال مترجم آخر لهنريكا كوكليك بعنوان: "الخرطوم: إعادة بناء مدينة استعمارية صحية 1899 - 1912م". https://www.sudaress.com/sudanile/100942 المترجم ******* ****** ****** تُعد مديرية الخرطوم هي أصغر مديرية من بين المديريات الخمس عشرة الأخرى التي تُكون الأقسام السياسية للسودان الإنجليزي – المصري، ولكنها تعد الأهم من بين كل المديريات نسبة لأنها مقر للحكومة المركزية. ولا تتجاوز مساحتها نحو 5,000 ميلا مربعا، وعدد سكانها يزيد قليلا عن 135,000 نسمة في عام 1913م. وقُسمت مديرية الخرطوم لأربع وحدات إدارية (مأموريات) هي الخرطوم، والخرطوم بحري، وأم درمان (وتعرف هذه المدن بـ "المدن الثلاثة") – والجيلي. وتحيط بمديرية الخرطوم طبوغرافياً مساحات واسعة من الأراضي المسطحة الرملية. غير أن نهر النيل يعوض عن منظرها القبيح والمُضْجِر المُمِلّ. وفي الخرطوم، يلتقي النيلان، الأبيض والأزرق قبالة المدينة. ويأتي النيل الأزرق منحدرا من مسافة 460 ميلا من فامكا (Famaka)، حيث يعبر الحدود الإثيوبية - السودانية إلى أن يلتقي بالنيل الأبيض، ويسيران معا (كنهر واحد هو نهر النيل مسافة 540 ميلا) ، وبذا يكون مجموع المسافة التي يقطعها نحو ألف ميل.(بحسب إفادة خبير، فإن فامكا هذه موضع في أعلى النيل الأزرق في بلاد الأنقسنا، وبحسب خبير آخر هي الآن ليست بنقطة حدودية بين السودان وإثيوبيا، إذ حدثت بالفعل تحولات كثيرة في الحدود بين البلدين في مناطق متعددة مثل الفشقة وقامبيلا وغيرها، خاصة خلال العقد الأول من القرن العشرين حين بدأ الجيش البريطاني في ترسيم الحدود بين البلدين بقيادة الملازم مساح قوين. المترجم) وتم في عام 1914 تغيير حدود مديرية الخرطوم. فقد أُعطيت (السبلوقة) في الشمال لتصبح جزءًا من منطقة شندي بمديرية بربر. وحُولت (جبل أولياء) على شاطئ النيل الأبيض من مديرية النيل الأبيض وضُمت لمديرية الخرطوم. وكان ذلك التحويل من فائدة الحكومة والأهالي على السواء. وأضيفت المنطقة التي يسكنها أفراد قبيلة الجموعية لأمدرمان، مما ساهم في تحسين أوضاعهم كثيرا. أما الخرطوم بحري فقد كانت مركزا رسميا لكثير من الصناعات والمصالح التجارية. وكانت تُعرف قديما باسم (الحلفايا)، وما زال الأهالي يطلقون عليها ذلك الاسم حتى الآن. وكانت الخرطوم بحري حتى وقت قريب هي المحطة النهائية للقطار القادم من حلفا، إلى أن تحولت أخيرا لمحطة السكة حديد المركزية في مدينة الخرطوم. وتوجد بالخرطوم بحري مخازن الحكومة وورشها وثكنات الجيش المصري (التي تشمل المدفعية والمشاة)، ومرسى السفن والبواخر والمراكب، ومبنى الجمارك، وعدد آخر من المباني ذات الصفة الرسمية. ويربط بينها وبين مدينة الخرطوم جسر/ كبري حديدي جميل تسير عليه القاطرات (شيدته شركة إنجليزية اسمها Cleveland Bridge & Engineering Company بين عامي 1907 و1909م. المترجم). وهنالك ترام بخاري يربط المدينتين، يأتي بانتظام على رأس كل ثلاثين دقيقة طوال اليوم. وكان عدد سكان الخرطوم بحري في عام 1905م يزيد قليلا عن ألفين، ولكنه يصل الآن (1919م) إلى نحو 30,000 نسمة. وتقع قرية الجيلي على الضفة اليمنى للنيل الأزرق، على بعد 28 ميلا شمال الخرطوم بحري. وغالب سكانها هم الجميعاب (أحد فروع الجعليين). وكان يحكمهم فيما مضي واحدا منهم هو الزبير باشا، تاجر الرقيق المعروف. وعاش الزبير لسنوات طويلة في الجيلي في دار جميلة. وكانت أقرب محطة سكة حديد للجيلي في (ود رملي)، الواقعة على بعد ميل ونصف من الجيلي، وعلى بعد 547 ميلا من حلفا. أما أمدرمان، تلك المدينة الشديدة الازدحام ذات السمعة الشريرة في غضون سنوات المهدي، فقد اشتهرت بالمعركة التي دارت فيها عام 1898م. وبهذه المدينة صناعات محلية (يقوم بها "الأهالي"). وأم درمان أكثر مدينة يجد فيها زوار السودان أماكن وأشياء محلية مثيرة وغير مألوفة لهم. ويجد الزائر عينيه موجهة (في الغالب من دون تفكير أو قصد) إلى سلسلة طويلة من التلال المنخفضة في كرري، الواقعة شمال أم درمان، حيث حدثت آخر المعارك التي خاضها الجيش الإنجليزي – المصري ضد الدراويش، وخَلَّصَ بانتصاره عليهم السودان من حكم بربري. وتمتد مدينة أم درمان بطول ستة أميال، وعرض ميلين. ويحدها شرقا نهر النيل. ولا تزال بها بعض مساكن الدراويش القديمة، وأهمها بيت الخليفة وأخيه يعقوب. وهنالك (بيت الأمانة)، وهي مخزن المهدي، الذي كان في أيام حكمه مملوءًا عادةً حتى السقف بما نُهب من السكان التعساء أو غُنم من أعدائه. وما يزال ذلك البيت محافظا عل هيئته حتى الآن (لقراءة وصف أكثر تفصيلا وحيادية ورصانة عن أم درمان يمكن الاطلاع على كتاب "مدينة مقدسة على النيل: أم درمان في عهد المهدية" لروبرت كرامر، ومقال مترجم بعنوان "أمدرمان أيام المهدية: ملخص لبعض ما جاء في كتاب للأسير الإيطالي روزيقونولي". https://www.sudaress.com/sudanile/54792 .المترجم). أما قبة المهدي فقد هُدمت بقذيفة من جيش اللورد كتشنر في حرب النهر حتى لا تعد رمزا "مقدسا" لأولئك العرب المتعصبين. وما زالت القبة مهدمة جزئيا حتى الآن. ولمنع أي نوع من تقديس للمهدي بعد موته، نبشت جثته وتم التخلص منها. ولا شك أن ذلك كان عملا بالغ الحكمة ساهم في منع قيام أي معارضة ممكنة للإدارة الحالية. وكانت أم درمان في عهد المهدية مدينة كبيرة ولكنها كانت شديدة البؤس والقذارة والفوضى. ووصفها من دخلها من الجنود البريطانيين في الثاني من سبتمبر 1898م بأن حالها كان ينبو عن الوصف. ولا عجب، فالدراويش لم يبذلوا أي جهد في مجال الصحة العامة. فالحيوانات النافقة من كل الأنواع (كالجمال والكلاب والحمير والغنم والمعز) كانت ترمى إلى جانب النفايات الأخرى في الطرقات الواسعة والأزقة الملتوية، التي لا تزال إلى الان تنتشر في أحياء المدينة القديمة. وعثر الجنود أيضا على بعض الجثث لرجال ونساء وأطفال ملقاة في العراء، إضافة لعشرات المثخنين بالجراح في داخل وخارج أكواخهم وزرائبهم. وكانت الخليفة قد أحاط مقره ومقرات حرسه (الملازمين) بجدران حجرية على هيئة مستطيل. وكانت هنالك أيضا في ذلك الحوش الكبير مخازن للحبوب، وخزانة وترسانة أسلحة، وقبة المهدي، وساحة واسعة للصلاة جماعةً. وكان هنالك أيضا سجن كبير فاض بنزلائه. وكان من ضمن السجناء فيه "جاسوس وخائن" هو الألماني شارلس نيوفيلد، الذي قضى في الحبس أكثر من عقد من الزمان. وكانت أولى أعمال كتشنر ووينجت بعد دخولهما المدينة هي إطلاق سراح نيوفيلد. وكلنا نعلم كيف رد ذلك التيوتني (أحد أفراد الشعب الجرمانى القديم) جميل البريطانيين قبل وأثناء الحرب الأخيرة. (يبدو أن نيوفيلد كان قد أُجبر على ترك تجارته بمصر والعودة لألمانيا عند قيام الحرب العالمية الأولى في 1914م، وهنالك التحق بالجيش الألماني، ونال لمساهمته في الحرب نيشان الصليب. ولعل هذا هو سبب وصف الكاتب الإنجليزي للرجل بـ "الجاسوس الخائن". المترجم). وكانت أم درمان مدينة غير صحية بمعنى الكلمة عندما دخلها كتشنر بجيشه، مما أضطره لإقامة معسكر قواته شمال المدينة وعلى بعد مناسب وآمن منها. وكانت أولى أعمال كتشنر بأم درمان هي إزالة أكوام النفايات والأوساخ من طرقاتها وساحاتها. وبدأ بالتدرج إحلال النظام بالمدينة محل الفوضى، وغدت أم درمان الآن مدينة صحية إلى حد كبير، ولكن ليس بالإمكان جعلها مدينة جميلة إلا بإعادة تخطيطها من جديد (يمكن النظر في مقال الإداري البريطاني جون وين كيرنيك المترجم بعنوان: "الحاجة لإزالة الأحياء العشوائية الفقيرة في أم درمان". https://www.sudaress.com/sudanile/95255 المترجم). وكانت الخرطوم، ولا زالت، هي مقر لإدارتين هما إدارة كل السودان (تحت قيادة الحاكم العام)، وإدارة مديرية الخرطوم (تحت قيادة حاكم محلي). وفي عام 1847م، عقب زيارة الخديوي إسماعيل باشا للسودان، أُمر حاكم كل مديرية بأن يتلقى أوامره من وزير الداخلية المصري، وأن يكاتبه مباشرة. وكان قاضي القضاة في تلك السنوات (كما هو الحال الآن) يجمع بين مهمتي العمل كأكبر مرجعية دينية بالبلاد، وكأكبر قاضٍ شرعي يترأس محكمة في الخرطوم مكونة منه ومن المفتي مع عدد من العلماء والكتبة. وقُدر عدد سكان مديرية الخرطوم في أوائل الخمسينات (من القرن التاسع عشر) بأقل من ستين ألف نسمة. وبلغ عددهم في عام 1911م 61,380 نسمة (22,680 في الخرطوم، و38,700 في الخرطوم بحري). أما الآن (أي عام 1919م) فلا يزيد عدد السكان بها عن 48,000 (28,924 في الخرطوم و19,495 في الخرطوم بحري). ] لم يقدم الكاتب تفسيرا لتناقص عدد سكان المدينة، ولم يأت بعدد سكان أم درمان فيما ذكره من أرقام. المترجم [. وكانت مباني المدينة القديمة قد بُنيت من طابق واحد بالطوب الطيني المجفف بأشعة الشمس، مع قليل جدا من المباني ذات الطابقين. ولم يكن بها أي بناء مشيد بالحجر سوى مبنى الإرسالية الكاثوليكية النمساوية. وكانت غالب الشوارع ضيقة ومتعرجة ملتوية. ولم يكن هنالك أي تنظيم (معماري) معروف أو محدد لتشييد المنازل. ولا يوجد الآن بالخرطوم سوى ستة منازل للأوربيين في الخرطوم، مقارنة بخمسة وعشرين منزلا في عام 1860م (إضافة لمبنى الإرسالية الكاثوليكية النمساوية). وكان هؤلاء الأجانب قد قدموا للسودان كتجار من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، مع رجل أو رجلين إنجليزيين. وكان بعضهم من رعايا إنجلترا (من مالطا أو المشرق / الشرق الأدنى). وكان السير صمويل بيكر قد زار الخرطوم في عام 1862م، ومرة أخرى في عام 1870م، ووصفها بأنها "مكان بائس وقذر وغير صحي" ولا شك أنها كانت بالفعل كذلك. وفي عام 1870م دمر الدراويش مدينة الخرطوم بأكملها، وبقيت مهدمة إلى أن دخلها جيش كتشنر الخرطوم منتصرا، وقام عمليا بإعادة تشييدها. ولا بد أن ذلك كان قد بدا للكثيرين كعمل يائس عدا لذلك الجندي المقدام الذي استرد البلاد من الوحشية، مثل نظيره نابليون الأول. ويمكن للمرء أن يتخيل أن كتشنر المنتصر وهو يصيح بأعلى صوته: "كلمة (مستحيل) لا توجد في قاموسي". لقد كانت للتجارة في الخرطوم في تلك الأيام أهمية خاصة. فباستثناء كردفان (التي كانت تتلقى غالب موادها التموينية مباشرة من القاهرة عن طريق دنقلا) كانت الخرطوم هي مخزن السودان الرئيس لكل أصناف البضائع الهندية والأوروبية التي كانت تدخل للبلاد عن طريق سواكن، وبربر، والنيل. وكانت غالب واردات السودان تأتي من مانشستر، فلم يكن بالسودان حينها قطن (من النوع المصري). وكانت الصادرات تتألف أساس من العاج (من مناطق النيل الأبيض) والصمغ العربي وريش النعام وشمع العسل (الحبشي) والجلود. وعند زيارة الأمير هيرمان ماسكاو للخرطوم في 1837م، وصفها بالتالي: "تقع الخرطوم في زاوية بالشوكة (fork) المتكونة من التقاء النيلين الأبيض والأزرق. ويعطيك من بعيد منظر جامعها المرتفع الكبير وأسوارها الحربية شعورا بالجلال والفخامة. ولكن ما أن تقترب منها أكثر حتى يزول عنك ذلك الشعور الكاذب، وتكتشف أن مبانيها – مثل كل مباني كل المدن الصغيرة في هذه المنطقة – ما هي إلا مبانٍ طينية بائسة تفتقر لأي لمسة جمالية. أما طبيعتها العامة فهي صحراوية، وغالب ما فيها من مساحات خالية من الأشجار. ولم أشاهد فيها أي حدائق إلا نادرا جدا. ولا يحق لنا في الواقع أن نتوقع من الخرطوم أكثر من ذلك، فعمرها الحقيقي لا يتجاوز العقد من الزمان عندما قامت في هذه الصحراء بأمر من محمد علي باشا". (الأمير هيرمان ماسكاو (1785 – 1871م، هو نبيل ورحالة الماني اشتهر بلوحاته الفنية وكتبه التي أشتهر منها كتاب بعنوان "سملاسو في أفريقيا" عن رحلاته إلى شمال أفريقيا ومصر والسودان عام 1835م". المترجم) وإن قدر لذلك الأمير الرحالة أن يزور الخرطوم الآن، فلن تفوته ملاحظة أعداد الحدائق بالمدينة. فقاطني الخرطوم (وأتبرا أيضا) يقيمون حدائق جميلة في بيوتهم، ويعدونها من لوازم البيت الضرورية (desiderata)، تماما كما وصفه جوناثون سويفت حين كتب: "منزل جميل ليقيم فيه صديق، ونهر عند نهاية حديقتي". وعندما تتوفر المياه، فإن الحدائق في السودان تبز نظيراتها في إنجلترا أو غيرها من الحدائق في الغرب بأنها تظل بهجة للناظرين طوال العام. وتعطي في ثلاثة أشهر من كل عام منظرا ساحرا أخاذا بألوان أزهارها المتنوعة، وأوراق شجرها الشديدة الاخضرار، ولا ينقصها سوى العشب الناعم الفتان الذي ينمو بريا في أجوائنا الرطبة. وهذا ما لا يمكن زراعته تحت أي جو مختلف. وفي يناير، أجمل فصول السنة على الإطلاق في السودان، تنتشر أزهار بوهينيا bauhunia على مساحات واسعة، تنشر لونا بنفسجيا شاحبا مختلطا باللون الوردي، يشبه نبات الزمزريق الأثيبي (Judas -tree) عندما يورق. أما شهري مارس وأبريل، فيهما يظهر نبات الكركدي بكؤوس أزهاره القرمزية ونبات (بِنْتُ القُنْصُلِ poinsettias) في لون اللهب. وفي شهر مايو تضج الحديقة بـ (زفة ألوان) فواحة وغنية بأزهار شجرة الموهر mohur البرتقالية البالغة الروعة، والماغنوليا magnolia بأزهارها الشديدة البياض، وأزهار نبات الجهنمية bougainvillea القرمزية والحمراء الأرجوانية، وأزهار نبات القنا (Canna) الصفراء، وأزهار مجد الصباح morning glory الزرقاء، وغيرها كثير. وللأسف لا يشاهد الرجل الإنجليزي كل تلك الأزهار البالغة الجمال في حديقته بالخرطوم في قمة روعتها، إذ أنه يكون حين ذاك يقضي عطلته السنوية في بلاده. ومن أهم العوائق التي تجابه الحدائق (المثالية) بالخرطوم هي قلة الماء. ولا بد من توفير مصدر اصطناعي للماء، وهذا يتطلب الكثير من العمل. غير أنه من الغريب أن الأزهار هي آخر من يتأثر بنقص المياه، فهي تستمر في الازدهار والبهاء حتى في أحر شهور الصيف دون كبير عناية من أحد. وسار اللورد كتشنر والسير وينجت والسير استاك على نفس نهج سلفهم الجنرال غردون في العناية الشديدة بحديقة القصر، ولم يدخروا مالا ولا جهدا في سبيل الحفاظ عليها في أحسن حال. ورغم صغر مساحتها فقد كان منظرها يأخذ بالألباب بسبب عظم وتنوع أشجارها، ومساحتها المغطاة بالعشب الأخضر، وممراتها المزينة بالأزهار المختلفة الألوان. ولا شك أن استخدام مضخة كهربائية (3 – بوصة) حديثة لريها من ماء النيل الأزرق كان مما سهل الإبقاء عليها خضرة نضرة باهية الألوان (استطرد الكاتب في هذا الجزء في سرد الأنواع المختلفة من الأشجار والزهور ومن أين جُلبت الخ. المترجم). وكان قصر الخرطوم قد بٌني في عهد الحكمدار أحمد ممتاز باشا (الذي حكم السودان بين فبراير 1871 – أكتوبر 1872م. المترجم) دون الحصول على إذن مسبق من خديوي مصر، وبأموال لم يكن له حق تملكها أو التصرف فيها، كما ذكر غردون. وتمت معاقبة ممتاز باشا على فعلته تلك بالطريقة المصرية القديمة المجربة، فقد تم تسميمه والتخلص منه في هدوء. وكان تخطيط المبنى الذي صممه ممتاز باشا عاديا وبسيطا من الخارج، ولم يكن بداخله إلا القليل جدا من وسائل الراحة والفخامة، كما وصفه غردون عند دخوله له (كان غردون قد شغل منصب الحكمدار بين مايو 1877 و1879م. المترجم). وكان سطح الطابق الثاني للقصر مسطحا تماما، ويرتفع أربعين قدما عن الأرض. وعلى ذلك منصة ذلك السطح تمت المجزرة التي قتل فيها الدراويش غردون وحرسه وخدمه واستولوا على القصر في 26 يناير من عام 1885م. وكان غردون قد غادر سطح القصر واتجه للدفاع عن السلالم المؤدية للسطح، ولكنه تلقى طعنتين من الأمام ثم من الخلف من سوداني اسمه طه شاهين قبل أن يشهر سلاحه. وكان غردون قد أدار عمدا ظهره للقاتل بعد أن طعنه من الأمام، للتعبير عن اشمئزازه منه واحتقاره له. ووضع الآن في مبنى القصر الحالي قرص تذكاري صغير في المكان الذي سقط فيه جسد ذلك القائد الشجاع، وحُزَّ رأسه. (يمكن النظر في مقال مترجم عن "مقتل غردون: رواية شاهد عيان" بقلم جي ريد. ولخص الأستاذ الدكتور أحمد أبو شوك الروايات حول مقتل غردون كما يلي: "يوجه نعوم شقير أصابع الاتهام إلى محمد ود نوباوي، زعيم بني جرار، محتجاً بأنه أول من طعن غردون، ثم تلاه نفر من الأنصار، قاموا بقطع رأسه، وعرضه على عبد الرحمن النجومي، ثم الخليفة شريف، ثم على المهدي (شقير، 1981م، ص: 535). وحسب رواية علي المهدي مؤلف "جهاد في سبيل الله" فإن قاتل غردون هو شخص يدعى مرسال يعمل بيرقدار (أي حامل راية) للأمير ميرغني سوار الدهب. وقد أطلق رصاصة على شخص كان يقف من نافذة قصر الحكمدار المحاصر، وعندما صعد المرافقون لمرسال، اتضح لهم أن المقتول هو غردون. أما ضرار صالح ضرار فيوجه الاتهام إلى رجلين من قبيلة البجا. وهذه أضعف الروايات. المترجم). وأُعيد بناء القصر من جديد مع بداية الاحتلال البريطاني للسودان. وهو مبنى جميل بالفعل، ولكنه أبعد عن كونه مبنيً واسعا أو مريحا. كان أثاثه معقولا ولكنه كان يفتقر للفخامة. ولم يكن بكل القصر شيء جاذب سوى حديقته الجميلة والتي تمت المحافظة عليها بعناية فائقة. وكان الحاكم العام وزوجه يستضيفان الكثيرين في القصر بصورة شبه دائمة. وكانا يقيمان الكثير من حفلات الغداء والعشاء، ويستضيفان كذلك الكثير من الزوار من خارج البلاد. وكانا يقيمان أيضا بداخل القصر حفلات راقصة وحفلات استقبال رسمية، وحفلات في الحديقة أيضا. وكانت الخرطوم الجديدة تختلف اختلافا كليا في منظرها والراحة فيها عن الخرطوم القديمة. وجسدت المدينة الحديثة كل ما خطط له اللورد كتشنر منذ عام 1898م. ولم يجد أحدا بعده حاجة في أن يغير أي شيء مما تم التخطيط له في ذلك العام، بل على العكس تماما. ففي عام 1911م عاد كتشنر للخرطوم زائرا ليرى بعينيه نتائج ما خطط له قبل سنوات. وكان تقييم (اللورد) كما كان يحلو للمصريين تسمية قائدهم السابق، أن النتائج جيدة. لذا قرر المسؤولون الاستمرار في خطة كتشنر للبناء والتعمير الأصلية كما هي، دون أدنى تعديل. وبذا صارت الخرطوم الآن مدينة جيدة التخطيط، بها شوارع رئيسة وفرعية عريضة، ومبانٍ حسنة البناء، ولكنها لا تزال تفتقر للتَصْريف. وكان تخطيط المدينة الأصلي يقوم على أن تسير الشوارع الرئيسة متوازية مع النيل (الأزرق)، وتتقاطع عاموديا مع شوارع أخرى بزوايا قائمة، مكونة مستطيلات مساحة الواحد منها نحو 500 ياردة مربعة (حوالي 418 مترا مربعا). وقُسم كل مستطيل من هذه المستطيلات بثلاثة شوارع تسير موازية للشوارع الكبيرة، وبشوارع قطرية (مائلة) تربط بين تقاطعات الشوارع الرئيسة. وبلغت الخطة الأصلية حدودها النهائية منذ سنوات، ومع زيادة السكان التي تستلزم توسع المدينة ستبدأ في المستقبل القريب خطة امتدادات لاحقة بلا شك، وستكون مشابهة لخطة كتشنر الأصلية. وسيقام في المستقبل شارع دائري يحيط بالمدينة، وستمتد الشوارع القطرية (المائلة) لتسهل السير عبر طريق محوري يصل لمركز المدينة. وحرص المخططون للطرق على أن يكون عرض كل شارع من الشوارع الرئيسة والفرعية كبيرا. ورغم أن التكلفة المالية الأولية لتلك الشوارع الكبيرة كانت عالية نسبيا، ألا أنها عُدت ضرورية ولا بد من تنفيذها بسبب حرارة الطقس المفرطة، ولضمان توفير قدرٍ كافٍ من التهوية في المنازل. أما أجمل الشوارع وأوسعها فهو شارع فيكتوريا (القصر الآن. المترجم) الذي يبلغ عرضه 180 قدما. وهو يبدأ شمالا من حدائق القصر ويتجه جنوبا، وتحيط به الأشجار. ويعطي جمال منظر الشارع بالمباني الحكومية الأنيقة ومبنى الكاتدرائية بجواره منظرا بديعا آسرا. ولو قُدر لمن خططوا مدينة الخرطوم أن يحصلوا على الأموال اللازمة لتنفيذ كل تخطيطهم الأساس، لغدت مدينة الخرطوم، أو على الأقل الأحياء الأرقى فيها، تبدو بصورة مختلفة تماما عما نراه اليوم. غير أن ذلك البرنامج الطموح، الذي كان يشمل تشييد عددا من الشوارع الواسعة ذات الأرصفة الجيدة، والمقامة حولها دور ومبان حكومية أنيقة التصميم والبناء، مع صفين من الأشجار الوارفة الظلال، ما زال ينتظر التنفيذ. وبالفعل بدأت بعض الأشجار المزروعة على جانبي بعض الشوارع في النمو وتوفير قليل من الظل للمشاة. ولم يتم رصف جميع الطرق بالمدينة لقلة المال المخصص لتلك الغاية. وبالطبع، فإن من خططوا للمدينة غير ملومين في هذا التقصير. وأكتفت الحكومة إلى الآن برصف جزء صغير من كل شارع كبير، وتركت الباقي (طبيعيا) لتغطيه الرمال. ولا شك في أن رصف كل شوارع المدينة بالأسفلت سيلقي عبئا ماليا ضخما على السلطات البلدية. فميزانيتاها محدودة، وتُستغل لأقصى حد في رصف أجزاء من الشوارع الرئيسة بالمدينة. ويساهم السكان في ميزانية البلدية بنحو 8% من قيمة إيجار منازلهم. ولعل هذا هو سبب غضب وشكوى السكان من حالة الشوارع بالمدينة، التي يمشون عليها مرات عديدة في اليوم تحت وهج الشمس الحارقة.