لعلنا نتذكر بوضوح شديد، نهج المسؤولين الحكوميين في التصدي للانتقادات التي توجه إليهم كلما طفحت المشاكل العويصة على السطح وجأر الناس بالشكوى من الأزمات والكوارث الطبيعية. ما ظللنا نشاهده عبر عقود من الزمان أن المسؤولين يتجهون بصورة تلقائية إلى الحل الإعلامي. وهو حل تهيئه لهم أجهزة الإعلام التي تسيطر عليها الحكومة علهم يرفعون عن الحكومة الحرج. وهكذا ينبري المسؤولون في تدبيج أعذار ساذجة لا تجوز على أحد. وبهذا يصبح التنفيذي مدير علاقات عامة، همُّه الأساس هو ذر الرماد في العيون.
المدهش أن هؤلاء المسؤولين لا يملون تكرار ذلك الصنف من الأعذار الواهية. ففي أيام الرئيس الراحل الأسبق، جعفر نميري، بدأت الشقة تزداد بين قدرة محطات مياه الخرطوم على تنقية المياه من العكر، في فصل الخريف، وبين الاستهلاك المتزايد للمياه الذي تسببت فيه الهجرة الضخمة من الريف إلى الخرطوم. حينها، لم تجد هيئة المياه مناصًا من ضخ مياه الخريف العكرة من النيل إلى الصهاريج مباشرة، قبل أن تكتمل تنقيتها، والدفع بها، من ثم، إلى شبكة الأنابيب. وحين شكا المواطنون من عكر المياه اتي لا تصلح لتنظيف شيء، خرج علينا المسؤولون بقصة مادة الشب التي تأخر وصولها. وظلوا يكررون تأخر وصول الشب كلما تدفق الماء العكر من الصنابير في البيوت في كل خريف، وكأن الخريف حدثٌ شاذٌّ يأتي فجأة.
الطريف أن مثل هذه المشاكل غير معروفة في الدول الأخرى. فالكفاءة والاستدامة في حل مشكلة توصيل المياه إلى المنازل وتصريفها في فصل الأمطار، إضافة إلى الصرف الصحي هي من الأبجديات لدى غالبية الدول. وهي من الأمور التي لا تحتمل المساومات ولا ينبغي أن يُقبل فيها أي عذر. فهي إما أن تكون على ما يجب أن تكون عليه، وإما الكوارث. وإذا تركنا الدول المتقدمة جانبا، وأخذنا مثالا واحدا من دول الجوار التي تشابه أحوالها أحوالنا، كإثيوبيا، فإننا نجد أن إثيوبيا لا تعاني من تعكر المياه في الصنابير في فترة الخريف، رغم أن مصادر مياهها في الخريف أكثر عكرا، لأن الهضبة الإثيوبية هي أصلا مصدر العكر. كل ما في الأمر إنهم يملكون نظاما لتزويد المدينة بالمياه النظيفة حافظ على تقاليده وبقي متماسكا، وظل يعمل كما تعمل الساعة. والسبب وراء ذلك أنهم يعرفون كيف يرتبون أولوياتهم. كما تقدم لنا كينيا، هي الأخرى، مثالا آخر في هذا الجانب، وكذلك يوغندا.
قبل أيام سمعت مقابلة بالهاتف بثتها واحدة من القنوات الحكومية مع مسؤول حكومي حول تراكم مياه الخريف في الطرقات والساحات. وهو أمر ظل يتكرر كما هو منذ سنوات طويلة. قال المسؤول: إنهم يفتحون المجاري ويفتحون الفتحات "الشنايش"، التي تسمح بمرور المياه المتراكمة من الشوارع إلى المجاري تحت الأرض، قبل بداية الخريف، ولكن المواطنين يعتدون على هذه الفتحات وعلى المجاري بوضع الأنقاض والأوساخ. وبطبيعة الحال فإن الأوساخ والأنقاض تتراكم ويلقي بها المواطنون كيفما اتفق بسبب عجز هيكلي في منظومة نقل النفايات، وفي المنظومة الخدمية المدينية برمتها. فهذا الأمور تُكمِّل بعضها وتمثل منظومة من حلقات، يؤدي الفشل في أي حلقة منها إلى فشل الحلقات الأخريات.
عجز المحليات في متابعة الطرق الصحيحة التي ينبغي أن يتبعها المواطنون للتخلص من الأنقاض، وعجزها المتفاقم وعدم انتظامها في نقل النفايات، يجعل من الميادين والمجاري مكبات للنفايات والأنقاض. بل يتسبب هذا النوع من عدم الكفاءة الإدارية من جانب السلطات، في تخريب السلوك المدني لدى المواطنين فيحولهم من مواطنين مسؤولين إلى رجرجة من اللامبالين، وهو ما نشاهده يتفاقم كل يوم، في حياتنا "العاصمية" البئيسة اللاهثة هذه. فالفشل المزمن في تحقيق الكفاءة والقدرة على استدامة النسق الخدمي، لدى السلطات، يقود تلقائيا إلى انهيار الكثير من منظومات القيم لدى العامة.
أيضا، لا ينبغي أن يكون تنظيف المجاري عملا موسميا، يجري مرة في العام، وإنما ينبغي أن يكون عملا يوميا، يجري وفق منظومة النظافة العامة ووفق روتين المتابعة العادي، للتأكد من أن كل شيء يعمل كما ينبغي. إن فكرة حملات تنظيف المجاري، وحملات النظافة الموسمية التي تتداعى لها السلطات ومنظماتها، والهبات و"النفرات" الفجائية المرتجلة، لهي أكبر دليل على الفشل الهيكلي في المنظومة الكلية. فالناس في بيوتهم لا يقومون بحملات نظافة موسمية، بسب "هوشات" فجائية، وإنما ينظفون بيوتهم يوميا بصورة روتينية. وهذا ما ينبغي أن تفعله السلطات في الفضاء العام، خاصة أنها لا تخجل من أخذ الجبايات من المواطنين المعوزين. فنظافة المدينة والتأكد من عدم انسداد فتحات المجاري، ليست نوافل، وإنما هي فرائض يومية، ينبغي أن تطلع بها السلطات بصورة مؤسسية، ثابتة، ومستدامة.
ليس بغائب عن بالي أن بلادنا تعاني من مشاكل هيكلية عويصة. غير أن سبب مشاكلنا في الأساس هو العيار المتدني لمسؤولينا، ابتداء بالآباء المؤسسين، وانتهاء بمستوزري الإنقاذ الذين حملهم إلى الواجهة زبد "التمكين". فالسياسات الخاطئة المتواصلة قادت إلى خلق أحمال ناء بثقلها كاهل البلد. فقد ظل افقار الريف وتخريب اقتصاد الكفاف لدى سكان الأرياف، واشعال الحروب والاصرار على استمراريتها، عملا حكوميا ممنهجا، منذ الاستقلال. وقف وراء هذا المسلسل، متصل الحلقات، قصور التصورات، وخطأ الأولويات، ونهم النخب للثروة والثراء الشخصي والجهوي، ومنظومة الفساد التي لا تفتأ تتسع وتتعمق، والاستخدام السيء للمنصب العام. تسبب كل ذلك في تفريغ الأرياف من سكانها وفي استنزاف طاقاتها المادية والعقلية، ومن ثم، في ازدحام المدن التي أصبحت إدارتها غاية في العسر.
ليس في السودان، إلى اليوم، تخطيط هندسي متماسك الحلقات. ولا حاجة بي إلى القول إن المنظومة الهندسية منظومة واحدة متكاملة. وما ظل يجري في السودان منذ الاستقلال، وما ظل يجري في عهد الإنقاذ هذا بخاصة، مجرد افتئات على الهندسة. ورغم أننا فقدنا الكثيرين من خيرة مهندسينا بسبب الهجرة، وبسبب "التمكين"، إلا أن العلة لا تكمن في ضعف المعرفة الهندسية، أو الخيال الهندسي، بقدر ما تكمن في السياسات، وفي التواء المسؤولين. فعمليات سفلتة الشوارع "المكلفتة" منذ أيام الشركة اليوغسلافية في فترة حكم جعفر نميري، وانتهاء بما شيدته الانقاذ خلال ما يزيد عن ربع القرن، كانت مجرد دعاية سياسية فجة، ولم تكن عملا مدروسا في تطوير البنى التحتية. فهذه الشوارع لا تلبث أن تتصدع وتطمرها الأتربة, ولم تمثل، في جملتها، انجازات يقف وراءها أي فكر هندسي متناغم، يعمل وفق منظومة متكاملة. فكلها انشاءات عشوائية مبعثرة لا تحكمها خطة كلية. فهي من باب: "شوفونا عملنا حاجة". كما أن هذه الهبات المتقطعة للإنشاء والتعمير ليست سوى مجرد مواسم لشفط المال الحكومي من خزائن الدولة إلى الجيوب الخاصة.
يضاف إلى ما تقدم أن الشركات التي تقوم بالعمل شركات غير مؤهلة أصلا، أو هي شركات فُتحت لها الثغرات، بسبب الفساد المستشري، فأصبحت لا تهتم بالالتزام بقواعد العمل الهندسي، كما ينبغي. وما من شك أن أعمال التشييد يمكن أن تصبح مجرد ذريعة حكومية لمنح المقاولات التي يثري من ورائها أفراد بعينهم، دون أن يحقق المشروع المنجز الفائدة المرجوة منه.
من مشاكلنا في التخطيط الهندسي للمساكن أن المواطن يمنح قطعة الأرض، فيبني مسكنه بلا معلومات مسحية تحكم الانحدار الذي يتحكم في تصريف مياه الأمطار. وتقوم السلطات بحفر المصارف، بالمعاول، وبلا معلومات مسحية وضبط دقيق للانحدار. ولذلك تتراكم مياه كل حي في المناطق المنخفضة من شوارعه وفي ساحاته العامة، وتصبح بركا تتعفن فيها المياه ويتوالد فيها الذباب والناموس. وكل ذلك يقول، بلا مواربة، ليس هناك تخطيط يذكر، وإنما هناك حلقات من الارتجال، تقود إلى حلقات أخرى من الارتجال. ويصبح الحلم بتحسن الأحوال في هذا الوضع مجرد أوهام وتشبث بالمحال.
قادتني إلى كتابة هذه المقالة، المشاهد الكارثية لأهل شرق النيل الأزرق الذين أغرقت السيول منازلهم، ولم يجدوا مكانا جافا يقفون عليه، حتى على شارع الأسفلت نفسه، إذ غمرته المياه. وهذه ظاهرة أخذت تتكرر مرارا، في السنوات الأخيرة. معلوم أن أرض البطانة بين النيل الأزرق ونهر النيل ونهر عطبرة تمثل بطبيعتها ظاهرة تضاريسية حدباء مثل ظهر الثور، وبها خط تقسيم مياه، كما علمونا في دروس الجغرافيا. تنحدر أرض مياه الأمطار من احدوداب البطانة النسبي صوب النيل الأزرق وصوب نهر النيل وصوب نهر عطبرة. والطريقين البريين اللذين أُنشئا مؤخرا، بمحاذاة الضفة الشرقية للنيل للأزرق، من الخرطوم إلى مدني، وبمحاذة نهر النيل، من الناحية الشرقية، من الخرطوم إلى عطبرة، مثلت حواجز ترابية تقف في وجه المياه المنحدرة من سهل البطانة صوب النيل الأزرق وصوب نهر النيل. وتقول كل الشواهد إن الفتحات التي تسمح للخيران الحاملة لهذه المياه بالمرور إلى النيل الأزرق ونهر النيل أقل بكثير من حجم المياه المتدفقة.
في مثل هذا الحالات ينبغي أن يعتمد تصميم الكباري وسعة الفتحات وعددها، على الحجم الأقصى المتوقع للمياه المتدفقة صوب النيل، وليس على حجم المتوسط السنوي. وأكبر ظني أن هذه المعرفة متوفرة، لكن الرغبة في خفض التكلفة عن طريق التلاعب بالمواصفات ربما تكون السبب الذي أدى إلى تقليل عدد الفتحات، واستخدام المواسير الأسمنتية، بدلا عن بناء كباري عريضة تسمح بمرور الماء دون أن يتراكم، غير أن بناء كباري طويلة أكثر كلفة. ضيق الفتحات وقلة عددها هو الذي يتسبب في تراكم المياه وتزايد ضغطها على ردمية الطريق إلى أن يجرف السيل الطريق نفسه، بعد أن يكون قد أغرق القرى الواقعة على جانبه الذي انحجزت فيه المياه.
لا تحتمل مشاريع البنية التحتية التلاعب ولا "الكلفتة"، ولا اختصار الكلفة. ففضحيتها تبين للمتلاعب في التو والحين. ويذكرنا هذا بالحواجز الترابية التي شيدت في الثمانينات غرب حارات الثورة بأمدرمان لتحميها من السيول المتدفقة صوب النيل، فأصبحت سببا في كارثة أكبر. يضاف إلى ذلك التعدي المتزايد على المجاري الطبيعية بردمها، والبناء فيها في مواسم الجفاف يخرب التصريف الطبيعي ويجعل ممتلكات المواطنين عرضة للانجراف تحت ضغط المياه. هذا مع أن ثقافتنا الشعبية تقول في باب الأمثلة: "السيل يجري في مجاريه القديمة"، فهو لا يخلق مسارا جديدا أبدا، لأن مساره القديم هو ما نحتته الطبيعة منذ ملايين السنين. ويذكرنا هذا بفضيحة كبري المنشية التي قام فيها المسؤولون بحملة علاقات عامة بائسة امتدت لأسابيع. رغم أن سبب المشكلة، في تقديري، هو الاكتفاء بإنهاء الكوبري عند بداية السهل الفيضي للنيل الأزرق من الجهة الشرقية والاكتفاء بعمل ردمية ترابية ضعيفة يستمر عليها الكوبري حتى يصل إلى الأرض الثابتة. قاموا بعمل ذلك بدلا عن بناء أعمدة خرصانية تحمل امتداد الكوبري عبر السهل الفيضي إلى الأرض الثابتة، كما هو الحال في كوبري شمبات الذي جرى تشييده في ستينات القرن الماضي.
في الأنظمة الديكتاتورية تسير الأمور وفق هذا النسق: فكلما تبين الفشل وجأر الناس بالشكوى، يجري تسليم طرف الخيط للإعلام المملوك للحكومة وإعطائه الأوامر ليستجوب المسؤولين الذين يدخلون، بدورهم، في مناقشات عقيمة لا تلمس جذور المشاكل، وإنما تنحصر في الاتيان بأعذار واهية. يجري في هذه الملهاة تقديمهم كباش فداء، من هؤلاء المسؤولين، ولكن على المستوى المعنوي فقط. فهم لا يفقدون مناصبهم وإنما فقط يتعرضون لسخرية الجمهور، وقد عودوا أنفسهم على احتمالها لأن عيونهم على مغانم المنصب التي أدمنوها. فهم، في نظري، يرون أنهم لا يدفعون سوى ثمن معنوي ضئيل، هم أصلا جاهزين لدفعه. وهكذا يتسلى الجمهور بالملهاة حتى تمر العاصفة. وخلاصة القول هنا إن الحال لن ينصلح، ما لم يخرج الإعلام نهائيا من يد الحكومة وجهازها الأمني. فالحكومة ليست الدولة، ولكنهم، ومن كانوا قبلهم، جعلوها كذلك.
elnourh@gmail.com