الدروس العشرة المُستفادة من إلهام الإنتفاضة التونسية والمصرية
mahdica2001@yahoo.com
حفلت المقالات والتحليلات المنشورة عبر العديد من وسائط الإعلام خلال الفترة الماضية بالتساؤلات المشروعة حول أسباب تأخُر قيام ثورة سودانية تطيح بالنظام الحاكم أُسوةً بما حدث في تونس ومصر وما يحدث في كثير من أرجاء العالم العربي الذي يبدو أن رياح ثورة الياسيمين والتحرير المصرية قد أيقظت جماهيره من سُباتها العميق، وتنطوي هذه التساؤلات على قناعة صحيحة بأن الأوضاع في تونس ومصر (وكافة أرجاء العالم العربي) لا تُقارن بالأوضاع السيئة التي يعيشها الشعب السوداني بكافة فئاته وأقاليمه وقبائله، وبالتالي فإن الظروف الموضوعية ناضجة تماماً لتفجر ثورة الغضب الأسمر، ولا أظن أن هنالك مسوغاً لترداد موبقات وخطايا المحفل الماسوني الحاكم في سودان الإنقاذ، لأن الكُل مُلم بها ومُحترق بنارها، وأضحت كبائر النظام محفوظة عن ظهر قلب حتى لأطفال المدارس ورياض الأطفال، وفي حقيقة الأمر فإن الظروف الموضوعية للثورة ناضجة مُنذ أن بانت حقيقة إنقلاب يونيو 1989 وإنكشاف مسرحية إرسالهم لكبيرهم الذي علمهم السحر (الذي ارتد عليه لاحقاً) وافتضاح كذبة قائدهم بأن هيئة القيادة قررت الإستيلاء على السُلطة (في الوقت الذي كان يودع فيه هيئة القيادة أقبية السجون)، فأُناس يبدأون مشوارهم بهذا الكذب البواح لا يُرجى منهم خيراً أبداً. وعموماً فليس من أغراض هذا المقال الخوض في أسباب تعثُر وتأخُر الثورة السودانية، التي اكتملت كُل عواملها، فقد كتب وأسهب وأفاض غيري في التوصيف والتحليل (ولعل الكاميرا القلمية للمُبدعين/ فتحي الضو، ود. حسن بشير، ود. إبراهيم الكرسني، ود. عبد الوهاب الأفندي ،،إلخ قد أوفت التوصيف والشرح والتحليل).
سوف نتناول في هذا المقال مسائل مُحددة وبإختصار شديد وهي:
1. خطل زعم الإعلام العربي بأن الثورة التونسية أول ثورة شعبية تُطيح برئيس عربي، وذلك إما جهلاً بالتاريخ أو لأنهم لايحسبون السودان في عداد الدول العربية، ومن نافلة القول التذكير بثورتي أكتوبر 1964 وأبريل 1985. فهل يستفيق / إسحق أحمد فضل الله، وشيخه / الطيب مصطفى، من أوهام وعُقدة النقاء العرقي التي لا أساس لها من الصحة !!؟؟.
2. إن ما تم في تونس ومصر ليس ثورة جذرية وإنما إنتفاضات شعبية بهدف إحداث إصلاحات جُزئية، وهذا ما تحقق فعلاً، والدليل على ذلك أن رئيس وزراء الحكومة التونسية الحالية (محمد الغنوشي) بعد رحيل بن علي، هو ذات رئيس الوزراء قبل الإنتفاضة، أما في مصر فإن الحكومة التي شكلها حُسني مُبارك-قبل خلعه- برئاسة اللواء/ أحمد شفيق، لا تزال تُمارس مهامها، ولا يزال الحرس المُباركي القديم من رجال أعمال وعسكر وساسة، يمسكون بمفاصل الحُكم حتى إشعار آخر، ولئن إكتفى التوانسة والمصاروة بالإصلاح فإن حالتنا بلغت درجةً من التردي لا تصلح معها أي عمليات إصلاح جُزئي أو تجميل (كما يتوهم السيد/ الصادق المهدي) وإنما تحتاج إلى تغيير جذري، يهدم البُنى القديمة التي أثبتت فشلها مراراً وتكراراً، ويضع الأساس لنظام جديد، وربما وبسبب أن المطلوب ثورة شاملة بمعنى الكلمة، ونتيجة لضبابية الرؤيا حول النظام الجديد المُبتغى، تتأخر الثورة السودانية ويتطاول ويتعسر مخاضها.
3. ثمة نقاط تشابه كثيرة بين أنظمة الحُكم في تونس ومصر والسودان ومنها؛ أنها جميعاً تستند في نشأتها الأولى على القوات المُسلحة، ثم تسعى للبقاء أبداً عبر تشديد قبضة أجهزة الأمن، بالرغم من محاولاتها الدءوبة لإكتساب شرعية شعبية عبر إنتخابات صورية بعد تشكيل أحزاب كرتونية ترضع من ثدي السُلطة وتتماهى مع مؤسسات الدولة المالية الحلوب (حزب المؤتمر الدستوري في تونس، والحزب الوطني في مصر، وحزب المؤتمر الوطني في السودان)، مما يؤدي إلى نشوء تحالف فاسد ومُفسد بين السلطة والمال، وليس صُدفة أن كافة رؤساء هذه الأنظمة ينتمون إلى المؤسسة العسكرية، ولكن المُدهش حقاً في الأمر أن هذه الأنظمة تحمل بذور فنائها في أحشائها، وهنا يلزم التأمل والتدبر في الحديث المأثور "أن الأمة تلد ربتها"، والمثل الشعبي "عدوك تلديهو من ظهرك"، أو ليس هذا ما يسمونه "الديالكتيك" في أدب اليسار!!؟؟. ولعل خير مثال على ذلك أن الرأسمالية تستلزم تخليق طبقة عُمالية لسرقة جهدها العضلي والحرفي (فائض القيمة) ولكن المطاف ينتهي بهذه الطبقة الفقيرة المُستغلة إلى قيادة الثورة ضد أربابها وأولياء نعمتها، ولذا فإن تحالف المال والسُلطة مسنوداً بقوة العسكر والأمن، لا ينتج سوى الفساد الذي تستفيد منه فئة محدودة وقلة من المحاسيب والأهل، مما يؤدي في نهاية الأمر إلى الشعور بالظُلم والمهانة والغضب، ومن ثم تفجر الثورة، فالظلم وحده لا يؤدي إلى الغضب وإنما الشعور بالظلم (كما قال فولتير أو روسو-لا أذكر)، ولذلك فإن من يبتغي الثورة عليه بالديموستنارة أو (كما قال عبد العزيز الصاوي) أو بث الوعي كما قال عبد الخالق محجوب، وهو على جفن الردى في يوليو 1971.
4. كذلك من نقاط التشابه بين الأنظمة الديكتاتورية في مصر وتونس والسودان، تشتت المعارضة وعجزها، وقد إستطاع الشباب في الحالتين التونسية والمصرية، تجاوز القيادات والأُطُر القديمة وإشعال وقيادة الإنتفاضة الجماهيرية، ولكن العلة الكأداء لدينا في السودان تتمثل في أن المُعارضة ليست عاجزة فقط، وإنما تلعب دوراً ضبابياً يقود إلى الحيرة والتخذيل والإحباط.
- من نافلة القول أن كافة الأنظمة الشمولية تُحط من قدر وكرامة الإنسان، وحكم الإنقاذ "فاق الكُبار والقدرو" في قطع الأرزاق بإسم الصالح العام، والتفريط في الوطن، وحرق وتدمير إخوة الدين وحفظة القُرآن في دارفور، وتشتيت السودانيين في المنافي والمهاجر ومعسكرات النزوح حيث يستجدون لُقمة العيش المغموسة بالذُل والإنكسار.
5. تتشابه الأنظمة القمعية بلا إستثناء في إعتمادها التام على بطش الأجهزة الأمنية أولاً، ثُم القوات المُسلحة في حالة فشل أجهزة الأمن في حماية الحُكم والسُلطة، وقد أثبتت كافة تجارب الإنتفاضات (وبلا إستثناء) عجز هذه الأجهزة عن حماية أي سُلطة غير ديمقراطية، ونزعم بأن الأجهزة الأمنية لدينا أقل كفاءةً وإحترافيةً وأشد ضعفاً عند مقارنتها بجهاز السافاك الإيراني، أو سوكيوريتات شاوشيسكو الروماني، أو الإحتياطي المركزي المصري، أو جهاز الأمن التونسي، وذلك لأن كافة اجهزة الدولة في السودان (عسكرية وأمنية ومدنية،، إلخ) لم تسلم من كارثة وجرثومة العنصرية والجهوية وتقديم المحاسيب والأقرباء وأهل الولاء السياسي والقبلي على أهل الخبرة والمعرفة والعلم، وسوف تثبت الأيام صدق زعمنا هذا.
6. بالرغم من تسييس قيادات الجيش السوداني وتفريغه من عناصره وكوادره المؤهلة (وربما لهذه الأسباب ذاتها) فإن الجيش الحالي لن يكون إستثناءً عندما يجد الجد، وربما سبق الشعب إلى الثورة والإنقلاب على الجبهة الإسلامية التي حكمت بإسمه (كذباً وزوراً) وأدت سياساتها إلى تهميشه (كما وضح عند التصدي لغزوة خليل إبراهيم)، كما أدى تفضيل الدفاع الشعبي والمُجاهدين إلى إنتصار التمرد وفصل جنوب السودان. فالعقيدة القتالية التي تربى عليها الجيش السوداني عقيدة وطنية/قومية، وتحت هذه الراية كان يخوض الحرب في الجنوب ولذا كنت تجد المسيحي والجنوبي والغرابي مُستعداً لبذل روحه من أجل الوطن (كُل الوطن) وحماية تُرابه، ولم يكن الجيش السوداني في يوم من الأيام جيشاً عقائدياً صِرفاً. إن القوات المُسلحة تشعر بالذُل والمهانة والغضب المكتوم من الكذب بإسمها إبتداءً وتشريد أفضل كفاءاتها وقطع أرزاقهم، والغدر برفاق السلاح عندما هبوا للدفاع عن شرف الجندية ورفض تسييس الجيش لصالح فئة قليلة، وقد تم قتلهم ليلة عيد رمضان وبطريقة ليس فيها أدنى نوع من إحترام الإنسانية أو الزمالة ، وأخيراً كان فصل الجنوب (والذي يعني عملياً الحنث بالقسم العسكري الذي يؤديه جميع الضُباط عند التخرج) خاتمة مطاف المرمطة.
7. لقد أتاحت لي الظروف أن أعمل ضابطاً في دولة الإمارات لأكثر من عقد من الزمان، وزاملت خلال تلك الفترة عدداً كبيراً من الضُباط وضُباط الصف والجنود السودانيين ونشأت بيني وبين كثير منهم صداقات وعلاقات وثيقة جداً، ولذا فإنني أعرف تماماً مدى تقديرهم للزمالة ورفقة السلاح وتقديسهم لمسألة قومية الجيش، ورفضهم التام لتسليم قياده ورسنه لأي حزب سياسي (أو مجموعة مدنية) مهما كان الأمر، ثُم إن الجيش ليس هو الضباط من ذوي الرُتب العالية، وإنما يتشكل عموده الفقري من الرتب الوسيطة (من مُقدم إلى مُلازم ثاني) إضافة إلى أن نواته الصلبة تتمثل في ضُباط الصف (None Commission Officers- NCOs)، وهؤلاء لا يُمكن شراؤهم جميعاً، وستشهدون مواقفهم المُشرفة يوم يحمى الوطيس بين الشعب وجلاديه، وحين تحين ساعة الحساب العسير.
8. أما عن حزب المؤتمر الوطني (والأربعة ملايين عضوٍ المزعومين) فلقد رأينا كيف تذوب مثل هذه الأحزاب كألواح الثلج (الحزب الوطني، التجمع الدستوري التونسي، الإتحاد الإشتراكي السوداني، الإتحاد الإشتراكي المصري، الحزب الوطني في مصر السادات،،،، إلخ)، فأمثال هؤلاء يجمعهم الطمع ويُفرقهم الفزع. هل تعتقد قاريء العزيز أن أحداً سوف يُعير إلتفاتاً لأي حديث أو نداء يصدر من فتحي شيلا (الناطق الرسمي بإسم المؤتمر الوطني) أو إسماعيل الحاج موسى أو سبدرات أو غندور، وغيرهم من المسُتألفين وأهل الصُفة؟؟!! فقادة المؤتمر الوطني المُرفهين (المُرطبين) من عرق الشعب والذين نمت أوداجهم وتورمت جضومهم وربت كروشهم وانتفخت حلاقيمهم، سوف يكون جُل همهم اللحاق بثرواتهم التي اكتنزوها في ماليزيا ودُبي وجنوب إفريقيا وغيرها.
9. لم يستطع نظام حُسني مُبارك، ولا نظام زين الهاربين بن علي، وبالرغم من القبول والدعم الدولي اللامحدود، الصمود أمام ثورة الشباب الأعزل إلا من إيمانه بقضيته، فكيف يصمد نظام البشير المعزول إقليمياً والمُطارد دولياً والمكروه محلياً، علماً بأن ظُلم النظامين التونسي والمصري كان ظُلماً عاماً دون تفريق بين فئات وأبناء الشعب الواحد (أي أنه ظلم مؤسسي، إن كان للمؤسسية ظُلم) أما ظُلم الإنقاذ فهو أشد وطأةً، لأنه ظُلم خاص وليس عام، إستهدف غالبية الشعب السوداني ولكن على أساس التمييز الديني والعرقي والجهوي، وطال الناس في أرزاقهم وأرواحهم وكرامتهم، فأصبح لهؤلاء ثارات شخصية مع نظام الحُكم ومن يمثلونه، فالمخلوع حُسني والهارب بن علي، كانا رؤساء لكُل فئات شعبيهما (وإن اختلف مع الشعب) أما البشير فقد أبلغنا ومنذ أول يوم بأنه رئيس لأقلية مُحددة دينياً وعرقياً وجهوياً، يعمل لمصلحتها ومن أجلها على حساب الآخرين.
10. بالرغم من إنبطاح النظام الإسلاموي، والتمرغ في وحل العمالة لأمريكا وتسليم أخوة الإسلام لوكالة المخابرات المركزية وفتح أبواب البلاد على مصراعيها للجيوش الأجنبية ووكالات الإغاثة وعُملاء أجهزة المُخابرات، إلا أنه يزال مُدرجاً في قائمة الدول الراعية للإرهاب، ولن يرُفع عنه سيف المحكمة الجنائية إلا بعد أن يُكمل خُطة تمزيق السودان، وبعدها سوف لن يكون مصيره أفضل من مصير كُل العُملاء الذين تنتهي صلاحيتهم ويصبحوا عبئاً على أسيادهم، وما ذلك ببعيد.
ونواصل في الحلقة القادمة الحديث عن بقية الدروس المُستفادة، وخارطة طريق الإنتفاضة.
ختاماً؛ سؤال ومسخرة:
- السؤال: لماذا يُريد الصادق المهدي تعديل دستور السودان الإنتقالي لعام 2005؟؟؟ إذ أنه أفضل دستور تعددي منذ الإستقلال وربما لهذا السبب نعته الناعي بالدغمسة، ويسعى لتعديله ليكون أكثر عروبةً وإسلاماً، أو كما قال.
- المسخرة: السيد/ بشرى الصادق المهدي ضابط في جهاز الأمن، والسيدة/ مريم الصادق المهدي ناشطة ومناضلة ضد حكومة المؤتمر الوطني وأجهزته القمعية، فتصوروا لو أن الفريق أول/ محمد عطا المولى (قائد جهاز الأمن) أصدر أوامره لمرءوسه الضابط بُشرى المهدي لإعتقال وتعذيب المُعارضة مريم المنصورة!!! لخبطتنا وحيرتنا وجننتنا يا سي الصادق!!!!