الدنيا يا عاشه .. بُكرة مِي ماشه !!

 


 

 

 

عنوان هذه الكلمة ، عبارة عن مقطع مُجتزَء من مطلع أغنية شهيرة من كلمات الشاعر الكردفاني الكبير الراحل ، الأستاذ " عبد الله الكاظم " ، وتلحين وأداء بلبل الغرب الصداح ، المطرب الراحل الأستاذ " إبراهيم موسى أبَّا " رحمة الله عليهما معا. 

هذا ، وموقع الشاعر عبد الله الكاظم من خارطة الشعر الغنائي في غرب السودان عموماً ، وفي كردفان على وجه الخصوص ، يوازي في تقديرنا تقريباً ، موقع " عبد الرحمن الريح " من خارطة الأغنية السودانية الحديثة الجامعة ، التي هي أغنية مدرسة " أم درمان " في الأساس ، وذلك بجامع غزارة الإنتاج وتنوعه مع التفنن والإجادة ، إلى جانب الجمع بين التقليدية والحداثة في المفردة والأسلوب في ذات الوقت.
أما إبراهيم موسى أبّا ، فهو من عباقرة التلحين ، ومن ائمة التطريب ، ومن جهابذة الأداء الغنائي بلا ريب ، وبإجماع سائر المختصين في هذا الفن. وما زلت أذكر تحليلاً باذخاً لأغنيته الرائعة " شايل السماح " ، أعده ونشره الموسيقار العالم و الذواقة الدكتور " أنس العاقب " بأحد أعداد مجلة " الإذاعة والتلفزيون والمسرح " نضَّر الله أيامها ، ربما في أوائل ثمانينيات القرن الماضي.
إنَّ هذه الأغنية " الدنيا يا عاشه " التي نحن بصددها هاهنا ، تُعتبر من حيث الإيقاع ، أحد الأمثلة النموذجية لإيقاع " المردوم " الذي اشتهرت به قبائل البقارة بجنوب كردفان خاصة ، كما أن لحنها وموسيقاها يشيان بالنَّفَس والطابع المائل نوعاً ما إلى مقامات الموسيقى العربية ، أو ما يسمى بالسلم السداسي والسباعي المختلف عن السلم الخماسي الذي عليه جل الموسيقى السودانية ، مما يجعل هذه الأغنية مثالاً ساطعاً على ما اشتهرت تسميتها ب " الأغنية الكردفانية " عشية ظهورها المدهش من خلال الإذاعة الوطنية بأم درمان في مطلع سبعينيات القرن الماضي.
وقد لاحظتُ أن إذاعة البيت السوداني " أم درمان أف أم 100 " قد اعتمدت اللازمة الموسيقية الافتتاحية لهذه الأغنية ، فقرة ثابتة في مشعلها الدعائي الأساسي لبرامجها ، وهو مشعل يجري تكرار بثه عدة مرات بانتظام خلال كل يوم وليلة.
وعلاوةً على ذلك الإيقاع المطرب ، وتلك الموسيقى الرائعة ، وذلك اللحن الجميل والأداء المُعجِب التي اجتمعت كلها في هذه الأغنية على بساطتها ، إلا أنها قد تميزت كذلك وبصفة خاصة ، بالطرافة في اللغة والأسلوب. وقد استوقفتنا فيها في هذا الجانب بالتحديد ، بضع نكات كما يقول الأقدمون ، نورد بعضاً منها فيما يلي:
أما قول الشاعر " عاشَّه " بفتح الشين المشددة على وزن " هاشَّه وباشَّه " ، فهي الكيفية التي ينطق بها سائر أهل الأرياف والبوادي في السودان هذا الاسم العلم ، وخصوصاً أهل كردفان ونهر النيل والشمالية ، بينما يقول أهل أم درمان " عَشَّهْ " بفتح العين فقط دون إشباع بالألف على وزن " قشَّه ". ولكن طريقة ناس أم درمان هذه هي التي جعلت تشيع باطراد في سائر الحواضر في السودان كله ، تأثراً بتلك الطريقة الأمدرمانية النموذجية. ورحم الله الفنانة التشكيلية والمربية الفاضلة والأمدرمانية الأصيلة: " ماما عشّه " ، التي رحلت عن دنيانا مؤخرا.
وأما البساطة المشوبة بالطرافة في أسلوب هذه الأغنية فتتجلى في تقديرنا في هذا المطلع المدهش نفسه:
الدنيا يا عاشه
بكره مِيْ ماشه
بتدور تفرِّقْنا
مِنْ زعلكِيْ حاشه
أما الياء الزائدة في " زعلكي " بدلاً من " زعلك " ، فهي لعمري من أبرز السمات المميزة للهجة عرب البقارة بمختلف قبائلهم وطوائفهم القاطنة في الشريط الممتد من لدن جنوب كردفان شرقا ، مرورا بجنوب دار فور وأواسط تشاد ، وحتى مرابع عرب الشوا في شمال الكميرون وشرق نيجيريا غربا.
وتتجلي هذه اللهجة البقارية في هذه الأغنية في قول الشاعر:
ببكي وتعيس حالي
مترجِّي مُرسالي
كان دُرتِ ولْ عيني بنطيك لى طوالي !!
فالصفة " تعيس " هي من أبلغ صفات الذم عند جميع البقارة. وقد أحسن الأستاذ عبد الرحمن علي طه في اختيار هذه اللفظة بالذات لكي يصف بها ذبابة التسي تسي في معرض حديثه عن صديقنا " محمد الفضل " الذي زرناه ونحن تلاميذ صغار ، ضمن رحلاتنا إلى أصدقائنا التي نظمها ذلك المربي والرائد الوطني الكبير في أرجوزته المشهورة:
وجدتهُ وأهله قد رحلوا من كيلكٍ وفي الفضاء نزلوا
في بقعةٍ تُسمّضى بابنوسه حيث اتقوا ذبابةً تعيسهْ
أما قوله " ولْ عيني " ، فمعناها " ولد عيني أو ود عيني " أي إنسان عيني منطوقة على الترخيم بحذف الدال ، وهي من سمات لهجة البقارة أيضا ، ولها مشابه في لهجات عربية معاصرة أخرى كاللهجة الحسانية الموريتانية التي يقولون فيها أيضاً " ول " بمعنى " ولد. ثم قال الشاعر " بنطيك " بمعى: سأعطيك وهذا ملمح آخر أصيل من ملامح لهجة البقارة. وهذا يسمى الاستنطاء ، وقد كان موجوداً في بعض لهجات العرب منذ الجاهلية وبه قرئ قوله تعالى: " إنا أنطيناك الكوثر " في قراءة شاذة. وما يزال الاستنطاء موجوداً ودارجاً على الألسن في اللهجة العراقية المعاصرة إلى يوم الناس هذا.
وأما قول الشاعر " مِي ماشه " بكسر الميم التي تليها ياء ، هو لغة في " ما " ، ولكنها ليست " ما " النافية ، ولكنها " ما " يستخدمها السودانيون في عاميتهم الدارجة ، في معرض التساؤل التبكيتي والاستنكاري. وهي تأتي بمعى " أليسَ ؟ " وأحياناً بمعنى " ألَمْ ؟ " ، ومن ذلك المقولة الشهيرة التي تُنسب إلى الشيخ " بدوي ود أبو صفية " التي صارت مثلاً: " نحن قبيل شن قلنا ، ما قلنا الطير بياكلنا ؟ " .. يعني: " ألمْ نقل إن الطير سوف يأكلنا ؟ " والمقصود هو الطير الكاسر من الجوارح بالطبع.
وهذا الاستخدام لما أسميناها ب " ما " الاستنكارية التبكيتية هذه ، فصيح في نظرنا ، وعليه شواهد من الذكر الحكيم نفسه ، وهو قوله تعالى مثلاً على لسان أحد الأسباط أخوة يوسف عليه السلام يلوم أخوته: " ومن قبل ما فرطتم في يوسف " الآية ، فكأن معناها والله أعلم بمراده: " ومن قبل ألم تفرطوا في يوسف ؟ " ، فالسياق يفيد ذلك تماما.
ولكن الشاعر قال " مِيْ " بالكسر ولم يقل " ما " بالفتح. وهنا نقول إنه لما كان يتحدث عن الدنيا وهي مؤنثة ، ناسبَ أن يقول معها " مِي " بالكسر لأنَّ الكسر يناسب التأنيث كما يقول أهل اللغة ومفسرو القرءان أيضا ، وذلك في معرض توضيحهم لعلة الكسر في قوله تعالى – على سبيل المثال – يحكي عن حال مريم العذراء وهي امرأة: " كذلكِ قال ربُّكِ هو عليَّ هيِّن ولنجعله آيةً للناس ورحمةً منَّا وكان أمراً مقضيَّا " بكسر الكاف الأخيرة من " كذلك " سورة مريم .. الآية 21 ، بينما تركها مفتوحة عندما كان الحديث عن زكريا عليه السلام وهو رجل: " كذلكَ قال ربك هو عليَّ هيَّن وقد خلقتُك من قبلُ ولم تكُ شيئا ".. سورة مريم ، الآية رقم 9.
ذلك ، وتحتفي العامية السودانية بذات الفوارق الإعرابية والصرفية بحسب حالتي التأنيث والتذكير في مثل هذا الشاهد وبصورة عفوية في كلام الناس العادي ، وخصوصاً في بواديهم وأريافهم. ذلك بأنك تسمعهم يقولون مثلاً: : " الأولاد أو الجنيات ديل موهن جايين ؟ وقد يقال مون بحذف الهاء " مرفوعةً ، بينما يقولون " البنوت ديل مِيهن ماشيات وقد يقال مين بحذف الهاء أيضا ؟ " الخ بالخفض ، فهذا من ذلك.
ومن العبارات الطريفة في هذه الأغنية أيضاً ، قول الشاعر على سبيل المثال: " الزول سلب روحي .. هلوستَ في نومي " ، فتأمل هذا الهلوسة الحلوة التي دخلت في نص غنائي لآول مرة وآخر مرة في التاريخ كما نعتقد ، وهذا هو السهل الممتنع ، بل السحر الحلال نفسه.
لاخمة الفريق عاشه
نُوارة الحوَّاشه
القامة مبرومة
تقدلْ تقول باشا
* * *
دي كلمة جات طاشه
ما يوت بنتحاشى
كيفِنْ تصريِّها
دي الدنيا مِي ماشهْ
والشاهد هو قوله " ما يوت بنتحاشَى " ، وهو تعبير شعبي ريفي ، بل كردفاني قُحْ على وجه التحديد. فيوت معناها " دائماً " ، وقد كرَّسها الشيخ البرعي وخلَّدها من خلال قصيدته الإرشادية ذائعة الصيت " أذكر إلهك يوت .. بوريك طِبَّكْ " ، التي انبرى لها الدكتور إدريس البنا فترجم نصها إلى اللغة الإنجليزية ، فتأمّل.
أما " بنتحاشى " على وزن " نتداوى " و " نتغابى " ، فهي من " المحاشاة " وهو " المزاح " أو ما يُعرف في لهجات أخرى ب " الهظار ". والفعل " حاشَى يحاشِي " ، بمعنى: مزح يمزح ، هو من الكلم الكردفاني الذي بدأت سوقه تنفق ، وشمسه تأفل مع الأسف.
والأصل في " المحاشاة " – كما نرى – أنها من الحاشية أي طرف الشيء وليس وسطه أو لبه. فكأنَّ من يحاشيك ، يصيبك في الحواشي فقط ، ولا يبلغ منك مبلغاً يؤذيك معه أذية بالغة في اللباب ، والله أعلم .. أم ماذا هو رأيكما ، دام فضلكما ، يا بروفيسور عمر شاع الدين ، ويا أستاذ عبد المنعم عجب الفيَّا ؟؟.


khaldoon90@hotmail.com

 

آراء