الذكرى المئوية الثانية لمجزرة نهر النيل (حملة الدفتردار)

 


 

 

نحن الآن نودع عام ٢٠٢٣ و هو بلا شك أسوأ عام مر علي هذا الجيل و سيكون في الذكريات السودانيين لعقود و قرون. و نأمل أن تتعظ الأجيال القادمة من هذه الحرب و خطر الأجنبي و الغريب عندما يدخل دارنا. الرقم ٢٣ رقم ليس غريباً علينا و قد كان رمز للمجازر و التهجير و الغزوات في أرض الوطن و لكن إعلامنا و الكتاب في وطننا لا يتعمقون كثيراً في حقبة ما قبل المهدية بالرغم من أنها أهم حقبة وكان يمكن نتعظ منها. ففي عام ١٨٢٣ اي قبل مائتين عاماً بالظبط حدثت أحداث مشابهة للأحداث اليوم في السودان. نفس المجازر و الانتهاكات و التهجير و التدمير و السلب و النهب. و كانت ممتلكاتنا و ذهبنا المنهوب يخرج عبر الحدود شمالاً الي مصر المحتلة و من ثم الي ألبانيا و اليونان. و هذه المرة بقيادة اجنبية و بالتعاون و مساندة من بعض ابناء جلدتنا الذين بايعوا المحتل. سميت هذه الحقبة بحملة الدفتردار الانتقامية. و كانت بأوامر من حاكم مصر العثماني الألباني محمد علي باشا. و أنا شخصياً كنتاج من هذا التهجير و التطهير حيث هجر أجدادي من جهة والدي أرضهم في ريف المتمة و اضطروا ان يستوطنوا في أمدرمان. فقررت أن ابحث عن حقائق تلك الحقبة فوجدتها في الأرشيفات البريطانية. جيش محمد علي باشا الألباني الذي قام بغزو أراضينا كان يتكون من موظفين و ضباط و أطباء أوروبيين و قاموا بتوثيق كل احداث السودان و نقلوها لبلدانهم وقام المؤرخين الأوربيين بتسجيل هذه الأحداث و حفظوها في ارشيفهم. اليوم انقل لكم ما كتبه المؤرخ الأمريكي ارثر روبنسون قبل مئة عام تقريباً في توثيقه لأحداث السودان إبان الغزو العثماني الألباني في عشرينات القرن التاسعة عشر و ها هو التاريخ يعيد نفسه بنفس الطريقة.

ابدء لكم بما ترجمته من بعض صفحات المؤرخ ارثر روبنسون الذي كتبه عام 1924م.
"طلب إسماعيل باشا من الجعليين بالدفع الفوري لجزية من المال والماشية والخيول والجمال أي ما يعادل قيمة ٢٠ ألف جنيه إسترليني آنذاك ( بقيمة اليوم تعادل حوالي ٢ مليون ونصف الف إسترليني أو ٣ مليون دولار أمريكي). أبلغ المك نمر إسماعيل باشا بعبارات طائشة للغاية أن طلباته كانت سخيفة و انه من غير المقدور على الوفاء بطلبه. غضب الباشا و اعتبرها وقاحة من زنجي أسود فقام إسماعيل باشا بصفع المك نمر عبر وجهه بأنبوبه "الكدوس" التركي الخشبي الطويل. حاول المك أن يستلي سيفه لكن المك مساعد كبحه و أجبره على الإعتذار و الإنسحاب. بعد ذلك تم ترتيب مأدبة للباشا وموظفيه و حفل بالدلوكة و الرقص الشعبي. كان المنزل محاطا بالأخشاب الخفيفة من القش التي تم اشعالها عندما كانت الوليمة قيد التقدم. جميع الأتراك الذين حاولوا الهروب أثناء الحريق تم قتلهم. الطبيب بوزاري (طبيب إسماعيل باشا) الذي كان مكروهاً بين السكان الأصليين أخذ على قيد الحياة و تم تعذيبه بمخزوق وهو على قيد الحياة وبعدها أحرق جسده. و تبين فيما بعد أن خنزدنار (أمين المال) إسماعيل باشا قد سمع الخطط التي نوقشت وسعى إلى إقناع سيده بالهروب عن طريق حارسه الشخصي. رفض إسماعيل باشا تصديق أن "السكان الأصليين" سيتجرأون على القيام بمثل هذا العمل على إبن والي مصر و رفض اقتراح الهروب بازدراء.
تم انتشال جثة إسماعيل باشا وإرسالها إلى القاهرة من قبل بعض التجار الذين كانوا في شندي آنذاك. اما خبر الكارثة فقد تم نقله الي الوالي (محمد علي باشا) من أتباع نصر الدين ، الذي وصل إلى القاهرة في الخامس من ديسمبر و معه رسالة من ماهو بك. لبعض الوقت لم يتجرأ أحد على الاقتراب من الوالي (محمد علي باشا) الذي ندم لعدم الاهتمام بطلب إبنه بالعودة إلى مصر.تم تجاوز هذا الغضب فقط من خلال رغبته في الانتقام. كان إسماعيل باشا أخر ابنيه من قبل زوجته فقد توفي قبله طوسوم باشا. أجبر محمد علي باشا على إعلان إبن زوجته إبراهيم وريثه في الحكم. تم إرسال التعليمات من القاهرة إلى الدفتردار لتنفيذ حملة انتقام يضرب بها المثل على جميع المعنيين في مقتل إسماعيل باشا. كانت هذه المهمة هي التي تناسب وحشية الدفتردار و الذي أعطي عهد لنفسه بإرسال 20،000 من رقاب الجعليين إلى القاهرة. تم إرسال حوالي 400 رجل من القاهرة لتعزيز جيش الدفتردار الذي كان تحت امرته في السودان و حوالي 3،020 من المشاة و ٢٨١٠ من سلاح الفرسان و ١١ مدفع. كتدبير احترازي تم إبعاد جميع العبيد السود في مدينة أسوان (جنوب مصر) إلى مدن الدلتا (شمال مصر). في البداية كان مواطني السودان مروعين من قبل المأساة لكن سرعان ما أدركوا أن التدابير العقابية ستقع على الأبرياء والمذنبين دون تمييز كبير اندلعت ثورة عامة و لو كان السودانيين متحدين تحت قائد واحد لا تم إبادة كل الأتراك. تعرضت النقاط المعزولة للقوات التركية للهجوم و ارتبكت المذابح بهم. لكن الدفتردار غادر الأبيض في نهاية يناير 1823م و سار بكل السرعة إلى كبوشية. جزء من قواته تم فصلها و باشرت إلى ود مدني حيث انضمت إلى القوات التي كانت تحت قيادة ديفان أفندي محمد آغا التي قامت بإرسال رسلاً شمالًا للتأكد إذا كانت الشائعات عن المأساة صحيحة. وبعد تأكدهم الراسخ قاموا بالتخندق. هرب أرباب ود دفع الله من ود مدني إلى عبود وانضم إلى الهمج تحت حسن رجب. تعرضوا للهجوم وهزموا في القتال و قتل حسن رجب خلال المعركة من محمد سعيد آغا في أبو شوكا. و هرب دفع الله إلى المتمة (القلابات) حيث كانت هناك مستعمرة للدارفوريين.
بدأت القوات في سنار بالزحف نحو ود مدني. والتي شملت 400 من سلاح خيول تركي تحت قيادة ساري شيسمسي و زاكي آغا وأربعين من رجال حراسته و 400 سلاح الفرسان التركي تحت حاجي أحمد و 400 سلاح الفرسان تحت قيادة عثمان آغا و 200 مدفعي تركي مع بنادق و 250 من الرماحين العرب تحت شيخ كيشار و ١٠٠ من قبيلة الشايقية تحت مك شاويش. و كان هناك 300 من سلاح الفرسان المغاربة تحت قيادة الشيخ لاكما و ١٥٠ من رماة الحدق تحت الشيخ حاجي عبدو و 80 مشاة من قبيلة الشايقية تحت ملك ود الزبير من السوراب بالإضافة إلى حوالي 300 حصان تركي في ود مدني. في بربر كان ماهو بك تحت تصرفه حوالي ١٠٠٠ سلاح فرسان العبابدة أو ما يسموا برجال الإبل و 200 من سلاح الفرسان المغاربة و 200 من سلاح الفرسان التركي و حامية في حلفاية الملوك التي انضمت إليه وأجلت من المدينة. عندما وصل الدفتردار الى المتمة قابله المك مساعد و معظم كبار القبيلة و نفوا أي تورط أو تواطؤ في مذبحة شندي. تم عفو عام لأرواح السكان و لكن في المقابل تم فرض غرامة مالية ثقيلة. تم إعداد وليمة كبيرة للضباط الأتراك و إما أثناء إعداد الوليمة أو عندما كان الضباط يدخلون المبنى للجلوس أطلق مواطن رمحاً على الدفتردار و أصابه. رد حارس الدفتردار الشخصي بفتح النار وقتل أو جرح كل من كان حوله . ثم بعد ذلك انتقلوا إلى المدينة (المتمة) و هناك حيث كانت جميع القوات التركية وقعت المذبحة الكبرى و أشعلت النيران في المدينة بعد سلبها. الأبرياء الذين لجأوا إلى خلوة الفكي احمد (المدرسة الدينية) أحرقوا حتى الموت. و تعرضت الدامر للهجوم من قبل قوة تركية و لكن جميع السكان كانوا قد أخلوا المدينة. تم إشعال النار على جميع المباني من ضمنهم مسجد تم بناؤه من قبل الشيخ مجذوب و لكن جدرانه لم تتأثر و كان قد تم إعادة بنائه بعد بضع سنوات. فر شيوخ المجذوبية إلى سواكن و بعضهم انتقل إلى مكة المكرمة. و بعد فترة عادوا بعد ان تم منح العفو العام لقبيلة الجعليين. سار الدفتردار إلى شندي واستدعى المك نمر للاستسلام ، لكن قابله المك بالرفض و التحدي.
تم بناء جدران من الطين حول المدينة وكان السكان قد قاموا بكل التجهيزات التي يمكنهم فعلها للدفاع عن المدينة. قام الأتراك بقصف المدينة و بعد أن انهارت جدران الطين اشتعلت النيران في أسطح المنازل. حدث حريق عام و تم قتل و اسر معظم الناس و هم يهربون من لهيب النيران. و تحت غلاف الظلام هرب المك نمر وعائلته من المكان و وصلوا إلى أبو دليج. قام سلاح الفرسان التركي بتمشيط في المنطقة و قاموا بأخذ الرجال والنساء والأطفال إلى المخيم التركي. تم إرسال النساء الذين تم أسرهم إلى مصر كسبايا مع الأولاد (بعد عملية اخصائهم). أعداد الأسري والأوضاع السيئة التي كانوا بها قابلت استهجان عام و لفتت انتباه القنصليات الأوروبية. ارتكبت عدد من جرائم القتل من قبل النساء العرب و الأولاد الذين وضعوا في الحرم في مصر وعلى ضوئها تم إعادة معظم النساء إلى "بلدهم" وأرسلت أوامر إلى السودان بأن لا يستعبدوا العرب. الرجل الذي حاول قتل الدفتردار تم القبض عليه على قيد الحياة وحُكم عليه بالتعذيب بالخازوق حتى الموت. ولكن تم تغيير العقوبة لاحقاً وتم تقطيعه إلى قطع صغيرة بسيوف الخبراء حتى الموت.
كنصب تذكاري لابنه إسماعيل باشا تم تحويل القصر الذي عاش فيه في القاهرة إلى معهد دراسة و قام الوالي (محمد علي) بتأسيس عدد من المنح الدراسية للتعليم المصريون الشباب في أوروبا من عائدات ممتلكاته. عين الدفتردار بشير ود عاقد شيخاً ببلاد دار الجعليين بديلاً للمك مساعد و المك نمر. وكانت هناك كمية من الذهب مخبأة تحت أرضية منزل المك نمر والتي لم تتاثر بالنيران أو القصف. و قامت زوجة بشير السيدة برة بنت نمر بأخذ الغرفة التي كان الذهب مخبيء تحت ارضيتها. أعيد إحتلال حلفايا الملوك من قبل الأتراك بعد ان قاموا بقصف الهاربين في جزيرة توتى . بعدها قاموا بالزحف إلى العيلفون حيث تم ذبح اغلبية سكانها. (هنا الكاتب لا يذكر كثير عن مجزرة العيلفون أو مع من كانت المعركة)
انتقل الدفتردار إلى ود مدني و من هناك إلى سنار. ولكن عاد إلى كردفان حيث كانت التقارير من هناك إلى حد ما مثيرة للقلق. أمين واد عجيب الذي خلف والده ليكون مك قبيلة العبدلاب غادر كيترانج حيث هرب وسار إلى أمدرمان مع قوة من العرب. تعرض للهجوم و هزم على يد آغا إلبوسيلي الذي قاد قوة من الأتراك والمغاربة و الشايقية. هرب الناجون إلى بلدة أم ديليغ وانضموا إلى المك نمر. هاجمت قوة تحت قيادة حسن آغا الجوكادار قبيلة الشكرية و اسرت الشيخ عمارة. زحفت قوتهم الي النيل الأبيض ثم عادوا إلى ود مدني حيث توفي الشيخ عمارة في السجن بعد ذلك بوقت قصير. قام محمد أفندي سعيد بمهاجمة قبائل الهمج و عرب النيل الازرق في بلدة الهلالية وتفريقهم من بعض. في المقابل قام المك نمر بتجميع قوة كبيرة في أبو ديليغ. وتم إخطار الدفتردار الذي على ضوئها تقدم نحو النيل الأزرق من الأبيض. تم خوض معركة دموية في نيسوب و هزم العرب بخسائر كبيرة. و تلت هذه المعركة أبشع الفظائع من قبل الأتراك. جميع الذكور الذين تم القبض عليهم تم اخصائهم و تم قطع الثديين لجميع النساء. أما الجرحى فتم دفنهم جزئيًا في الأرض و جروحهم مغطاة بمادة مغلية للوقاية لمنعهم من الموت. تم تشويه الآلاف بهذه الطريقة حيث أنهم لا يستطيعون الولادة. أما الناجين من معركة نيسوب هربوا إلى الدندر وفقط الذين كانوا يملكون الخيول استطاعوا الهرب من الأتراك. قام سلاح الفرسان التركي بملاحقة الجعليين الي الدندر حيث في بلدة مقدور(التي تقع بين نهر الرهد و الدندر) وجدوا المك مساعد و امين ود عاقب. قُتل المك مساعد أما أمين ود عاقب فقد استطاع الهروب إلى أرض الحبشة حيث حصل على الحماية لبعض الوقت. هرب المك نمر إلى صوفي (على نهر ستيت) و هناك قام زعيم التيغري رأس أوبي بتعينه كحاكم على المناطق الحدودية. و قام نجل المك النمر الأكبر محمد بالزواج من ابنة رأس أوبي (زعيم التغراي). سار الدفتردار إلى التاكا كسلا وهاجم قبائل الهالينغا التي كانت تحت وصاية الفنج عواد و زعيم قبيلتهم ابو العلا و السبدرات. قام الأتراك بالقضاء عليهم. رحل محمد افندي سعيد إلي القاهرة وأصبح حاكماً في الحجاز. وخلف مكانه في ود مدني الحاجي أحمد الكولالي. أنشاء الدفتردار مقر قيادته في أمدرمان و صادر جميع الأراضي و الممتلكات لأي شخص يشتبه به انه قد تعاون مع التمرد منذ احتلال إسماعيل باشا لدولة سنار. قام الدفتردار بتسليم جيشه والسلطة في السودان إلى عثمان بك في بداية شهر أكتوبر تقريبًا وعاد إلى مصر مع الشيخ سيد أحمد السلاوي و المرتزقة الألبان والأرناؤوط واستأنف مهامه كحاكم الصعيد في أسيوط. و تم إرسال القوات الألبانية إلى جزيرة كريت في اليونان أما البقية فقد تم استخدامهم لحماية القلعة. في أكتوبر عام 2024 تم اكتمال حملة احتلال السودان."
وهنا اختتم المقتطفات من مقال المؤرخ ارثر روبنسون الذي كتبه عن بعض احداث 1823م في عام ١٩٢٤م.

نزح أجدادي من المتمة الي امدرمان ولا اعرف كيف ماتوا و من مات و لكن المقالات و التقارير و الوثائق التاريخية اعطتني خلفية عن حجم المأساه التي مروا بها . لا أحد من اقاربي او اسرتي الممتدة كان يعرف ظروف هجرة أجدادنا إلى أم درمان قبل المهدية. فعرفت هذه المعلومة من احد أعمامي عندما قال بأنه عرف من جدي عبيد قب النور رحمة الله عليه انه تم تهجير اهل والدته من نهر النيل إبان مجازر الدفتردار. و أنهم لجأوا لقبائل الجموعية في امدرمان التي اوتهم بحكم جذورهم و صلة دمهم التاريخية مع قبائل الجعليين. و اليوم هاجر جزء اهلي الي اقاربهم و جذورهم في نهر النيل نتيجة المعارك الدموية في امدرمان و إحتلال بيوتهم من قبل المرتزقة الغرباء. و ها هو اليوم التاريخ يعيد نفسه بعد مائتين عام و لكن بهجرة عكسية.
في الختام حملة العثمانيين على السودان كانت اغلبيتها في نهب وسلب و ارهاب المواطن السوداني . حاولت عدة قبائل سودانية مقاومتهم و لكن تفوق السلاح الناري و جاهزية و خبرة تلك القوات العثمانية في الحروب تفوق خبرة قبائلنا المحلية واسلحتهم البيضاء. أما اليوم فالجنجويد و مرتزقته الأجانب لا يملكون تدريب او سلاح يفوق سلاح الجيش و لكن حدث نفس الانتهاكات و التهجير و السلب و النهب و نتسأل لماذا التاريخ يعيد نفسه. نسأل الله أن يصبر شعبنا في محنته و ان تنتهي هذه الحرب اللعينة و ان نعود الى ديارنا و رحمة الله علي كل شهدائنا و من فقدناهم.

احمد الحسن عبيد
ديسمبر 2023

amobeidx@googlemail.com

 

آراء