الذكرى 67 للاستقلال – الثورة وفروض التغيير (9): (القانون الأساسي) وصِناعة الدَّسْتُور

 


 

 

"إيّاكُم والتلاعب ب (الدَسْتُور) والذي ينبغي صَوْنُه لإنّه الحامي الوحيد لحُرِّياتنا!"
أبراهام لنكلون (**)
رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ( 1861-1865م)


26 مارس 2023م

مُقَدمة
هذه الحلقة التاسعة من حلقات مقالنا: "في الذكرى 67 للاستقلال - الثورة وفروض التغيير" ينبغي أن تكون في صدارة هذه الحلقات لأنها معنية بترس الحماية الوحيد، للثورة والوطن، الذي لا يمكن تخطيه؛ وذلك هو (القانون الأساسي) للدولة. في البدء نود أن نُثبِّت بصورة واضحة إنه الإرث البشري، في العلوم الإنسانية والتطبيقية وفي التجربة السياسية وحتى المعتقدات الرُّوحية، ملكٌ مشاع لكل بني البشر، أينما كانوا، دون حواجز. فالذين يدينون بالأديان الكتابية وغير الكتابية في العالم، لا يخطر ببال أحدهم ما إذا كان نبي ديانتهم من بني جلدتهم وعِرقُهم أم هو شخصٌ آخر من بلدٍ آخر وثقافة أخرى تختلف عنهم، اختلافاًجوهريا، في بعض الأحيان. ولذلك من الحِكمة، للباحث عنها، أن ينظر بمنظار أوسع من محيطه المحلي وأن يتأمل التجارب الإنسانية ذات الصلة، أينما كانت، ليحللها ويستقي منها الدروس؛ فلا حاجة لأحد أن يُجهد نفسه في إعادة اختراع العجلة. عُرف أبراهام لنكلون في التاريخ على إنه "محرر الرقيق" السُود في بلده أمريكا. وقد كان الرجل معنياً، في الأساس، بالأمر الوطني في بلده، الولايات المتحدة، وهو المحافظة على الوحدة الوطنية وعودة الولايات الجنوبية التي تمردت على الاتحاد الأمريكي. وهناك فيلم سينمائي باسم "لنكلون"، جدير بالمشاهدة، من إخراج ستيفن اسبيلبيرغ في عام 2012م؛ فاز بجوائز أوسكار عالمية. يركز الفلم على دور الرئيس لنكلون في خلال الأشهر القليلة التي سبقت إغتياله، في أبريل من عام 1865م، في إدراج التعديل الثالث عشر في الدستور الأمريكي لمنع العبودية. هذا تاريخ سابق بقرابة المائة عام لمحاولة سلطات الحكم الاستعماري الإنجليزي في السودان إلغاء الرق قانونياً ليعترض على ذلك القرار زعماء طائفيون كبار. باختصار، ودون الدخول في تفاصيل شخصية الرجل وما أُخذ عليه من النقاد نقول إنه يحق لنا، فيما نرى، أن ننظر في التجربة البشرية على إطلاقها ونقتطف منها ما يفيد، دون حرج ودون أحكام لا تراعي المرحلة الزمانية والإطار التاريخي للحدث المعني. لا فرق إن كان المُقْتَطف من أبراهام لنكلون الأمريكي أو أو نيلسون مانديلا، أو جوليوس نيريري، أو توماس سينكارا من أفريقيا، أو المهاتما غاندي أو لي_كُوان_يُو من آسيا، أو غيرهم ممن تركوا بصماتٍ موجبة في التاريخ البشري الحديث. هذه التوطئة المختصرة لتأكيد أهمية الحياد في التّعَلُم من تُراثنا البشري في تناول الشأن العام. فتراثنا، في عُرفنا، هو الإرث البشري العريض كُلّه؛ وهكذا ينبغي أن يتعلّم قادتنا السياسيون والمشتغلون بالشأن العام من التجربة الإنسانية العريضة وأن يخرجوا من إطار المحلية الضيق الذي يعمى البصر والبصيرة معاً ويُحجّم أداءهم في كُلّ ما يوكل إليهم من مهام .

الدَّستُور هو "القانون الأساسي"
تقول المصادر المبذولة في الإسفير إنّ كلمة (دستور) ليست عربية الأصل ولم تُذكر في القواميس العربية القديمة؛ ويُرجِّح البعض أنها كلمة فارسية الأصل دخلت اللغة العربية عن طريق اللغة التركية، ويقصد بها التأسيس أو التكوين أو النظام أو (القانون الأساسي) الذي تتفرع منه بقية القوانين وتتلوه مرتبة ولا تعلو عليه. فما هو (القانون الأساسي) المتفق عليه للدولة السودانية وهي تقترب الآن من إكمال عقدها السابع بعد الاستقلال؟ الإجابة باختصار: "لايُوجد". إذن من يحمي المواطن في بيته وأرضه وعرضه وحُرياته؟ الإجابة باختصار: "لا أحد". فالميوعة الأمنية التي نراها الآن في الريف والحضر والفساد المستشري دون رقيب أو حسيب والقضاة الذين يقطعون الأحكام من رؤوسهم دون وازع سببها، في جانب، غياب (القانون الأساسي) وغياب ثقافة احترامه كخط أحمر ويلٌ لمن يتخطاه. فلابد من وجود حدٍ فاصل بين العيش المتحضر، في ظل (قانون أساسي) دائم وشرعة الغاب التي بدأت معالمها في التزايد يوماً بعد يوم. لقد أصبح الشعب السوداني كله تحت رحمة من يحملون الأسلحة، سواءاً كانوا يحملونها بمسوق قانوني أو على طريقة "بُوكو حَرام"! هؤلاء يخرقون الدستور، حتى في غيابه؛ لكون الحقوق الأساسية (حقوق الإنسان في الحياة والحُرّية والأمن والعيش الكريم) هي أعلى مراتب الحقوق ولا تحتاج أن تُكتَب.

رحلة البحث عن "دَستور" دائم للبلاد
بِصرف النظر عن ما حدث في حقبة الخمسينات والستينات من القرن الماضي وانشغال المنظومة السياسية الحاكمة بالدستور الإسلامي؛ وما تلى تلك الفترة من محاولات، هنا وهناك، في ظل أنظمة عسكرية، في الأساس، ظلت البلاد بلا دستور دائم متفق عليه حتى مطلع القرن الواحد والعشرين. هذا وقد قضى الدكتور منصور خالد (وهو المثقف الفَقِه والقانوني الضليع) وآخرين قرابة العام في منتجع نيفاشا الكيني في عام 2004م وهم يكتبون، بمعونة خُبراء عالميون في القانون الدستوري دستوراً للسودان كان ينبغي أن يكون كفيلاً بحكم البلاد كلها – السودان العريض شماله وجنوبه. كان ذلك من خلال أعمال ما عرف باتفاقية السلام الدائم (CPA) التي تم الدخول فيها في 9 يناير 2005م بين حكومة الإنقاذ وقتها والحركة الشعبية الأم على أيام قائدها الراحل جون قرنق. فأين ذهب كل هذا الجهد الجهيد وماذا بقي من؟ كانت محصلة تلك المحاولة دستوراً ينادي بتحكيم الشريعة في الشمال ويستثني الولايات الجنوبية. فلا عجب، إذن، أن احتجنا إلى أن نكتب ،مجدداً، في عام 2019م، دستوراً مؤقتا ما عُرف ب (الوثيقة الدستورية) لحكم الفترة الانتقالية. وقبل أن تحتفل بعامها الأول تمّ الدوس عليها باتفاق جوبا والذي جاءت فقراته وهي تعلو على نصوص (الوثيقة الدستورية) في سابقة تشهد على عدم إدراك مشرعي تلك الإتفاقية وخبرائهم القانونيين ومن قاموا عليها من التنفيذيين لمعنى كلمة "قانون أساسي". ثم قام السيد قائد الجيش البُرهان ومناصريه من الإنقلابيين ليتموا الناقصة، كما يقولون، بتمزيق ما بقي من تلك الوثيقة بانقلابهم عليها في 25 أكتوبر 2021م. كيف بقي ها العجز فينا كل هذه العقود الزمنية طوال 67 عاما من عمر الدولة المستقلة؟ سؤالٌ يبحث عن إجابة شافية، تكشف بجلاء عمق الأزمة وتستقي منها الدروس الهامة التي يجب تأملها وتَعَلُّمها قبل الخوض في أمر الدّستور الدائم وكيفية صناعته مرة أخرى.

صناعة الدستور
الدّستور الدائم عملٌ وطني هام لا ينبغي أن يُترك لجهة أجنبية (بما في ذلك الأمم المتحدة) للتدخل فيه، إطلاقاً، وبأي حال من الأحوال. فالأريع سنوات التي ضاعت من عمر الثورة كان يمكن أن تُستثمر في صناعة دستور دائم للبلاد، على هدي ثوابت الثورة في الحُريّة والسلام والعدالة وحقوق الإنسان. نعم مهام الفترة الانتقالية عظيمة، خاصةً بالنظر إلى الأزمات الأمنية والإقتصادية التي تطبق على البلاد وعلى الناس وتهدد معاشهم وحياتهم، ولكن هناك أوليات لا ينبغي المجاملة فيها، إطلاقا، مهما كانت الأسباب. فمن دخل بيتاً مهجوراً في غابة ليحتمي به من ضواري تلك الغابة، فأول ما يفعله هو تأمين ذلك البيت وإصلاح ما به من أعطال والتأكد من وجود سُور متين وحامي حوله قبل أن ينام. فإن لم يفعل ذلك أضحى هو ومن معه لقمة سائغة لكل مفترس ضبعاً كان أم أسد. فحامي الشعوب هو (القانون الأساسي) وليس السلاح. وفي تحذير رجل بقامة أبراهام لنكلون، والذي يُمسك بترسانة السلاح الأمريكي كُله تحت إمرته كرئيس منتخب، من التلاعب ب(القانون الأساسي) حِكمْة، سعيدٌ هو من يعي درسها وقيمتها. فالذين يجاهدون الآن في تسويق حلول مستعجلة ومؤقتة للأزمة السودانية هم في واقع الأمر هاربون من سطوة (القانون الأساسي) الحامي الوحيد للجميع؛ والذي لا يمكن الإفلات منه وإن طال الزمن. وختاماُ فالدعوة مقدمة للمختصين وكُتّاب الرأي وكُلِّ حاملي رسالة القلم أن يرفدوا الساحة بآرائهم في هذا الأمر الهام قبل ضياع المزيد من الوقت.



ballah.el.bakry@gmail.com
- نواصل _

(*) مهندس (CEng FICE) وكاتب في الشأن السوداني
(**) أبراهام لنكلون (Abraham Lincoln) الرئيس الأمريكي السادس عشر بعد الإستقلال(1861- 1865م) والترجمة لمقولته الشهيرة ترجمة غير حرفية يمكن الرجوع للأصل باللغة الإنجليزية في الإسفير: (“Don't interfere with anything in the Constitution; that must be maintained, for it is the only safeguard of our liberties.”)

 

آراء