الذهنية ذات البعد الواحد

 


 

عمر العمر
23 October, 2022

 

لأننا لا نحذق مهارة تأمل الماضي أو فن قراءة الحاضر نفتقد القدرة على صوغ المستقبل. ذلك العجز المزمن يجعل مستقبلنا مجهولا مبهما دوما . فهو ليس من صناعتنا حتى إذا كان لدينا تصور ّ متكامل بشأن ذلك المستقبل فنحن عاجزون دوما على اختيار الطريق الآمن الملائم بغية إنجازه بل غالبا ما يتم دفعنا دفعًا على طريق ما هو ليس آمنًا كما هو ليس مفضيًا إلى ذلك المستقبل. لهذا نصاب بالارتباك والدوار في مرحلة مبكرة من اندفاعنا أو دفعنا على ذلك الدرب .مما يزيد أزماتنا تعقيدًا أننا كلنا ندعي المعرفة المطلقة ،فإذا ما تفتقت ذهنية طرف عن فكرة أو مشروع خارج سقف معرفة فريق فمصير تلك الفكرة أو المشروع الإنكار ومصير صاحبهما الرجم بالتجهيل أو التخوين أو الاثنين معاً. ذلك الموقف العدائي لا يخلو البتة من الكيد السياسي .
******

ثمة مشروع سياسي متكامل مختزل برؤية فكرية ثاقبة عشية الثورة .ذلك المشروع المؤطر داخل أضلاع مثلث (حرية، عدالة وسلام) إلا أن ذلك الإرباك الفكري المشحون بالكيد السياسي دفعنا على درب وعر لا نزال نتوغل فيه. فالتباهي المزعوم بالمعرفة المطلقة يغلق نوافذ الاصغاء للآخرين ومن ثم بدلًا عن فتح قنوات الحوار نتبادل الرجم بالشعارات الجوفاء الجاهزة .تحت هذا الغبار المشبع هو الآخر بالكيد السياسي تضيع المسألة الوطنية الجوهرية.فعندما تضيق عدسة الرؤية الواعية تنحسر بالضرورة مساحة القدرة الواثقة على الحركة .لسوء الطالع افتقدنا العقل المنفتح الموجه. كذلك غاب عنا القائد صاحب الكاريزما. فلم يعد بيننا من هو مؤهل لدور البطولة إذ جميع أبطالنا صاروا شهداء.
******

المنطق يفقد تماسكه ليبرر كيف فقدت القوى السياسية وحدتها فجر الثورة. تلك الوحدة هي وحدها سلاح تلك القوى في الإجهاز الحاسم على ترسانة نظام الإنقاذ المدجج بأشكال متباينة من الأسلحة! كما يفقد العقل رجاحته ليمنطق إقدام ثلة جنرالات على إنقلاب مضاد ضحى الثورة وهم محسوبون على معسكرها.لئن بدا (الصبر السوداني) كافيا لتحمل الشعب أثقال الأزمات المتراكبة الضاغطة على عظام حياتيه اليومية فالصبر أعجز ازاء احتمال غياب الدولة طوال السنة. فأشد من معاناة الشعب بؤساً بقاء الإنقلابيين عالقين على قمة الدولة طوال العام في غياب سلطة تنفيذية حقيقية . مع ذلك ماذا تبقى حتى يتبرأ الإنقلابيون من إعادة دولاب النظام الفاسد الضال المغضوب عليه .
******

هذا الوضع الدرامي البائس يبلغ سفحه الأدنى بوقوف الجميع على رصيف الفرجة بانتظار معجزة لعل الأزمات المتراكبة تحل نفسها بنفسها. المسرح السياسي يضج بحركة لكنها أشبه بجلبة أقرب إلى الفوضى. وحده ذلك (الصبر السوداني) يحتمل هذا العرض المثير للضجر والإحباط . وحدها العقلية ذات البعد الواحد تكابد للإقتناع بمنطق هذه الفوضى. وحده الكيد السياسي يحاول تبرير هذا القعود الحائر وسط كل هذا التشتت المترهل وسط ما يسمى بالقوى السياسية. في ظل هذا العجز المزدوج من قبل سلطة الإنقلاب والقوى السياسية تفقد الدولة ثقلها الإقليمي . هذا وضع يغري القوى الخارجية بالسعي لتحقيق ما لديها من أطماع. هذا الإغراء يتعاظم حينما تصبح السلطة غير قادرة على وضع أي أجندة على أي مستوى بل تترقب أي رياح تدفعها هي ذاتها خارج مأزقها المستحكم الخاص.
******

ما لم نكسر هذه العقلية الأحادية المشحونة بالنرجسية الزائفة والكيد السياسي لن تخرج من تحت ظل أزماتنا المتراكمة . كسر العقلية ذات البعد الواحد يقتضي فتح نوافذ الحوار بصدور رحبة .فذلك هو السبيل لكتابة كل الإجابات على الأسئلة العالقة الشائكة. من اكثر تلك الأسئلة إلحاحا إنقلاب قوات الجيش، الشرطة والأمن ليس على الثورة فقط بل كذلك على مؤسسيتها وتقاليدها الرصينة الموروثة إلى ممارسة جرائم العنف المنهج ضد الشعب؟ما الذي يجعل المفاوِضين غير المفوَضين يتباهون بما كتبوا ووقعوا فجر الثورة على ما أسموه (الإعلان السياسي)رغم أنه فتح علينا جحيم (الشراكة) مع العسكر ربائب الإنقاذ ؟ثم كيف تجرأ الموقعون على تسمية ما صدر في جوبا ب (إتفاق سلام)مع إنه ليس أسوأ منه غير اتفاق نيفاشا. في المقابل لِم يصر فريق على وصم ما لم يصدر بعد في سياق جهود اختراق الانسداد الراهن ب(التسوية)من. منطلق رجم أطرافه اخلاقياً قبل إدانتهم سياسيا.
******

هؤلاء يستهدفون شجب (التسوية) بتقديم أفرقة تنازلات محرّمة.مع ان الوثيقة المسماة ب(الإعلان السياسي) انطوت على الكفر البيّن بالثورة وبالشهداء.أما (اتفاق سلام جوبا) فهو إيمان مذل بهيمنة أصنام الحرب. فبدلاً عن بث الاستقرار في أوساط المهمشين فقدت أحياء العاصمة الطمأنينة .أصحاب الإدانة المسبقة يجهلون أو يتجاهلون قضية ترتيب الأولويات . فمالم تسترد قوى الثورة السلطة يصبح كل حديث عن فروض الثورة،الثوار، الشهداء ،الشعب والوطن ضرب من السفسطة الهراء. (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، ولما يأتهم تأويله).يونس ٣٩.
******

رغم تعقيدات الواقع الراهن المتكئ على موازين الضعف لا القوة ،فإن الأزمة الجوهرية المرعبة ليست فيما يحدث حاليا.بل في ما يمكن حدوثه غدًا .عوضا عن قراءة الحاضر والاجتهاد في استيعاب دروس الماضي نرهق أنفسنا بالركض وراء أشباحه . نحن نزيد الواقع المعقد تعقيداً عبر محاولاتنا النيئة لمعالجة أزماتنا وكأنها أسرار ينبغي حجبها عن الشعب .مع ان المتفاوضين ليسوا مفوضون من قبل الشعب .لدينا أزمات متشابكة لكن الدين ليس بينها إذ ليس لدينا أزمة مع الدين أو فيه كم يروج السفلة الفجرة. فقضيتنا المركزية هي التنمية .فبالتقدم على درب حل هذه المعضلة تنبجس أشعة الوعي فيزول ما علق بالدين من مفاهيم خاطئة أو مغلوطة.تلك مسألة تقتضي حتما نبذ العقلية ذات البعد الواحد.
******

aloomar@gmail.com

 

آراء