الزبير باشا فصل من كتاب "ما وراء السودان" Behind the Sudan بقلم هنري سيسيل جاكسون H. C. Jackson ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي مقدمة: هذه ترجمة للفصل السابع في كتاب "ما وراء السودان" Behind the Sudan للإداري البريطاني هنري سيسيل جاكسون، والذي نشرته دار نشر ماكميلان في لندن عام 1955م. عمل جاكسون في السلك الإداري لنحو ربع قرن من الزمان (بين عامي 1907 إلى 1931م) في مديريتي بربر وحلفا وغيرها. وسبق لنا ترجمة عدد من مقالاته المنشورة في "السودان في مذكرات ومدونات SNR"، وكتابيه "عثمان دقنة" و"المقاتلون السودانيون". وللمؤلف كتب أخرى منها كتاب عن "الزبير باشا: السلطان وتاجر الرقيق"، و"السودان أيام وعادات"، وكتاب عن مدينة سنار (سن النار) قام بتعريبه الدكتور الحاج سالم مصطفى. الشكر موصول للدكتور قندول إبراهيم قندول لمدي بنسخة من الكتاب لترجمته. المترجم ********** ********* لم تندثر العبودية في السودان إلا بصعوبة بالغة. وأذكر أني كنت قد حكمت على رجلين من عرب الرشايدة بشمال السودان قُبض عليهما بتهمة اختطاف امرأة بنية بيعها في مكة. وقبل سنوات قليلة من تلك القضية ترأست محكمة للفصل في قضية أتهم فيها رجلان باختطاف امرأة طاعنة في السن في منطقة المناقل (الواقعة على بعد 120 ميلا جنوب الخرطوم). كانت الضحية هذه المرة امرأة يفوق عمرها ستين عاما، رقيقة الحال ونحيفة الجسد. لم أستطع تخيل الفائدة التي سيجنيها المتهمان من اختطف تلك المخلوقة البائسة البارزة العظام، وبيعها. ولما مثلت تلك المرأة أمام المحكمة بدت في غاية السعادة لكونها غدت مركز اهتمام جميع من كانوا بالمحكمة، وبدأت تعيد أمامنا سرد قصة اختطافها في حبور لا يخفى. قالت: "كانت الشمس قد بدأت في المغيب عندما سلكت طريق العودة لبيتي وأنا أحمل بعض الماء، عندما هاجماني هذان الرجلان (وأشارت إليهما)، وكمما فمي ومضيا بي بعيدا عن بيتي دون أن نصادف أحدا في الطريق. ولكن بعد أن قطعا بي مسافة قصيرة مررنا بقرية صغيرة بدأت بعض كلابها في النباح عند رؤيتنا، مما أخاف الرجلين، فخبطاني في رأسي وشدا وثاقي وألقيا بي تحت كوم من الحطب اليابس في أجمة، حيث بقيت هناك دون أدنى حراك. وعندما أفقت من أثر خبطة الرأس، دب الرعب في نفسي وخطر لي أن الأسود والنمور تجوب ذلك المكان ليلا. وفجأة سمعت أصوات رجال يتحدثون من مسافة بعيدة، فصحت بأعلى صوتي طالبةً العون. غير أنهم حسبوني سعلاء أو جنية فأطلقوا سيقانهم يسابقون الريح. ولكن لحسن حظي أخبر أولئك الرجال أهل القرية بأن هنالك جنية تختبئ في الأجمة القريبة من دورهم، فأتوا جميعا للبحث عني. ولما عرفوا حقيقة أمري أعادوني لقريتهم." يصعب على الناظر لتلك الحيزبون البائسة أن يصدق إنها ليست سوى جنية! لم أجد في نفسي أي قدر من التعاطف مع أولئك الرجال الأشرار. غير أني بدأت في التعرف على واحد من تجار الرقيق من صنف مختلف جدا، وبدأت أحبه عندما قابلته لأول مرة في أم درمان عام 1911م. ذلكم هو الرجل المشهور الزبير باشا، الذي كان يمكن أن يغدو حاكما عاما للسودان إن قُدر للحكومة (البريطانية) أن تقبل باقتراح الجنرال غردون بالاستفادة من خدماته. **** **** **** ولد الزبير رحمة (بجزيرة واوسي. المترجم) في حوالي عام 1831م، وتوفي بالجيلي في الخامس من يناير عام 1913م. ويزعم الرجل أنه من نسل العباسيين الذين فروا من بغداد في نهاية القرن الثالث عشر الميلادي. وبعد أن بقوا بمصر لبعض السنوات هاجروا جنوبا إلى السودان، حيث قطن بعضهم على شاطئ النيل الأبيض، وذهب البعض الآخر لدارفور ووداي، وهي مناطق قُدر للزبير ومسترق اسمه رابح الزبير (كان الزبير باشا يعده ابنا له) أن يحكماها بعد مرور مئات السنوات على هجرة أولئك العباسيين إليها. وعندما بلغ الزبير سن الخامسة والعشرين اتجه لجنوب السودان للعمل في التجارة، كما فعل قبله الكثيرون. وكان في البدء يتاجر في بضائع وفيرة الربح مثل العاج (سن الفيل)، الذي كان يشتريه مقابل بضع ياردات من القماش القطني، أو بحفنة من الخرز (السكسك). ومع مرور السنوات بدأ سوق العاج في التدهور. عندها تحول التجار إلى تجارة قبيحة مستهجنة طلبا للكسب الوفير السريع. كان أولئك التجار يحملون الأسلحة النارية للدفاع عن أنفسهم من الحيوانات المفترسة أو رجال القبائل العدائيين. وأكتشف هؤلاء التجار أنهم سيجنون أربحا أعظم أن هجروا تجارة العاج (الأبيض) واستعاضوا عنها بتجارة العاج (الأسود)، فصاروا يهاجمون الأهالي ويصطادونهم ويسترقونهم لبيعهم بأسعار عالية. وكان ذلك عملا يسيرا عليهم بالنظر لامتلاكهم أسلحة نارية قاتلة، بينما لم يكن لدى الأهالي للدفاع عن أنفسهم سوى الحراب والأقواس والسهام. كان الزبير رجلا ماهرا في التجارة وفي ابتدار المشاريع الطموحة، وكانت لديه رؤية بعيدة المدى ليؤسس لنفسه مملكةً في قلب أفريقيا. وعوضا عن بيع من يقوم بأسرهم من رجال القبائل، كون منهم جيشا كان يؤمل أن يحقق به طماحه في تأسيس مملكته. وبعد أن انتصر في نحو 120 معركة خاضها، أفلح في إخضاع كثير من مناطق بحر الغزال ودارفور ووداي، ومنع التجار الآخرين من الهجوم على الأهالي واسترقاقهم في المناطق التي يسيطر عليها. وكان هذا من أسباب نقمة تجار الرقيق عليه، الذين لم يرضهم بالطبع فقدان أرباح وفيرة كانت ستأتيهم من تلك التجارة. لذا قاموا بالاتصال بخديوي مصر وزعموا له أن الزبير سيغدو في المستقبل القريب قائدا لجيش قوي يمكنه به غزو مصر نفسها. اقتنع الخديوي بأن جنود جيشه يفتقرون للروح القتالية اللازمة لصد هجوم محتمل من جنود الزبير الذين يعشقون القتال. وعوضا عن الاعتراف بضعف جيشه لجأ الخديوي إلى حيلة ينال بها مبتغاه دون اللجوء إلى القوة المسلحة. فكتب إلى الزبير باشا رسالة يشكره فيها على إخضاعه لمساحات واسعة في جنوب وغرب السودان لسلطة الحكومة المصرية، ودعاه للقدوم إلى القاهرة ليتلقى مكافأة قيمة نظير خدماته (الجليلة). أسند الزبير لابنه سليمان إدارة المملكة التي أقامها في بحر الغزال، واتجه صوب القاهرة في عام 1875م، ومعه الفاً من الرجال المسلحين بالبنادق، وكمية كبيرة من الهدايا للخديوي شملت مئة من الخيول العربية الأصيلة وأربعة أسود، وأربعة نمور، وستة عشر من الببغاوات، وما يزيد على ثمانية أطنان من أفضل أنواع العاج. تقبل الخديوي تلك الهدايا بالشكر، وعبر عن تقديره وامتنانه للزبير، غير أنه لم يسمح له بالأوبة مجددا للسودان. بقي الزبير بالقاهرة، ولكن كانت الحياة فيها بالنسبة له خاملة ومملة جدا، ولا عجب في ذلك، فالرجل كان قد قضى معظم وقته على سرج جواده، يقتحم أماكن قصية (متوحشة) في السودان لم يطأ أرضها من قبله رجل غريب، ويقوم على تدريب جنوده لخوض معارك متصلة، وهو أمر كانوا يحبونه ويستمتعون به. لذا رحب الزبير بالمشاركة مع الجيوش المصرية بالبلقان في حرب بين روسيا والامبراطورية العثمانية في عام 1877م. حارب الزبير مع المصريين لستة أشهر في سلاح الفرسان. ثم اختلف مع محمد علي باشا قائد عام ذلك الجيش. فبعد معركة عنيفة خاضها الزبير وأعلن أنه انتصر في يومها الأول، أمره محمد علي باشا بالانسحاب. أثار ذلك غضب الزبير فذهب لحسن باشا، ابن الخديوي للاحتجاج على ما سماه الزبير "جبنا" من محمد علي باشا. ولم يأبه حسن باشا ولا غيره باحتجاج الزبير. ثم أقبل فصل الشتاء القارس، وتجمدت الأنهار. وصف لي الزبير ذلك الجو بهذه الكلمات: "هطل المطر مثل ريش تناثر من أعشاش طيور البجع عند هبوب رياح الجنوب". وقاسى الزبير الأمرين تحت ظروف الطقس المتجمد الذي لم يكن معتادا عليه، حتى تفضل عليه رجلان تركيان بالتوسط له لدى السلطات لإرجاعه لمصر. وفي غضون ذلك (تحديدا في عام 1879م) قام سليمان الزبير بعد أن طال غياب والده، بالتمرد على الحكومة. أرسل إليه الجنرال غردون – وكان حينها هو حاكم عام السودان - ضابطا إيطاليا هو جيسي باشا لإخماد ذلك التمرد. ولم تفض المعارك التي دارت بين الطرفين إلى حسم ذلك التمرد، فكتب جيسي لسليمان الزبير يعطيه الأمان إن هو وافق على الاستسلام. صدق سليمان وعد الضابط الإيطالي واستسلم مع نصف رجال جيشه. غير أن رابح الزبير لم يكن يثق في جيسي، فأنسحب مع النصف المتبقي من جيش سليمان الزبير إلى ما يعرف الآن بأفريقيا الاستوائية الفرنسية. ورغم الوعد الذي قطعه الضابط جيسي لسليمان بالحفاظ على حياته، إلا أن سليمان قدم لمحاكمة عسكرية قضت بإعدامه. وسارع غردون بتأييد ذلك الحكم. وكما أثبتت الأحداث لاحقا، فقد يكون غردون قد وقع ضحيةً لسوء فهم للقضية بسبب سوء الترجمة. ولم ينفك أعداء الزبير بالقاهرة يكيدون له، وزعموا للحكومة المصرية في عام 1885م بأن الزبير يتآمر مع مهدي السودان. لذا قررت الحكومة (بموافقة الحكومة البريطانية) اعتقال الزبير ونفيه إلى جبل طارق. لم تثبت الشائعات التي بثها أعداء الزبير وكارهيه قط، وكان الزبير كثيرا ما ينفي أي صلة له بالمهدي أو غيره. ولم يطلق سراح الزبير إلا بعد قضاء ثلاثين شهرا في منفاه بجبل طارق، حين عاد للقاهرة التي منح فيها قصرا في الجيزة بالقرب من القاهرة. وكان الزبير كثيرا ما يزور سير ايفيلين بارينق، وكيل جلالة الملكة والقنصل العام البريطاني (هو اللورد كرومر، حاكم مصر الفعلي بين عامي 1883 – 1907م. المترجم)، وذلك للمطالبة إما بتقديمه للمحاكمة على الجرائم التي زُعم أنه قام بها، أو إطلاق سراحه وتعويضه ماديا بمبلغ ضخم عن فترات سجنه المتطاولة. وبعد مرور سنوات طويلة على سجنه في جبل طارق، عُين أحد الضباط الذين كانوا يحرسونه في منفاه حكمدارا للشرطة بالخرطوم. ولم يفهم ذلك الضابط قط لم كان يجب عليه أن يؤدي التحية لأحد سجناءه السابقين، رغم أن الزبير (باشا) كان في تلك السنوات يُستقبل في قصر الحاكم العام كأحد أهم شخصيات البلاد! ***** ***** ***** كان المهدي بنهاية عام 1883م قد سيطر بجيشه على أغلب أجزاء السودان، ونجح في معركة كازقيل (شيكان) في القضاء المبرم على جيش من الجنود المصريين قوامه عشرة آلاف رجل تحت قيادة الجنرال هكس. وبالنظر إلى شهرة وسمعة الجنرال غردون في إنجلترا، أرسلته الحكومة للقيام بعملية لإجلاء من تبقى من رجال الجيش المصري بالسودان. بلغ غردون ميناء بورسعيد في يوم 24 يناير من عام 1884، واستقبله في الميناء السردار ايفيلين وود، الذي كان قد قابله لآخر مرة في منطقة القرم، حيث كانا يعملان سويا ملازمين في الجيش. قضى غردون ليلته تلك في ضيافة السردار. قابل غردون في يومه الثاني بمصر الزبير مصادفةً، وخطر لغردون إحساس "صوفي" غامض بأن هذه الشخصية الغريبة هي من بمقدورها إنقاذ السودان من (خطر) المهدي. لذا خط رسالة طويلة للسير ايفيلين بارينق طالبا منه منحه فرصة للقاء الزبير والتفاوض معه حول إمكانية عودته للسودان في رفقته. كان السير ايفيلين بارينق لا يثق البتة في مثل تلك "الأحاسيس الصوفية الغامضة" عند غردون، الذي كان يعده شخصا لا يمكن التنبؤ بما سيفعله. أضف إلى ذلك أن السير ايفيلين بارينق كان قد تلقى برقية من لورد قرينيفيل قبل ثلاثة أيام من طلب غردون، تفيد بأن غردون كان قبل مغادرته لإنجلترا قد طلب منه (أي من لورد قرينيفيل) إبقاء الزبير تحت المراقبة اللصيقة، وإن يُنفى لقبرص، إن لزم الأمر! ولم يكن السير ايفيلين بارينق قد نسي أن غردون كان قد صادق على حكم محكمة الضابط الإيطالي جيسي على سليمان بن الزبير بالإعدام لتمرده على الحكومة المصرية، وأن كل ممتلكات الزبير قد صُودرت لاتهامه بالضلوع في ذلك التمرد. وعلى الرغم من كل ذلك، وافق السير ايفيلين بارينق لدعوة الزبير وغردون لاجتماع مشترك يضم عددا من الضباط والمسؤولين الذين خبروا السودان وأحواله جيدا. وكان القصد أن يواجه الزبير وغردون بعضهما مواجهة مباشرة. كان ذلك اجتماعا غريبا. حضره كل من السردار سير ايفيلين وود، والعقيد إي. أي. واطسون، الملحق بالجيش المصري، والعقيد ستيوارت (الذي كان السير ايفيلين بارينق يصفه بأنه شديد الهدوء وثاقب الفكر)، وكان العقيدان قد عملا مع غردون في السودان من قبل. وحضر الاجتماع أيضا قيقلر باشا، الذي عمل مع غردون أيضا، وكان قد قال للسير ايفيلين بارينق من قبل إن الخرطوم ستسقط في يد المهدي إن هزم جيش هكس. وحضره كذلك نوبار باشا، رئيس الوزراء المصري، الذي كان يصفه غردون بأنه "ذلك الأرمني الوضيع الأصل". وكان نوبار يبادل غردون الكره وعدم الثقة. كان ذلك الاجتماع اجتماعا لا ينسى، فقد أماط اللثام عن التناقض الكبير بين شخصيات ثلاث: السير ايفيلين بارينق، الرجل العقلاني الهادئ، صاحب الذهن الصافي المرتب؛ والزبير باشا، ذلك التاجر المغامر والجندي الباحث عن الشهرة والثروة والسلطة؛ والجنرال غردون، الرجل الذي يصدق كل ما يخطر على قلبه من "أحاسيس صوفية غامضة" (كما وصفه ذات مرة السير ايفيلين بارينق بأنه "يتخذ قرارات مرتبكة متناقضة بسبب اتصاله الروحي بالنبي عيسى"، ولكنه رجل عملي أيضا. وعلى الرغم من أن الزبير وغردون يختلفان في المعتقد الديني، إلا أنه كانت لديهما صفة مشتركة هي الحماس المندفع الذي قد لا يخلو من بعض تهور. لا بد أن السير ايفيلين بارينق قد لاقى صعوبة جمة في إدارة ذلك الاجتماع، مع ارتفاع حدة النبرة العاطفية بين المشاركين فيه، وكان هذا ما يمجه الرجل ويعده أمراً غير مقبول ولا مألوف عنده. ومما زاد الطين بلة، أن العلاقة بين السير بارينق والجنرال غردون كانت متوترة أصلا بسبب شجار نشب بينهما من قبل حول ترتيب الأحوال الاقتصادية في مصر (ولكن تلك قصة أخرى لا تعنينا في هذا المقام). دلف السير بارينق في معية الجنرال غردون لغرفة الاجتماعات في مقر القنصلية البريطانية، وصافحا كل الحاضرين. وعندما مد غردون يده ليصافح الزبير، رفض الأخير أن يصافحه، فغضب غردون من ذلك وطلب من الزبير تفسير رفضه لمصافحته. أجابه الزبير بالقول: "لأن هذه اليد هي اليد التي وقعت بالمصادقة على قرار إعدام أحب أبنائي لدي. كيف لي أن أصافح رجلا يديه ملطخة بدماء ولدي؟" رد غردون بالقول: "أنا لست مسؤولا عن ذلك. أنت الذي تسببت في إعدام ولدك. لقد كتبت له رسالة من القاهرة تحرضه فيها على التمرد على الحكومة". أجاب الزبير: "لم أفعل شيئا كهذا قط." أعقب ذلك لجاج وجدال بين الرجلين، وطالب الزبير بتعويض مادي كبير لسجنه دون وجه حق، وإعدام ولده سليمان. رد غردون على ذلك وأعاد اتهامه للزبير بتحريض ولده على التمرد على الحكومة، والتسبب في مقتل نحو مئتين من الجنود المصريين. وكرر الزبير مرارا نفيه القاطع لكل ما نسبه له غردون، وقال إن إثبات صحة كلامه تكمن في الرجوع لأوراق الاتهام التي حوكم بموجبها سليمان. وقال إنه إذا ثبت أن هنالك بالفعل خطابا منه لولده يحثه فيها على التمرد (كما زعم غردون)، فسيقبل الشنق دون تردد، إذ أنه لا يريد أن يعيش أكثر مما عاش. (للمزيد عن ذلك اللقاء بين غردون والزبير يمكن الاطلاع على المقال المترجم بعنوان "مواجهة تاريخية بين الزبير باشا وغردون باشا" من كتاب شارلس ترنتش "الطريق إلى الخرطوم ". المترجم). ***** ***** ***** إثر ذلك طلب السير بارينق إرسال كل أوراق القضية لدراستها من جديد. وبعد فحص تلك الأوراق، لم يجد من بينها أي خطاب من الزبير لولده سليمان. عند إعلان ذلك قال الزبير: "بالطبع لن تجدوا أي خطاب مني، لسبب واحد وهو أي لم أكتب لولدي مثل ذلك الخطاب أصلا". أدرك غردون، الذي لا يكتب ولا يقرأ اللغة العربية، ويتحدثها بصورة سيئة جدا، بأن مترجمه قد خدعه، وجعله يوقع على أوراق إعدام سليمان الزبير دون دليل قوي. نهض غردون من مقعده ومد يده ليصافح الزبير وليعتذر له عن فعلته. كانت لحظة تاريخية تلك التي قام فيها جنرال مسيحي، سلخ سنوات طويلة من عمره في السودان وهو يحارب تجارة الرقيق، بالاعتذار لتاجر رقيق محمدي. شكر الزبير غردون لاعتذاره وعبر عن سعادته لإعلان براءته من تلك التهمة المشينة. وختم حديثه بالقول: "نعود الآن أصدقاء من جديد. وها هي يدي مدودة لك. سأكون خادما لك للأبد، وسأفعل كل ما تطلبه مني". نهض غردون وخاطب المجتمعين بالقول: "أتمنى أن يرافقني الزبير في رحلتي للسودان". أثارت جملة غردون الصغيرة تلك الكثير من القلق وخيبة الأمل عند الحاضرين. وبعد نقاش مستفيض خلص المجتمعون إلى أن الموافقة على طلب غردون ستضع حياته في خطر، فليس هنالك ضمان لسلامته إن عمل الزبير على عرقلة عملية إخلاء الحاميات المصرية من البلاد. وفي مساء ذلك اليوم كان السير بارينق يقف في رصيف محطة السكة حديد بالقاهرة من ضمن مودعي غردون المسافر إلى السودان. لم يخف على السير بارينق أن غردون كان حزينا على رفض ذلك الاجتماع لطلبه أخذ الزبير معه للسودان. طمأنه السير بارينق بالقول بأنه سيدرس طلبه بعد أن يصل للسودان ويقيم الموقف على أرض الواقع، وإذا رأى أن حضور الزبير للسودان سيكون أمرا مفيدا، فسيعمل على إقناع حكومة جلالة الملكة إعادة النظر في قرارها. سُر غردون لسماعه ذلك الوعد من السير بارينق قبل سفره للخرطوم، قبل عام كامل من مقتله هنالك. وبعد أن بلغ غردون الخرطوم دعا فرانك باوار مراسل صحيفة التايمز لمشاركته طعام الإفطار. قام غردون في أثناء ذلك الإفطار بكتابة مسودة برقية للسير ايفيلين بارينق جاء فيها إنه يرغب في إحضار الزبير للخرطوم للمساعدة في إخلاء الجنود المصريين من السودان، وبعد الفراغ من ذلك فإنه يقترح أن يتم تعيين الزبير حاكما عاما على السودان، وأن يُمنح مئة ألف جنيه إسترليني سنويا نظير إدارته للبلاد. عرض غردون مسودة تلك البرقية على مراسل الصحيفة دون أن ينتبه إلى ما يقوم به عادةً المرسلون الصحفيون. عجل ذلك المراسل الصحفي بالطبع بإرسال مسودة برقية غردون إلى صحيفته في لندن. وعند نشر الصحيفة لمسودة تلك البرقية أثار ذلك امتعاضا شديدا، وأفضى ذلك لهجر الحكومة البريطانية لفكرة عودة الزبير للسودان نهائيا. لا يمكن لأحد تخيل ما كان سيؤول إليه الوضع في السودان إن قبلت الحكومة البريطانية بمقترح تنصيب الزبير باشا حاكما عاما للسودان. غير أنه من المؤكد أن وضع السودان كان سيكون مختلفا جدا. إن تم قبول مقترح غردون فلا شك أن غردون لم يكن ليقتل، وأن التمرد المهدوي سيتم اجتثاثه، وأن البريطانيين سيحكمون السودان (فعليا). تحدث الزبير معي (ومع غيري) عن ذلك القرار المصيري. "من هو الذي قتل غردون؟". نفى الزبير للبريطانية فلورا شو عندما أجرت معه مقابلة صحفية أن يكون قتل غردون قد تم بأيادي سودانية، وقال إن البريطانيين هم من فعلوا ذلك برفضهم طلب غردون بإرجاع صديقه للسودان. (صدر عن مركز الدراسات السودانية عام 2006م كتاب لخليفة عباس العبيد بعنوان "الزبير باشا رحمة يروي سيرته في منفاه بجبل طارق" تضمن أصل وترجمة الحوار الذي أجرته شو مع الزبير. المترجم). عرفت الزبير جيدا من خلال ساعات طويلة قضيتها معه مستمعا ومعجبا ومستمتعا بسماع ذكرياته. كان شديد سواد البشرة (مقارنة بالعرب الآخرين)، وله شارب كث أبيض اللون، ولحية صغيرة. بدا لي رجلا عطوفا شفوقا، وهو انطباع لا يمكن توقعه من دراسة السجل السابق للرجل. كان يجيد رواية القصص بصورة مدهشة، ويكثر من ايماءات وحركات جسده، خاصة يديه، عند روايته لحادث يثير شجونه. كانت يداه الرقيقتان النحيلتان أشبه بيدي رسام أكثر منها يدي محارب. أذكر أنه حكى لي عن رحلة قام بها لبلاد الزاندي، وقال إن هؤلاء يعيشون في "بلاد نيام نيام، وهم من أكلة لحوم البشر، وليس في بلادهم مقابر". بعد أن توثقت علاقتي بالزبير، وبعد قراءة كل ما وقع تحت يدي عن تاريخه، خلصت إلى أن جمعية محاربة الرق (البريطانية) قد ساهمت في تشويه صورة وتاريخ الرجل. دفعني ذلك لتأليف كتاب عن حياة الزبير عنونته: "العاج الأسود والأبيض". وقبل الاقدام على نشر الكتاب تشاورت مع الجنرال وينجت وسلاطين باشا حول السماح بنشر الكتاب. قلت لهما إنه على الرغم من كل ما قيل ضد الزبير، إلا أنني أعتقد أنه رجل ممتاز، وسألتهما إن كان هنالك أي اعتراض منهما (أو من الحكومة البريطانية) على نشر ذلك الكتاب الذي سيدفع عن الزبير افتراء كارهيه. رحب وينجت وسلاطين بمحاولتي لتصحيح النظرة نحو تلك الشخصية السودانية، وتكرم وينجت بإرسال خطاب تقديم إلى اللورد كرومر. وعقب مقابلتي للورد كرومر وبعد مزيد من النقاش مع وينجت تمكنت من إضافة المزيد من التفاصيل عن حياة الزبير. سألت الزبير في إحدى مقابلاتي معه بأم درمان: "يا باشا. لماذا رغب غردون في الرجوع للسودان في معيتك؟ فقد كنت أنت تاجرا للرقيق، بينما كان غردون قد وهب كثيرا من سنوات عمره لمنع تلك التجارة؟" أجابني: "يا جناب المفتش. تقول عني أنني تاجر رقيق. هذا ظلم بين منك. في الواقع ربما كنت قد قمت بنفس الجهد الذي بذله غردون لإنهاء تلك التجارة. لم أرسل مسترقا واحدا للقاهرة. لم أرسل خصيا واحدا. عندما حرر غردون الرقيق، كان كل ما فعله هو إطلاق سراح معظمهم في بلاد غريبة وبعيدة عن موطنهم الأصلي لا يعلمون كيف يكسبون عيشهم فيها. كانت لدي فكرة أفضل من فكرة غردون. كان تجار الرقيق يهاجمون الناس في جنوب السودان ويرسلونهم شمالا للبيع في مصر أو في غيرها من البلدان. مات عشرات الآلاف من هؤلاء المسترقين في طرق تلك الرحلات الطويلة. بل كان غردون يجمع عظام هؤلاء ويكومها على الطرق التي يمر بها ليجعلها علامات على تلك الطرق التي سلكها. يا للخسارة العظيمة في الأرواح! وحتى إن بلغ هؤلاء مصر سالمين، ما الذي ينتظرهم هنالك غير العمل المتواصل في قصور الباشوات الأغنياء؟ بالإضافة لذلك فقد كنت أمج قسوة وفساد الحكومة المصرية، وأردت إقامة دولة أفضل (هنا). لقد سمح كل المسؤولين المصريين في جنوب السودان، من حاكم فشودة إلى أصغر كاتب، بتجارة الرقيق، ثم مارسوها وكسبوا منها مالا جما. أما أنا فقد كنت أصطاد هؤلاء الرجال ولكني لم أكن أبيعهم عبيدا، بل أجندهم للعمل في جيشي، وأعطيهم مرتبات جيدة وحياة مغامرات كانوا يحبونها. لقد كان معظم هؤلاء من الجنود الممتازين فعلا. وأتاني كثير منهم للانضمام لجيشي بمحض إرادتهم. لم يكن ليفعلوا ذلك لو لم أكن أعاملهم معاملة حسنة. لقد أبلى جيشي بلاءً حسنا مما أثار مشاعر الحسد والغيرة في نفوس تجار الرقيق والمسؤولين الحكوميين المصريين، فطفقوا يكيدون لي ويرسلون للخديوي تقارير كاذبة عني يزعمون فيها أنني عازم على التمرد على سلطته. الأمر لم يكن هكذا ("مش كدا" في الأصل! المترجم). في الواقع عندما طلب مني الخديوي زيارته في مصر، رددت عليه بأني على استعداد للسفر للقاهرة ومناقشته في أفضل السبل لإدارة البلاد التي استوليت عليها إنابة عنه". احتفظ الزبير حتى آخر أيام حياته ببساطة طفولية تثير الاعجاب. كان العقيد (لاحقا سير ايدقارد) بيرنارد واحدا من الذين يحبون استضافة الزبير في داره. وكان كثيرا ما يعابثه بحركة ظلت تثير ضحكه رغم تكرارها عشرات المرات. كان يدعو الزبير لشرب الشاي في بيته، ويترك له كرسيا مخصوصا للجلوس عليه. وما أن يجلس الزبير على ذلك الكرسي حتى تنطلق منه موسيقى مارش "ليحفظ الله الملك". وعندما بلغ الزبير الثمانين من العمر، وثقلت حركته قليلا مع مرور السنوات، دأب على رفض تقدم السن كسبب لما حدث له من ضعف وقلة قدرة، بل كان يزعم أن ذلك حدث بسبب تسميمه بكوب من القهوة قُدم له قبل أربعين عاما. وليدرأ عنه مظاهر الخرف لجأ للكي بالنار. وزرته ذات مرة قبل وفاته بقليل. قال لي يومها أن جسده قد كوي بالنار ما لا يقل عن مئة وخمسين مرة. فسر لي سبب ولعه بالكي بالقول: "الكي مفيد للإبل. لماذا لا يكون مفيدا لي أنا أيضا؟" لقد كان الزبير رجلا شجاعا مقداما، وصاحب عبقرية فذة في التنظيم. وكان يسرف في الكرم لدرجة أقلقت الحكومة كثيرا. كانت حكومة العهد الثنائي قد سمحت له بالعودة للسودان، ومنحته معاشا كبيرا كتعويض عن فترة حبسه في جبل طارق. غير أن ذلك المعاش لم يكن كافيا لرجل لا يزال يذكر أيام مجده القديم وعزه الملكي القديم في الجنوب، عندما كان محاطا بعشرات الخدم، وعدد من شيوخ الدين (الفكيا) والمداح خارج غرفته يرددون المدائح النبوية والأدعية طوال اليوم، وبيته محاطا بالحراس المسلحين وبأسود مقيدة بسلال حديدية لتحميه من كل من يفكر في اقتحام بيته. لم يجد في نفسه قط قبولا لخبو طماحه وأفول نجمه، وظل يداوم على استضافة جميع زواره في أم درمان والجيلي بنفس الطريقة المسرفة التي كان يغدقها على زواره أيام عزه القديم. لا عجب إذن أن توفي الزبير مخلفا ديونا ثقيلة دفعتها عنه حكومة السودان. لعل أكثر خواص الزبير التي كنا – نحن البريطانيون الذين عرفناه عن قرب – نحبها فيه هي ثقته العظيمة في عدالة البريطانيين، الذين خدمهم بإخلاص حتى يوم وفاته رغم كل الظروف والملابسات التي حدثت، والتي كان يمكن أن تهز ثقة أي رجل آخر. لقد قتلت الحكومة ابنه سليمان بناءً على أوامر من غردون، وأرسلته الحكومة حبيسا في جبل طارق. غير أنه لم يكره أو يحقد على البريطانيين لكل ذلك الظلم الذي حاق به على أيديهم.، بل ظل يكرر أن كل ذلك قد حدث بسبب "سوء فهم" البريطانيين للوقائع نتيجة لكيد السلطات المصرية له. قال لي ذات مرة: "أنتم يا إنجليز غشيمين. أنتم عادلون ولكن، والله، فيكم بساطة". كان الزبير ينسب لونجت الفضل في إطلاق سراحه من جبل طارق. وعبر ذات مرة عن امتنانه له بطريقة مؤثرة. ففي نهايات عام 1899م حرض المصريون عددا من الجنود السودانيين على التمرد (للمزيد عن ذلك التمرد يمكن النظر في مقال مارتن دالي المترجم بعنوان "تمرد الجيش المصري بأم درمان في يناير وفبراير 1900م". المترجم). وكان وينجت قد تولى قبيل تلك الحادثة منصب الحاكم العام وسردار الجيش المصري. أفلح وينجت في إخماد ذلك التمرد، ولكنه غدا مكروها في مصر، التي أمطره أهلها بخطابات تهديد عديدة. ولما هدأت الأمور قليلا سافر وينجت وزوجه لبلاده عبر القاهرة في عطلته السنوية. استقبله في محطة السكة حديد بالقاهرة، وهو في طريقه للإسكندرية ثم تريستي، عدد كبير من الناس كان من بينهم الزبير باشا. وعند وصول وينجت لمرسى السفن بميناء الإسكندرية فوجئ وينجت بالزبير باشا يهبط من عربة تجاور عربته. كان هنالك زحام شديد غير معتاد. طلب وينجت السير معه في وسط ذلك الزحام. وعجب وينجت عندما وجد صديقه القديم الزبير يحول بينه وبين ذلك الزحام. وعندما بلغ وينجت لمدخل السفينة شكر الزبير لتكبده مشاق السفر من القاهرة لتوديعه في الإسكندرية بعد أن كان قد ودعه في القاهرة. أجابه الزبير:" لقد سمعت بأن هنالك محاولة لاغتيالك في الإسكندرية، وعملت ما أستطيع لأحول بينك وبين البشر من حولك. كنت مصرا على أن يتلقى جسدي أولا رصاصة من يريد اغتيالك".