“السودانيون المقاتلون” بين جاكسون وجكسا .. تقديم كتاب: هنري سيسل جاكسون، ترجمة بدر الدين الهاشمي
ارتبط اسم جاكسون (Jackson) في أدبيات الحكم الثنائي (1898-1956م) في السُّودان بثلاثة شخصيِّات بريطانية، تركت بصماتها في مخيلة الشعب السُّوداني، لكن بعض الباحثين خلط بين هذه الشخصيِّات، ودمجها في معظم الأحيان في شخص واحد، ونذكر على سبيل المثال السفير عوض أحمد الضو، الذي ترجمَّ كتاب هنري سيسل جاكسون (Sudan Days and Ways) إلى اللغة العربية بعنوان "أيامي في السُّودان"، حيث نسب طرفاً من حياة المؤلف إلى هاربرت وليم جاكسون، عندما ذكر في مقدمة ترجمته قائلاً: "كان جاكسون معروفاً بتعاطفه مع الفقراء والمحرومين، وخاصة الأرقاء، مما أكسبه محبة هذه الفئات على وجه خاص. وكانت آخر وظيفة شغلها تحت نظام الحكم الثنائي هي وظيفة مدير المديرية الشمالية، ورغم أنه توفي في بداية الخمسينيات من القرن الماضي؛ إلا أنه ما يزال هناك، في مروي، قصر فخم، وحديقة غناء باسمه، كما أنه دُفن في جبل البركل، المواجه لمروي في الضفة الأخرى من النيل." (ص 11). والمقصود في هذا الاقتباس هو السير هاربرت وليم جاكسون (1861-1931م)، الذي درس في بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، ثم التحق بالجيش المصري، وبعدها أُنتدب لخدمة حكومة السُّودان عام 1899م، حيث عمل مديراً لمديرية بربر (1899م)؛ ثم سكرتيراً إدارياً، ونائباً للحاكم العام (1900-1901م). وبعد انتهاء خدمته بمكتب الحاكم العام، عاد مديراً لمديرية بربر عام 1902م، ومنها انتقل إلى مديرية دُنْقُلا (1902-1922م)، التي قضى فيها أطول سني خدمته بالسُّودان، ومن دُنْقُلا انتقل إلى وظيفة مفتش عام في الخرطوم (1922-1923م)، وأخيراً آثر التقاعد بمدينة مروي، التي أسس فيها شبكة واسعة من العلاقات الاجتماعية. وطاب له المقام في مروي إلى أن أدركته المنية في شتاء 28 يناير 1931م، ودُفن جثمانه بالمدينة التي أحبها واختارها موطناً لمعاشه. وبعد انتهاء مراسيم الدفن والعزاء، أقام المسؤولون والأهالي بمدينة مروي نصباً تذكارياً على قبر الجنرال الراحل، كما وصفت جريدة السُّودان الرسمية مراسيم تشيعه بأنها كانت فريدة في نوعها، حيث زُرفت فيها دموع المئات من الرجال والنساء، الذين طوقوا منزل جاكسون باشا، وشيعوا جثمانه المُسجَّى بالعلم البريطاني إلى مثواه الأخير عند أطراف مدينة مروي الحزينة، تقديراً للفترة التي تقدر بربع قرن من الزمان، قضاها بين ظهرانيهم صديقاً محبوباً وفاعل خيرٍ معطاءً. ويقال إنه في أواخر أيام حياته قد تزوج امرأة من منطقة مروي، وأنجب منها ابنه الوحيد عباس، والد نصر الدين عباس جكسا، الذي كان لاعب كرة قدم شهير في فريق الهلال والفريق القومي السُّوداني. وحسب الروايات المتداولة بين الناس إن اسم جده لأبية قد دُوِّن من سجلات المواليد والوفيات باسم "جكسا" بدلاً عن جاكسون باشا، وإن ميدان جاكسون الذي يوجد في جنوب الخرطوم (الآن موقف للمواصلات العامة)، قد سمي تخليداً لذكراه، وتقديراً لأعماله الجليلة التي قدمها للسودان.
أما الشخصية الثانية التي حملت اسم العائلة (جاكسون) نفسه، فهو أرنست سمرفيلا جاكسون (1872-1943م)، الشهير جاكسون بك، والذي بدأ حياته العملية ضابطاً بالجيش البريطاني، ثم أُنتدب للعمل في الجيش المصري عام 1898م، حيث ترقي إلى رتبة أميرلاي. اشترك جاكسون في الحملة التي قادها السير ونجت باشا ضد الخليفة عبد الله عام 1899م، وبعد أن استقام الأمر للحُكام البريطانيين في السُّودان، قضي جاكسون بك باقي حياته في خدمة حكومة السُّودان، وعمل نائباً لمدير مديرية دنقلا في أواخر سني خدمته. وتقاعد عن العمل الإداري بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914م، آثراً البقاء في مزرعة اشتراها من ضابطين مصريين (صبري ورياض) عام 1913م في منطقة منصوركتي، التابعة لعمودية قنتي بمديرية دنقلا آنذاك. وعندما قرر العودة إلى بريطانيا عام 1937م، عرض المزرعة في عطاءٍ عامٍ، وكان العطاء من نصيب السيد علي الميرغني، وأضحت تلك المزرعة تعرف لاحقاً بجنينة السيد علي الميرغني.
أما جاكسون الثالث وصاحب الصلة بموضوع هذا التقديم، فهو هنري سيسل جاكسون (1883- 1962م)، الذي تلقى تعليمه الجامعي في كلية تونبريدج (Tonbridge) وإكستر (Exeter)، وأكسفورد (Oxford) ، حيث حصل على المرتبة الثالثة في الدراسات الكلاسيكية، والمرتبة الثانية في الأدب الإنساني. وبعد تخرجه التحق بخدمة حكومة السُّودان عام 1907م، حيث بدأ حياته العملية في مكتب السكرتير الإداري (1907-1908م)، ومديرية سنار (1909-1910م)، والخرطوم (1911-1913م)، والنيل الأزرق (1914-1919م)، وأعالي النيل (1920-1922م)، والبحر الأحمر (1923-1924م). وفي سنواته الأخيرة شغل وظائفاً إداريةً عليا، شملت مدير مديرية بربر (1924-1926م)، ومحافظ بحر الغزال (1926-1927م)، ومدير مديرية حلفا (1928-1931م) إلى أن تقاعد عن العمل الإداري عام 1931م، وعاد إلى بريطانيا، حيث عمل سكرتيراً للخدمات الاجتماعية بمجلس ليفربول (1932-1945م)، وتوفي عام 1962م. وقد عُرف هنري سيسل جاكسون بمؤلفات العديدة عن تاريخ السُّودان وعن تجربته الإدارية في ذلك القطر المنبسط الأطراف آنذاك في ظل وسائل مواصلات بدائية. وقد استهل مؤلفاته بكتابه الموسوم بـ "سن النار: بعض الروايات عن مملكة سنار القديمة (Tooth of Fire: Being account on the Ancient Kingdom of Sennar)، 1912م، والذي ترجمه إلى اللغة العربية الحاج سالم مصطفى؛ وثانيهما كتابه عن "العاج الأسود والأبيض، أو قصة الزبير باشا، تاجر الرقيق والسلطان، كما روى بنفسه (Black Ivory & White: Or, The Story Of El Zubeir Pasha, Slaver & Sultan, As Told by Himself)، 1913م؛ وثالثها كتابه عن "عثمان دقنة" (Osman Digna)، 1926م، والذي نقله إلى العربية البروفسيور بدر الدين الهاشمي؛ ورابعها كتابه عن "السُّودانيون المقاتلون" (Fighting Sudanese)، 1954م؛ وخامسها كتابه عن "أيامي في السُّودان" (Sudan Days and Ways)، 1954م، والذي نقله إلى اللغة العربية السفير عوض أحمد الضو؛ وسادسها كتابه عن "ما وراء السُّودان الحديث" (Behind the Modern Sudan )، 1955م؛ وسابعها "قس على النيل: بعض الروايات لحياة لويلين ه. جوين ورسائله" (Pastor on the Nile-Being some Account of the Life and Letters of Llewellyn H. Gwynne)، 1960م، الذي لم يُترجم بعد.
ما أهمية كتاب "السُّودانيون المقاتلون"؟
يعرض الكتاب أربعة أحداث رئيسة وذات صلة بشجاعة السُّودانيين المقاتلين. أولها، معركة توشكي التي خاضها الأمير عبد الرحمن النجومي ضد جيش السير فرانسيس قرينفيل (سردار الجيش المصري) عام 1889م؛ وثانيها ولاء السُّودانيين للإمبراطورية البريطانية أثناء الحرب العالمية الأولى (1914-1918م)، حيث دعموها مادياً ومعنوياً؛ وثالثها، تمرد الشيخ الفقيه عبد الله محمد إدريس الملقب بالسحيني على "الكفرة الإنجليز" في نيالا عام 1921م؛ ورابعها اشتراك قوة دفاع السُّودان ومتطوعو القبائل في الحرب العالمية الثانية (1939-1945م)، وتحديداً مجاهداتهم ضد الغزو الإيطالي في شرق السُّودان. والكتاب في مجمله لا يخلو من بعض الإيماءات الاستشراقية والخطاب الاستعلائي، عندما يصف جاكسون أنصار الإمام المهدي "بالدراويش"، وينعت الإيطاليين "بالمستعمرين الجبناء" في مقابل وصفه للبريطانيين بأنهم رسل رحمة، جاؤوا لإنقاذ السُّودان وأهله من براثين الحكم المهدوي الظالم. لا يُعدَّ الكتاب مصدراً أولياً وفق المعايير الأكاديمية المعتبرة؛ لأن جاكسون ألَّفه بعد عودته إلى بريطانيا، واعتمد في تأليفه على كمٍ مقدرٍ من المصادر الأولية والثانوية، التي ساعدته في بناء مدونته التاريخية؛ لكن الشيء الذي لفت نظري أن كتاب "كيف أُعِدَ السُّودان الحديث" (The Making of the Modern Sudan)، الذي جمع ك.د.د. هندرسون فيه مراسلات السير دوغلاس نيوبولد، لم يحظ باستشارة المؤلف، علماً بأنه يحتوي على معلومات أولية عن الحرب العالمية الثانية وتداعياتها في السُّودان، وذلك بحكم أن صاحب المراسلات كان من ضمن الإداريين البريطانيين الذين عاصروا الحرب وتحدياتها في السُّودان، وقاموا بدور مؤثر في إدارة شؤونها السياسية والعسكرية آنذاك. لكن هذه الملاحظة لا تقدح في قيمة الكتاب، لأنه يكمِّل الصورة الخاصة بأحداث الحرب العالمية الثانية، كما يوثَّق لشجاعة السُّودانيين المقاتلين من خلال الأحداث التي سردها المؤلف عن معركة توشكي، والقضاء على تمرد الفقيه السحيني، والحرب العالمية الثانية في شرق السُّودان، كما يتطرق لوفاء وجهاء المجتمع لحكومة صاحب الجلالة أثناء الحربين العالمتين. وفي إطار كتاب "السُّودانيون المقاتلون" نلحظ أن هناك بعض القضايا التي تحتاج إلى إضاءاتٍ كاشفة.
أولاً: نلحظ أن المؤلف جاكسون قد أولى اهتماماً خاصاً لشجاعة السُّودانيين المقاتلين في مواقف حربية عديدة، ونذكر منها تلك التي ارتبطت بحملة عبد الرحمن النجومي على مصر، حيث واجه الأنصار (الدراويش) أجلهم المحتوم في معركة توشكي 1889م؛ بالرغم من أنَّ الهزيمة كانت متوقعة؛ إلا أنَّ المؤلف أظهر أعجاباً واضحاً بشجاعة الأمير عبد الرحمن النجومي، الذي وصفه بإيمانه القاطع: "بصلاح المهدي، وصحة دعوته"، وأكد أن خصومه كانوا "يحترمونه لشجاعته وشكيمته ومهارته، ويعدونه أفضل في مجال القيادة من الأمير عثمان دقنة، الأكثر شهرة." كما يصف جاكسون تصميم النجومي على خوض المعركة ضد جيش الجنرال قرينفيل، بقوله: "وظلت رايات أمراء الدراويش ترفرف في وسط حرارة ذلك الصيف الحارق، تتحدى (بضعف شديد) ذلك الجيش المدجج بالأسلحة الفتَّاكة الموجهة نحوهم. وكان بعض مقاتلي الدراويش يتمنون لو كان بمقدورهم الفرار من المصير المحتوم الذي كان ينتظرهم، بينما تسرب الشك إلى نفوس بعضهم من صحة الدعوة التي هبوا من أجل نصرتها، وهل هي بالفعل تستحق منهم التضحية بالحياة. غير أنَّ ود النجومي بقي وحده هادئاً مطمئناً وثابتاً على موقفه. وخاطب قواده وأفراد جيشه بما يفيد أنه لا أمل في الانتصار، وطلب من كل من تسرب الشك أو الخوف إلى قلبه، أو من يريد التراجع عن قبوله بدعوة المهدية أن يغادر. أخبرهم بصريح العبارة أنه لا يستطيع أن يعدهم بأي أمل في النصر، غير أنه يعدهم بميتة الشهداء، وحياة مخلَّدة في دار النعيم، تنتظرهم إن هم بقوا على عهدهم وحربهم ضد عدوهم. ولوح بسيفه وهو يخبرهم بأنه لن يحيد عن الدعوة المهدية، أو يهجر مهمته المقدسة. وأحيت خطبته الحماسية تلك ما اندثر من أمل ورجاء عند مقاتليه، ولم يرض بالانسحاب من ساحة المعركة سوى خمسمائة منهم." لكن مثل هذه الشجاعة الخارجة عن المألوف تعطي انطباعاً بأن القائد الذي ينطلق من منصة أيديولوجية في أغلب الأحيان تغيب عن ذاكراته الرؤية الاستراتيجية في الحرب وفنها؛ لأن الحرب ليست غايةً في ذاتها، بل وسيلة لتحقيق مكسب سياسي استراتيجي، فإذا كانت الهزيمة محسومة سلفاً فلا داعي إلى خوضها؛ لأن الهزيمة تفضي إلى ضياع الهدف الذي من أجله أُسست فكرة الحرب نفسها. ومن زاوية أخرى نلحظ أن المؤلف قد سخر من شجاعة بعض السُّودانيين المقاتلين، لأنها من وجهة نظره كانت شجاعة تدل على عدم "المبالاة وعدم الاكتراث، وهذا ما أحدث قلقاً كبيراً عند قادتهم". ويستشهد في ذلك بحادثة مأساوية كانت ضحيتها أحد الهدندوة، استلقي "على ظهره إلى جانب قنبلة لم تنفجر.. [ثم] أخذ عصاً صغيرة، وطفق ينقر على القنبلة إلى أن انفجرت فجأة فيه، ومزقته إرباً أمام ناظري ولده الصغير". ولا جدال في أن مثل هذه الحوادث تجمع بين الجهل من طرف وعدم المبالاة من طرف ثانٍ، دون أن تُصنف بأنها سلوك شجاع، كما يرى تور نوردنستام (Tore Nordenstam) في مؤلفه "الأخلاق السُّودانية" (Sudanese Ethics).
ثانياً، يعطى مؤلف (السُّودانيون المقاتلون) إشارة مهمة على قدرة السُّودانيين في إدارة حياتهم المدنية في ظل ظروف الحرب الصعبة وإفرازاتها السالبة، وإذ يذكر مدينة كسلا التي ظلت في "أيدي الإيطاليين لنصف عام كامل. غير أنَّه على الرغم من الأخطار والحرمان، واصل مجلس المدينة تحت قيادة السيد محمد عثمان الميرغني وشقيقه السيد الحسن الميرغني عمله بأفضل ما يمكن"؛ ومن جانب آخر يثني جاكسون على دور الإداريين السُّودانيين الذين تولوا مناصب إدارية-تنفيذية أثناء فترة الحرب، فمارسوا عملهم "بكفاءة واقتدار، فكانوا مصدر فخار لأنفسهم وفائدة للآخرين." ويقودنا هذا النجاح إلى طرح سؤال محوري: لماذا نجح السُّودانيون في إدارة شؤونهم الحياتية في ظل الإدارة الاستعمارية، وفشلوا في أداء الدور نفسه بعد أن نالوا استقلالهم عام 1956م، لدرجة جعلت الدكتور منصور خالد يصف النخبة منهم بإدمان الفشل؟ هل يُعزى فشل النخبة السُّودانية إلى قابلة العقل السُّوداني للاستعمار، كما يصف مالك بن نبي الشعوب التي عجزت عن تطوير بلدانها بعد خروج المستعمر الأوروبي؟ لكن الدكتور جعفر محمد علي بخيت (ت. 1975م) يبرر فشل النخبة السُّودانية بقوله: "الاضطراب وعدم الاستقرار السائدان في الحياة العامة [في السُّودان] ليس سببهما عوامل خلقية، أو قصور في الخيال، أو جموح إلى طلب السلطة، وإنما مرده إلى طبيعة عجز السلطة المركزية من خلق ولاء طاغي يجذب نحوه الولاء القطاعي، ويجعله يدور حول فلكه، ولا يسمح لقطاع معين بأن يسيطر عليه حتى لا يمحو قيمه العامة بقيم محدودة. والذي يعجز السلطة المركزية عن ذلك هو تشكيل القوى الضاغطة في المجتمع السُّوداني، وطبيعة تشكيلها الاجتماعي، ثم حاجة النظام البرلماني إلى سند شعبي، لا يتوفر إلا داخل تشكيلات هذه القوى بوضعها الراهن." لكن لا شك في أن هذا الاقتباس المرتبط بمبررات دكتور جعفر لفشل النخبة السياسية يحتاج إلى بحث أعمق، وفي فضاء أكاديمي آخر غير فضاء هذا التقديم.
ثالثاً، أشار المؤلف إلى شخصيتين مهمتين أثناء الحرب العالمية الثانية وانعكاساتها على شرق السُّودان. أولهما، إيفانز بريتشارد (Evans-Pritchard)، عالم الانثروبولوجيا البريطاني، الذي كان ملازماً للجنود السُّودانيين أثناء حركتهم في الأماكن التي احتلها الإيطاليون، حيث كان مشغولاً بجمع بعض المعلومات المرتبطة بدراساته الانثروبولوجية عن قبائل الزاندي، والأنواك، والنوير في جنوب السُّودان. وفي تلك الاثناء قام بريتشارد بدور "انثروبولوجي الحكومة" الاستعمارية؛ لوضع بعض الطرق المُحفِّزة للقبائل النيلية على الاشتراك في الحرب ضد الإيطاليين، ولكنه بعد انتهاء الحرب أضحى مهتماً بالذهاب إلى العمل الميداني دون الاستعانة بأي مرشدٍ، أو مخبرٍ، أو معاونٍ، محتجاً بأن مثل هذه التجربة تدفعه إلى تعلم لغة الأهالي، واستيعاب طرائق تفكيرهم، ومعرفة القيم الحاكمة لتصرفاتهم الأخلاقية، وتحدد مسارات سلوكهم الاجتماعي. ومن هذه الزاوية، يُعد إيفانز بريتشارد رائداً في مجاله؛ لأن أصدر جملة من الدراسات الانثروبولوجية الفاحصة التي أضافت بُعداً آخر لأدبيات المدرسة البنيوية الوظيفية.
أما الشخصية الثانية فهو الإمبراطور هيلا سلاسي (1892-1975م)، الذي فرَّ بعد احتلال الإيطاليين لإثيوبيا عام 1936م إلى الصومال الفرنسي، ثم ذهب إلى القدس تحت الانتداب البريطاني هو وعائلته، ثم ذهب بعد ذلك إلى جبل طارق، ومنه واصل رحلته إلى إنجلترا، حيث عاش في مدينة باث (1936-1941م). وفي طريق عودته إلى أثيوبيا عاد عن طريق السُّودان. وحسب رواية جاكسون قضى الإمبراطور الطريد عدة شهور بالقصر الوردي (Pink Palace) في الخرطوم، ثم تحرك إلى إثيوبيا في 21 يناير 1941م في عملية سرية تحت قيادة العقيد ساندفور، ودخل العاصمة أديس أباباً دخول الفاتحين، على ظهر حصان في 5 مايو 1941م، أي بعد خمسة أعوام من احتلال الإيطاليين لإثيوبيا. ونورد في هذا التقديم قصة عودة هيلا سلاسي عن طريق السُّودان وإقامته السرية في الخرطوم؛ لأنها من القصص التي لم تذكر في الأدبيات السُّودانية المعاصرة.
وفي ختام هذا التقديم، لا أخال أنَّ البروفيسور بدر الدين حامد الهاشمي يحتاج إلى إطراء معرفي، أو شهادة براءة في مجال الترجمة، بل يكفيه فخراً أنه قد ترجمَّ ونشر أكثر في ثلاثة عشر مجلداً في سلسلته المعروفة بالسُّودان بعيون غربية، فضلاً عن الترجمات القائمة بذاتها، والتي يتجاوز كمَّها الاثنا عشر كتاباً بين رواية أدبية ومؤلف تاريخي. وبترجمة وإصدار "السُّودانيون المقاتلون" (The Fighting Sudanese)، 1954م، يكون الهاشمي قد ترجم كتابين وفصول متعددة من كتب هنري سيسل جاكسون، البالغ عددها سبعة كتبٍ، وذلك باستثناء كتابه "سن النار: بعض الروايات عن مملكة سنار القديمة (Tooth of Fire: Being Account on the Ancient Kingdom of Sennar)، 1912م، والذي ترجمه الحاج سالم مصطفى؛ وكتابه "أيامي في السُّودان" (Sudan Days and Ways)، 1955م، الذي ترجمه السفير عوض أحمد الضو؛ وكذلك كتاب "قس على النيل: بعض الروايات لحياة لويلين ه. جوين ورسائله" (Pastor on the Nile-Being Some Account of the Life and Letters of Llewellyn H. Gwynne)، 1960م، الذي لم يترجم بعد. وبهذه الإصدارات يكون الهاشمي قد أعاد جاكسون إلى دائرة الضوء، ووضعه في موضع يليق به بين رصفائه من البريطانيين الذين أصدروا أعمال ذائعة الصيت عن تاريخ السُّودان وتركيبته الاجتماعية، أمثال السير هارولد ماكمايكل (Sir Harold McMichael)، وأ. جي. أركيل (A.J. Arkell)، ورتشارد هل (Richard Hill)، وإيفانز برتشارد (Evans-Pritchard).
ahmedabushouk62@hotmail.com