السودان: أيام وعادات (2) بقلم: هنري سيسيل جاكسون .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]
السودان: أيام وعادات (2)
من كتاب: Sudan Days and Ways
بقلم: هنري سيسيل جاكسون
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: نشر البريطاني هنري سيسيل جاكسون، والذي عمل في مجال الخدمة المدنية في السودان لأربعة وعشرين عاما متصلة، وحكم مديريتي بربر وحلفا، كتابا يلخص تجربته في الحكم والإدارة، ويصف فيه عادات السودانيين في مختلف المديريات التي عمل فيها.
نشر الكتاب، والمعنون "السودان: أيام وعادات" Sudan Days and Ways عام 1954م من دار نشر ماكميلان في لندن، وأهداه المؤلف لزوجته، والتي قاسمته – كما قال- حلو الأيام ومرها، والحر والعواصف في سنوات خدمته في السودان. للمؤلف كتب عديدة عن السودان منها كتاب عن (السودانيون المحاربون)، وآخر عن (عثمان دقنة)، وكتب أخرى عن (السودان الحديث)، وعن (الزبير باشا تاجر الرقيق والسلطان)، و(راهب؟ على النيل) وكتاب عن سلطنة الفونج اسمه (سن النار). للمؤلف أيضا مقالات عديدة منها مقال عن (الأمثال السودانية)، وآخر عن "عادات الرباطاب" ، نشرهما في مجلة (السودان في رسائل ومدونات)؛ قمت حديثا بترجمة ونشر أجزاء منهما. في الفصل السادس من كتاب (السودان: أيام وعادات)، والذي اسماه المؤلف (أمدرمان)، يصف المؤلف المدينة، ويقارنها بالخرطوم العاصمة. والسطور التالية هي نزر قليل مما جاء في هذا الفصل. المترجم
رغم إن أمدرمان لا تفصلها عن الخرطوم سوى بضع دقائق، إلا أنه تفصلها عنها في الواقع مئات السنوات. أمدرمان مدينة أفريقية، بينما الخرطوم مدينة أوروبية. ضفة النهر شديدة الانحدار في الخرطوم، وتحفها بيوت جميلة مبنية من الطوب، ذات حدائق بهيجة، بينما تجد على ضفة النيل في أمدرمان شاطئاً حجرياً شديد الانحدار، مليئاً بجوالات الصمغ العربي والذرة والجلود وبضائع أخرى، يتكسب من بيعها وشرائها سكان تلك المدينة التجارية. إن خضرة الخرطوم تتناقض تماما مع منظر أمدرمان بأحيائها القاحلة، وشوارعها المتربة الخالية من الأشجار. لا تشابه البتة بين شوارع الخرطوم العريضة المنتظمة التخطيط، وأزقة أمدرمان الضيقة المتفرعة التي تحكي المتاهات، والتي لا يستبين لها المرء بداية أو نهاية. في أمدرمان تجد أكشاكا صغيرة، ومحال تجارية مبينة بالطين اللبن تضاء ليلا بلمبات الزيت أو الشموع، يقابلها في الخرطوم المحلات التجارية الواسعة التي يمتلكها ويديرها التجار الأوروبيون.
لا تقتصر الاختلافات بين المدينتين على الشكل فقط، ولكنها تشمل أيضا تباينا في نوع السكان الذين يقطنون فيهما. بالطبع كان هنالك سودانيون يقطنون في الخرطوم، وأوربيون يقطنون في أمدرمان، ولكن إن كان منظر الأفريقي غير المتمدن غريبا بعض الشيء في مدينة أوروبية كالخرطوم، فإن منظر الإداري البريطاني أو الكاتب المصري بطربوشه الأحمر يبدو أكثر غرابة في سوق أمدرمان.
لا توجد – ربما عدا في مكة- مثل تلك الأعداد الكبيرة من الناس ذوي الأصول العرقية المختلفة التي تقطن مدينة صغيرة الحجم كما في أمدرمان. فيها تجد الأتراك، والأرمن، والهنود، والسوريين، والفرس، وغرباء من دول شرق أوسطية مختلفة، وأوربيين من مختلف الدول، وفلاتة، وشعوب أخرى من غرب أفريقيا قدمت للحج، و"فزي وزي" (من شرق السودان. المترجم) وعرب، ونوبة، وقبائل نيلية، وزنوج، وبرابرة، وخليط متنوع من القبائل التي تكون سكان السودان الحديث.
إن الرحلة من الخرطوم إلى أمدرمان ليست فقط رحلة نهرية لا تزيد عن ميل واحد لمكان مختلف وأناس مختلفين. إنها رحلة تأخذ المرء لعصر يشابه عصر أسلافنا الإنجليز في مدينة لندن في القرن الرابع عشر الميلادي. تجد ذات الحواري الملتوية الضيقة، والتي وصفها "تشارلس بيندرل" في كتابه الشهير "الحياة في لندن في القرن الرابع عشر"، والأسواق المفتوحة للحوم والسمك والذرة الشامية وأساسيات الحياة الأخرى، وبقية البضائع التي يمكن فحصها تحت ضوء الشمس. تذكرني أسواق الجزارين والسماكين وسوق العيش (الذرة) في أمدرمان بما كان في لندن قديما في كورنهل، واوولد فش استريت (شارع السمك القديم)، وسينت نيوكلاس شامبلز (والتي كانت كنيسة في العصور الوسطى. المترجم). ونجد كذلك لسوق الفلاتة (الذين يصنعون الأحذية الجلدية)، وسوق الصاغة، وسوق الحدادين في أمدرمان ،نظراء في شوارع لندنية قديمة مثل سيلفر استريت (سوق الفضة)، وشارع تجار الحديد، وشارع كورد وينير.
كان كل أصحاب حرفة يمارسون نشاطهم التجاري في منطقة معينة من أمدرمان، وكان التشاحن الدائم هو الغالب على علاقاتهم مع بعضهم البعض، تماما كما كان يحدث في لندن قبل 600 عام، حيث كانت وسيلة التفاهم بينهم هي لغة السيوف والمدي والهراوات وأسلحة أخرى.
لا تقف أوجه المقارنات هنا. أثناء عملي لعامين كاملين كمفتش في أمدرمان كنت كثيرا ما أقابل بعض عواجيز النسوة المعدمات اللواتي كن يطلب مني أن اسمح لهن بعمل سقيفة صغيرة تظلل ما يعرضن من خضروات قليلة. كنت كثيرا ما استجيب لهذا الطلب العادي. زرت واحدة من هؤلاء النسوة بعد أيام قليلة من تركيبها لمظلة صغيرة من القش، ثم زرتها بعد ذلك بأيام فوجدت أن مظلة القش قد تطورت لمظلة قماشية مربوطة بأوتاد. اكتشفت بعد زيارة أخرى أن المظلة القماشية تحولت هي الأخرى لمظلة خشبية دائمة. كنت أعلم بأن طلبها المتواضع في البداية إنما كان مقدمة لبرنامج طموح. زرت تلك المرأة بعد شهور لأجد أن محلها محاط بكنبات متحركة. فسرت المرأة الأمر بأن زبائنها يأتون من مكان بعيد، ويكونون في غاية التعب عندما يصلون لمحلها، وطلبت مني أن أوافق لها على وضع تلك الكنبات المتحركة حول المحل. مرت أسابيع، فإذا بالكنبات المتحركة تغدو مقاعد طينية ثابتة تسد ممرات السوق. تعجبت جدا وأنا اقرأ في كتاب تشارلس بيندرل الشهير "الحياة في لندن في القرن الرابع عشر" لأجد ذات الوصف لما طلبته تلك المرأة مني، وكيف "تطورت" طلباتها مرة بعد مرة.
كثيرا ما كنت أمر بقرب النيل وأراقب الرجال يفرغون حمولات المراكب الكثيرة المتراصة من جوالات الذرة والصمغ وألواح الخشب. كنت أشاهد النساء وهن عاريات حتى خصورهن وهن يقمن بغسل الملابس بخبطها بقوة بحجر أو نحوه. تنشر بعد ذلك الملابس لتجف، وتكون بيضاء في مثل لون الجليد عندما تشرق عليها الشمس، وقد تتحول للون الرمادي إن غطاها ظل سحابة عابرة.
كانت هنالك أكوام هائلة من الصمغ العربي في السوق يعكف حولها شباب يقومون بعمليات فرز وتصنيف. وبقرب النيل ترى صيادين يصلحون شباكهم، ونسوة وصبايا في صفوف طويلة وهن يحملن أباريقهن ومواعينهن الفخارية الأخرى لملئها من النيل. يتحدثن مطولا مع صويحباتهن قبل أن يقفلن راجعات من حيث أتين. وعلى بعد بضع مئات الياردات تجد سوق العيش، حيث توجد تلال من الذرة (يصل طول بعضها لستة أقدام). يدخل البائع مقاسه الخشبي المستدير في وسط ذلك الكوم الهائل، بينما نظرات المشتري المتشككة تراقبه حتى يملأ المقاس كما ينبغي. يمسح بعض الباعة الذرة في المقاس حتى تغدو منبسطة ومتساوية مع حد المقاس الأعلى، بينما يناشده (يخصمه) المشتري (أو المشترية) بالله ورسوله أن يكون أكثر كرما. يقوم بائع آخر بترك قليل من الذرة على شكل المخروط وهو يستمع في سعادة لدعوات المشتري (المشترية) ويفرغ الذرة في كيسه.
في سوق الخضار تجد الباعة جالسين القرفصاء وينادون المارة على بضائعهم، فيقول الواحد منهم: "اصبر يا خوي...اتفضل...شوف البامية دي...ما بتلاقي زيها في السوق...الخ الخ." كانت بالفعل في هذا السوق أصناف عديدة من البضائع المتنوعة...تجد أسواط العنج، ومنتجات فخارية، ومشغولات يدوية من شعر الزراف والسعف، وتجد كذلك الأحجبة "الحجبات" والتمائم تتدلى من أسقف المحلات الطينية الصغيرة، وريش طائر البلشون الأبيض أو النعام (egret)؛ وقد منعت الحكومة مؤخرا بيعها. كل ذلك في مقابل البضائع الواردة من بيرمنجهام وطوكيو (في الخرطوم).
أحيانا أسير على شاطئ النيل في "أب روف" حيث المعدية التي تأخذك للضفة الشرقية، ومن هنالك يأخذك ترام يربط الخرطوم بحري بالخرطوم. في "أب روف" يسكن صانعو المراكب، الذين يصنعون مراكبهم دون الاستعانة بخرائط أو رسومات، بل يستخدمون المهارة الحرفية المكتسبة، وخبرة السنوات المتراكمة في صنع مراكب شراعية تمخر عباب الأنهار، وعلى ظهرها مئات الركاب وأطنان البضائع دون أن تغرق أو تنقلب. أعجب من هؤلاء القوم بأدواتهم البدائية، كيف يصنعون مراكب في غاية الجمال والقوة والأمان!
لا أحد يعلم علي وجه التحقيق أصل كلمة "أمدرمان". قال البعض إنها اسم لتلين صغيرين اسمهما "درمان"، فسميت القرية الواقعة بقربهما أم درمان. أشك كثيرا في هذا التفسير، وأميل إلى التفسير القديم الذي يقول إن المدينة سميت على أم رجل اسمه "درمان" أتى من الغرب قبل سنوات طويلة. يقال إنه حقق ثروة عظيمة، وكانت أمه تمتلك مراكب تنقل الناس بين أمدرمان وتوتي، وبين أمدرمان والحلفايا، وبين أمدرمان وما يعرف الآن بالخرطوم. كان ركاب تلك المراكب حين يسألون عن كيفية وصولهم يجيبون بأنهم حضروا بواسطة "أم درمان".
كانت أمدرمان قبل المهدية قرية صغيرة جدا قليلة الأهمية. كبرت تلك القرية في عهد الخليفة عبد الله، وتمددت على النيل لمسافة لا تقل عن ثمانية أميال، وبلغ عدد سكانها 400000 نسمة. تناقص عدد السكان بصورة فورية بعيد هزيمة الخليفة في معركة أمدرمان (كرري). نزح كثير من أولئك الرجال المحاربين المهزومين إلى أجزاء مختلفة من السودان. عاد المدنيون الذين كان الخليفة قد أمرهم بالهجرة إلى أمدرمان (بحمد الله) إلى قراهم، وكان كثير منهم قد فروا وتفرقوا في البلاد مع تقدم جيش كتشنر. بقي قبيل دخول كتشنر للخرطوم حوالي 50000 نسمة فقط في أمدرمان. فرضت حالة المدينة الفوضوية عقب دخول كتشنر لأمدرمان مشكلة عويصة للسلطة الجديدة ، والتي قابلت صعوبات كبيرة في تطوير المدينة وإعادة تعميرها.
شيد الأهالي آلاف المنازل على عجل بالطين اللبن دون كبير اهتمام بأي تخطيط أو اهتمام. يعاد وضع "الزبالة" كل عام قبيل موسم الأمطار على تلك المنازل فتغدو رائحتها كريهة لا تطاق. كانت الأحوال الصحية في المدينة بالغة السوء، وكانت أزقتها الملتوية تعيق الحركة، وتجعل من تطبيق النظام والقانون أمرا عسيرا، فكان بمقدور أي مجرم الهروب من الشرطة في تلك "المتاهات". كانت "فاطمة" هي أحدى أولئك المجرمين الذين صادفتهم في عملي الإداري في أمدرمان. يندر في ذلك الوقت أن تتهم امرأة بجرم ما يجعلها تقف أمام القاضي، باستثناء بعض النساء الجنوبيات اللواتي كن يتهمن بمخالفات بسيطة مثل المشاجرة مع الجيران، أو صنع "المريسة" دون تصريح رسمي، أو جرائم أكثر خطورة مثل تقطير العرقي. كانت فاطمة (وكانت قوية وطويلة وذات جسد رياضي) من المسترقات اللواتي تم تحريرهن بعد سقوط المهدية. ذاع بين الناس أنها كانت لصة تعتدي على بيوت الناس في الهزيع الأخير من الليل وهي عارية كما خلقها ربها، ومتمسحة بدهن لزج يجعل من الإمساك بها أمرا مستحيلا. في أحد الليالي هاجمت بيتا له حائط طويل، وبعد أن جمعت ما غنمته من ذلك المنزل، قفزت من ذلك الحائط الطويل، ولاذت بالفرار. انتبه أصحاب المنزل للص الذي قفز من حائطهم وقالوا لبعضهم: "لابد أن هذا اللص هو فاطمة." عوضا عن أن يجروا خلفها، فكر أحدهم وقال لهم لماذا نفاجئها في بيتها. وبالفعل جرى أصحاب البيت المسروق لبيت فاطمة وتخفوا فيه إلى أن آبت إليه تلك اللصة وهم تحمل كسبها العظيم، فتم القبض عليها.
لم تبدأ عملية إعادة تخطيط وبناء أمدرمان إلا عام 1909م نسبة لقلة الموارد المالية. قمت مع مهندس المساحة الاسترالي رودني بويس بتخطيط الشوارع الرئيسة في أمدرمان، وتقليلا للنفقات فقد احتفظنا بالشوارع العريضة الموجودة أصلا بالمدينة. لو كان الأمر بيدي لهدمت كل البيوت والطرقات الموجودة منذ المهدية، ولأعدت إعمارها من جديد. كان تخطيط المدينة في نهارات الصيف القائظة المغبرة أمرا يصعب احتماله، وخاصة مع تجمهر الأهالي بالمئات لمشاهدة ما يجري. كنت أعيش في بيت الخليفة الهادئ والخالي (والذي غدا متحفا فيما بعد)، ولم يكن فيه من ساكنيه القدامى غير قط وحيد آثر البقاء، وخادم من مسترقات الخليفة السابقات تعمل في جلب الماء من النهر. كان بيت الخليفة قد بني جزئيا من مخلفات قصر غردون الذي تم هدمه قبل سنوات. تمتعت ب"الهندسة السودانية" في ذلك البيت لسنوات، إذ كان الخليفة قد أمر ببناء نوافذ ضيقة في الجدران الأربعة حتى يتمكن من مراقبة ما يجري حوله دون أن يراه أحد.