السودان بين النفق المظلم والمستقبل المجهول

 


 

 


قال لي أحد المستمعين لمحاضرتي عن «قضايا ما قبل وبعد الاستفتاء»، التي نظمتها بكفاءة قبل أيام قليلة منظمة دلتا الطوعية التي يتولى رئاستها زعيم الهدندوة الشيخ أحمد محمد الأمين ترك، في مدينة كسلا الخضراء: لماذا تبدو متشائماً ولا تعطينا شيئاً من أمل؟ ورغم تعاطفي مع السائل الذي لا حيلة له في الأحداث التي تجري من حوله رغم انتمائه للحزب الحاكم ولم يجد في جعبته ما يرد به على أطروحتي التي وصفها بالمتشائمة قلت له بصدق لا يخلو من «مساخة»: ليس من مهام المحلل السياسي أن يبيع الناس الأحلام والأوهام، تلك مهمة يحذقها السياسيون من وزن الريشة وما أكثرهم في بلادنا! وقد باعوكم ما يكفي من الأحلام والأوهام حتى ما عدتم تعرفون الحقيقة وهي شاخصة بكل معالمها القاسية أمام ناظريكم. ولعلي أصبحت أميل إلى القسوة في التعبير عن الاحتمالات والمآلات المتوقعة رداً على بائعي الأحلام والأوهام وأملاً في أن يحفز ذلك بعض العقلاء من المسئولين في الدولة والسياسيين والنشطاء في الشأن العام أن يتداركوا الأمر ويتخذوا من الخطوات مهما بلغت قسوتها ما هو ضروري لتصحيح المسار حتى لا تقع النازلة الكبرى التي يمكن أن تؤدي إلى استشراء العنف واندلاع الحرب وتشظي البلاد من أطرافها. وقادة الحكم نائمون في العسل وعاجزون عن الحركة في الاتجاه الصحيح ويأملون في معجزة تنزل من السماء لتنقذهم من النوازل دون أن يفعلوا شيئاً!
يبدو أن السودان بعد عقدين من حكم الإنقاذ قد وصل إلى مرحلة فاصلة من تاريخه قد تعني وجوده أو لا وجوده، فهو مهدد من الجنوب بانفصال متوتر قد يقود إلى نزاعٍ وحرب بسبب الاختلاف على 20% من الحدود بين الشمال والجنوب، وقيام استفتاء تقرير المصير في موعده المضروب، ومن هم سكان منطقة أبيي الذين يحق لهم الاقتراع في الاستفتاء، والقضايا التسع العالقة التي نصّ عليها صراحة قانون الاستفتاء. والسودان مهدد أن تصبح المشورة الشعبية في كل من ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان بذرة لتمرد جديد يطالب بتقرير المصير أو بوضع يشابه وضع الجنوب في اقتسام السلطة والثروة ولا يقنع أهل الولايتين بمطالب محدودة لتحسين أوضاع المواطنين يتفاوض عليها مع الحكومة المركزية كما تقول اتفاقية السلام الشامل؛ ومهدد أن تنفجر دارفور مرة أخرى بعد أن يضرب لها الجنوب المثل في انتزاع استقلاله بالقوة والمعاضدة الدولية؛ وسيطمع أهل الشرق في تحسين اتفاقيتهم وتطبيقها بعد أن بلغ ضعف الحكومة ما بلغ. ولماذا يتفرج الآخرون وهم يشهدون بأعينهم كيف أن المطالب لا تنال بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا؟ وتضع تلك المهددات والاحتمالات مستقبل السودان في كف عفريت ولا يعرف أحد كيف تنتهي هذه الأزمات التي تحيط بالبلاد من كل جانب.
واكتشفت الحركة الشعبية أن المؤتمر الوطني نمر كبير من ورق يستجيب للضغوط الخارجية والداخلية أكثر مما يستجيب للمعاهدات والقوانين والمصلحة العامة، وآن لها أن تستأسد عليه وتسجل اعتراضاتها على سياساته ليس بالانسحاب من المجلس الوطني أو مجلس الوزراء كما فعلت سابقاً ولكن بالتهديد والوعيد أن تفعل ما تشاء دون أن تأبه لاتفاقية أو دستور ولتفعل حكومة الخرطوم ما تريد، وتستقوى الحركة في كل ذلك بالمجتمع الدولي الذي يناصرها ظالمة أو مظلومة ولا يسألها دليلاً على دعواها واتهاماتها ضد الحكومة. وكأني بالحركة تلوح بمواجهة مع الخرطوم قد تصل مرحلة النزاع المسلح، وتستعد لذلك بتسليح الجيش الشعبي بالدبابات والطائرات وتدريبه وانتشاره شمالاً إلى قرب الحدود مع ولاية النيل الأبيض، وبمحاولة توحيد جبهتها الداخلية في الجنوب بالعفو عن الضباط والمليشيات الذين تمردوا عليها وحملوا السلاح ضدها مثل جورج أتور وقلواك دينق ومليشيات التغيير الديمقراطي، وبتوقيف أعضاء المؤتمر الوطني في الجنوب واعتقالهم ومنعهم من الدعوة للوحدة، ولا غرابة أن بدأ قادة المؤتمر الوطني في الجنوب يهجرون المركب الغارقة زرافات ووحدانا فقد عجز الحزب العملاق عن حمايتهم والدفاع عنهم أو أن يرد على الحركة بذات القدر. وتظن الحركة الشعبية أنها في موقف تستطيع فيه أن تملي إرادتها على المؤتمر الوطني في كل القضايا العالقة بما فيها الحدود وأبيي والجنسية والبترول ومياه النيل. وينبغي أن تفهم تصريحات الفريق سلفاكير ميارديت الساخنة وغير المبررة ضد الحكومة في إطار التصعيد المقصود من أجل تعبئة شعب الجنوب للمرحلة القادمة قطعاً لأي أمل في الوحدة مع الشمال واستعداداً لمواجهة معه إن دعا الحال! والسؤال هو: ماذا سيكون رد المؤتمر الوطني على هذه التطورات الخطيرة الداخلية والخارجية التي أربكت كل حساباته وتوقعاته التي كان يتعلل بها؟ ولا يبدو حتى الآن أن هناك إستراتيجية بديلة لمحاولة استرضاء الحركة الشعبية والاستجابة للضغوط التي تقودها أمريكا ضد حكومة المؤتمر الوطني. تستطيع الحركة الشعبية أن تقول لأهل الجنوب أني جئتكم بالحرية والكرامة، وأن تاريخ النضال الجنوبي الذي بدأ قبل الاستقلال قد توج على يد الحركة الشعبية بميلاد دولة مستقلة في الجنوب مثل بقية دول القارة، وأنها دولة تتمتع بتعاطف المجتمع الدولي والجوار الإفريقي، وأنها دولة ذات موارد زراعية ونفطية ومائية هائلة. ولكن ماذا يقول المؤتمر الوطني لأهل الشمال خاصة إذا ارتبط الانفصال بنزاع وحرب؟ إن التهديد والوعيد الذي يطلقه بعض قادة الصف الثاني في المؤتمر الوطني ليس سياسة بديلة ولا تقسيم أدوار بين هؤلاء وأولئك، بل هو دليل على غياب سياسة بديلة وعدم تنسيق مزمن بين مراكز القرار الكبرى والصغرى الممتدة عبر كل أرجاء الوطن حتى جاز لهيئة علماء جنوب كردفان أن تحذر المواطنين من التعامل مع قانون المشورة الشعبية، وأن يهاجم أحد قيادات المؤتمر الوطني في غرب دارفور الحكومة المصرية لأنها تحاول تجميع بعض فصائل دارفور، وأن تقول بعض قيادات القوات المسلحة بعدم إمكانية إجراء استفتاء الجنوب إذا استمرت خروقات الجيش الشعبي على حدود النيل الأبيض. هل هذه الجهات مخولة قانونياً أو سياسياً للحديث في مثل ما صرحت به ونشر عنها؟
لقد كشف اجتماع نيويورك في نهاية الشهر الماضي لوفد الحكومة المفاوض أنها تقف معزولة في الساحة الدولية، وأن المطلوب منها هو الاستسلام الكامل لكل مطالب الحركة الشعبية في قضايا الحدود وإجراء الاستفتاء ومشكلة أبيي والجنسية مقابل وعود أمريكية «هايفة» وغير مضمونة، سبق أن قدمت للحكومة قبيل توقيع اتفاقية السلام الشامل ثم بعد اتفاقية أبوجا وهي تعرض حالياً للمرة الثالثة إن أجري استفتاء الجنوب وأبيي في موعدهما وأدى الأول لانفصال الجنوب وقبلت به الحكومة والثاني لضم أبيي لبحر الغزال دون مشاركة المسيرية أو ضمان حقهم في الأرض والمواطنة. وتستطيع الحكومة أن تستسلم كما تشاء لمطالب القوى الكبرى النافذة ولكنها لا تستطيع أن تجبر المسيرية على التنازل من حقهم في أرض آباءهم وأجدادهم، وقد قالوها كلمة صريحة وشجاعة في مفاوضات أديس أببا: لن يقوم استفتاء في منطقة أبيي لا نشترك فيه. والمطلوب من المؤتمر الوطني على عجل أن يراجع كل سياساته وتحالفاته وحساباته الفاشلة وتنازلاته المهينة حتى يستعيد للدولة هيبتها وكرامتها، وأن يدرك ألا بديل لقوة الجبهة الداخلية وتماسكها في مواجهة الأعداء المكشوفين والمتسترين.
 

 

آراء