السياسة البريطانية حيال “الأنصار” في السودان .. عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
السياسة البريطانية حيال "الأنصار" في السودان
British Policy towards the Ansar in Sudan
Gabeiel Warburg جبريل واربورج
عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
************* **********
تقديم: هذا عرض مختصر لما ورد في مقال بقلم البروفيسور (والخبير في الشأن السوداني) جبريل واربورج، نشر في المجلة البريطانية "دراسات الشرق الأوسط Middle Eastern Studies " في عددها الثالث والثلاثين عام 1997م عن سياسة المستعمر البريطاني تجاه "الأنصار" (والقصد بالطبع أتباع ومناصرو محمد أحمد المهدي وأحفاده إلى يومنا هذا). ولد المؤلف – بحسب سيرته الذاتية المبذولة في الشبكة العنكبوتية - في برلين بألمانيا عام 1927م وهاجر مع عائلته وعمره سبعة سنوات إلى فلسطين وبقي بها حتى عام 1946م حين أكمل دراسته بكلية للزراعة، ثم درس تاريخ الدول الإسلامية في الجامعة العبرية بالقدس (1961 – 1964م) واللغة العربية وآدابها في جامعة لندن، والتي تحصل منها أيضا في عام 1968م على درجة الدكتوراه بأطروحة عن "إدارة الحكم الثنائي بين عامي 1899 – 1916م". عمل بعد ذلك أستاذا في جامعة حيفا حتى تقاعده في عام 1996م. نشر الكثير من المقالات المحكمة و الكتب عن السودان ومصر ودول عربية وإسلامية أخرى منها هذا الكتاب الذي نعرض بإيجاز لفصل منه، وكتاب "إعادة الشريعة الإسلامية في السودان في عهد النميري The Reinstatement of Islamic Law in Sudan under Numayry " وكتاب بعنوان " الإسلام والقومية والشيوعية في مجتمع تقليدي: حالة السودان
Islam, Nationalism and Communism in a Traditional Society: The Case of Sudan " وكتاب آخر عن الطوائف الدينية في السودان والسياسة منذ عهد المهدية، وعدة مقالات عن الأخوان المسلمين وأنصار المهدي والحزب الشيوعي السوداني (قمنا بعرض قليل منها من قبل) وموضوعات متفرقة أخرى.
كاتب المقال
-------------------- ----------------
يعرض المؤلف في مقدمة بحثه للفترة التي أعقبت غزو السودان (أو إعادة احتلاله) بواسطة دولتي الحكم الثنائي، بريطانيا ومصر، بين عامي 1896 – 1898م، والذي وضع له، كهدف رئيس، القضاء على "المهدية" وكنس كل أثر لها، والقضاء على "التعصب /التشدد الإسلامي" وتشجيع "الإسلام التقليدي" الذي يحمل الأزهر رايته. لذا بدأ الحكم الثنائي الجديد دولته بتحريم اعتناق "المهدية" وكل أدبياتها التي كان على رأسها راتب الإمام المهدي (وهو "كتاب الأذكار" الذي يتكون من مجموعة من الأوراد يتلوها الأنصار عقب صلاتي الفجر والمغرب). زاد الحكام الجدد على ذلك بارتيابهم من كل الطرق الصوفية، إذ أن منبع "مهدية" السودان كان في الأصل صوفيا، واستثنوا من ذلك الطريقة الختمية (التي بزغت في السودان في يونيو من عام 1881م) بزعامة السيد/ علي الميرغني، والذي عارض المهدية منذ قيامها فلقي من الحكام الرضا والترحيب والسند. يختلف هذا القول عن ما أورده بروفسور حسن أحمد إبراهيم في مقالة له مبذولة على الشبكة العنكبوتية عن "الحركة الوطنية السودانية" من أن الحكومة لم تعترف حتى بالطريقة الختمية التي كما كتب:"عادت المهدية عداء واضحا وصريحا، ويبدو أن المحرك الرئيس وراء هذه السياسة العلمانية كان يستمد شرعيته من توجه الحكومة البريطانية القاضي بتطبيق مبدأ فصل "الكنيسة عن الدولة".
حرص المستعمرون الجدد أيضا على منع التبشير المسيحي في شمال السودان خشية من مغبة ما يمكن أن يحدثه ذلك من تداعيات سلبية في أوساط السكان المسلمين.
كانت سياسة الحكم الثنائي تجاه الطوائف والطرق الدينية تماثل السياسة التي كان يتبعها الحكم التركي السابق للمهدية في القرن التاسع عشر. فالوظائف الدينية العليا (مثل منصبي قاضي القضاة والمفتي) كانت حكرا على علماء الدين المصريين، وكان يبعث بأبناء زعماء القبائل للقاهرة لتلقي العلم الشرعي في الأزهر، ليعودوا لديارهم كقضاة أو علماء دين. وزيادة في الحرص على منع التطرف والتشدد الديني أقاموا مجلسا لعلماء الشريعة مهمته اسداء النصح للحكومة في كل الأمور المتعلقة بالشؤون الدينية للسكان. تم كل هذا بتخطيط من دولتي الحكم الثنائي دون أن تنتبه بريطانيا لحجم التأثير المصري على الدين الإسلامي ومعتنقيه من السودانيين. فاستأثر البريطانيون بالمناصب السياسية والاقتصادية والأمنية بالبلاد، وتركوا بقية الشؤون للمصريين، وظل ضباط وجنود مصر يختلطون بأفراد المجتمع السوداني المسلم، وتزوج بعضهم من سودانيات، وغدوا يؤثرون باحتكاكهم اليومي، وبصحفهم وكتابهم على السودانيين واتجاهاتهم وطرائق تفكيرهم. ازداد ذلك النفوذ المصري مع تنامي الشعور الوطني المصري، وهو الأمر الذي دعا ونجت باشا (حاكم عام السودان بعد كتشنر، بين عامي 1899 – 1907م) للتنبيه على خطورة الأمر، فقام القلم السياسي (Sudan Political service, SPS) والمكون من صفوة من خريجي الجامعات البريطانية في عام 1907م بإجراءات مضادة لكبح تنامي النفوذ المصري، فالتفت أول ما التفت لأنصار المهدي الذين كانوا يرون دوما في مصر (وتركيا) عدوا لدودا سبق لهم أن أعلنوا الجهاد ضده، وبدأوا في عام 1908م في تخفيف القيود التي كانوا قد فروضها على عائلة المهدي، وصاروا يعدون تلك العائلة حليفا محتملا لهم فأذنوا للسيد عبد الرحمن (ابن محمد أحمد المهدي) بتجميع أنصاره في طريقة دينية. كان السيد عبد الرحمن رجلا واقعيا يعلم تمام العلم حدود قدرته ونفوذه فلم يحاول أبدا أن يصطدم بالسلطات الحاكمة، بل طلب ونال في عام 1908م قرضا من الحكومة كي يقوم بإعادة بناء مسجد المهدي الذي كان الجيش الغازي قد هدمه، وسمح له أيضا في ذات العام بزراعة أرض الجزيرة أبا (حيث انطلقت أول شرارة للمهدية في عام 1881م) فاكتسب بذلك مصدرا عظيما للثراء، إضافة إلى تقوية مركزه كإمام للأنصار. لم يكف السيد عبد الرحمن في كل مناسبة عن التعبير عن جنوحه للسلم وعن امتنانه لحكام السودان، وعن معارضته لكل من يحاول مناوءتها. فعلى سبيل المثال قام الأمير عبد القادر محمد إمام ود حبوبة في أبريل من عام 1908م في مديرية النيل الأزرق بمحاولة للثورة ضد المستعمرين وإعلان دولة المهدية، بيد أن السيد عبد الرحمن أفلح في إقناع السكرتير القضائي للحكم الثنائي وهيئة العلماء بأن الدعوة المهدية براء مما يدعوا له ود حبوبة، وأن هذه الدعوة التي يمثلها يجب أن لا تحمل وزر ما قام به ذلك الأمير الثائر (أشار المؤلف هنا لما كتبه البروفسور حسن أحمد إبراهيم عن "انتفاضات المهدية" بين عامي 1900 – 1927م في المجلة العالمية للدراسات التاريخية الأفريقية الصادرة في عام 1979م، ولما كتبه رجل المخابرات سي ويليس قبل ذلك بكثير في مجلة السودان في رسائل ومدونات الصادرة عام 1921م عن ذات الموضوع).
قرر السير ونجت باشا في عام 1915م أن يبعث بالسيد عبد الرحمن للجزيرة أبا ومناطق تجمعات الأنصار الأخرى كي يقوم بتعبئة أفراد هذه الجماعة وحشدهم لتأييد بريطانيا في الحرب العالمية الأولى، بيد أنه لم ينس أن يحذره من مغبة استغلال هذه السانحة للدعاية للمهدية. لم تكن مهمة السيد عسيرة أبدا، فقد كان غالب السودانيين على كل حال يكرهون الترك وتركيا (خصم بريطانيا وحلفائها في تلك الحرب) نسبة لما لقوه على ايديهم إبان حكمهم للسودان. أكدت جولة السيد عبد الرحمن تلك عمق إخلاصه للبريطانيين، ولكنها أكدت أيضا عمق إخلاص الأنصار له كإمام (جديد)، فاستدعاه البريطانيون لأمدرمان في العام التالي (1916م) ومنعوه من تنظيم جماعة الأنصار، بيد أنهم في ذات الوقت علموا بتعيينه لنواب ووكلاء له في مناطق تجمع الأنصار ليكونوا عينا للحكومة في الابلاغ عن أي نشاط غير قانوني، وليكونوا حلقة الوصل بينه وبين السلطات في مناطق تجمع الأنصار، وغضوا الطرف عن عدم إبلاغه للسلطات بما يقوم به هؤلاء الوكلاء من رعاية مصالحه الدينية والتجارية الحيوية في مناطق نفوذه تلك، إذ كانوا يجمعون من السكان ضرائب الحكومة ومكوسها، ويجمعون في ذات الوقت "صدقات" للسيد عبد الرحمن دون إذن من الحكومة، ويوزعون عليهم "راتب المهدي" الذي سبق منعه من التداول.
بذا حصد السيد عبد الرحمن – بطرق مباشرة وغير مباشرة- فوائد جمة من حملة البريطانيين على مصر والمصريين في السودان قبل وبعد الحرب العالمية الأولى. وكتعبير عن الشكر والامتنان والولاء قدم السيد عبد الرحمن سيف والده للملك جورج الخامس ملك بريطانيا العظمى، وذلك خلال زيارة زعماء السودان (برئاسة السيد علي الميرغني) للندن لتقديم فروض الولاء والطاعة والتهنئة بالانتصار في الحرب العالمية الأولى في عام 1919م. كان ذلك إيذانا ببدء عهد جديد من التعاون بين الأنصار وزعيمهم مع حكام السودان الفعليين، وباعتبار الأنصار طائفة حليفة مهمة لهم، وصار السيد عبد الرحمن زعيما معترفا به من قبل الحكومة وسمح له أيضا بتوزيع "راتب المهدي" دون عوائق.
كتب شارلس آرمين ويليس (قائد المخابرات البريطانية في السودان) كثيرا من التقارير عن تلك "المصالحة" بين الأنصار والحكومة، وعن فوائدها للطرفين، وعن بدء مرحلة "المهدية الجديدة" بيد أنه عزل من منصبه في عام 1926م، وخلفه في المنصب ريجلاند ديفيس والذي اتسم عهده بشكوك كثيرة، بل بعداء ضد السيد عبد الرحمن و"المهدية الجديدة" هذه، ربما بسبب انتفاضة اندلعت في نيالا بدارفور في عام 1921م (كان الفكي عبد الله السحيني على رأس تلك الانتفاضة، والتي هدفت لإحياء المهدية، ومعارضة للحكم المركزي المباشر والضرائب الباهظة) وظهور من آمنوا بالعيسوية (ظهور النبي عيسى لينقض على الدجال وينقذ الدعوة المهدية). يرجع الكاتب الخلاف بين رجلي المخابرات ويليس وديفيس جزئيا لاختلاف شخصيتي الرجلين، فالأول تخرج في جامعة أكسفورد بينما تخرج الثاني من جامعة كمبردج، والتنافس بين الجامعتين العريقتين معلوم ومشهود. أهم من ذلك، وبكثير جدا، أن ويليس كان يعد "المهدية الجديدة" (مثل الطرق الصوفية) من مألوف ممارسات السودانيين الدينية، ولا خوف منها ولا خطر، بينما كان ويليس يراها بداية لحركة دينية/سياسية راديكالية متطرفة ينبغي وأدها في مهدها. عمل ويليس في مناطق كردفان ودارفور بين عامي 1912 – 1924م، وهي مناطق كان تعدها حكومتي "التركية السابقة" و"العهد الثنائي" مناطق يسودها التخلف الشديد وتقع دوما لقمة سائغة للتعصب والتشدد الديني، إذ منها نبتت أغلب الثورات المهدوية وانتفاضات "النبي عيسى" في السودان في القرن العشرين. كان ديفيس يرى ذلك كله ضمن رؤيته المتشائمة والحذرة للمهدية الجديدة، إذ كان الرجل قد عمل في دارفور إبان حدوث انتفاضة نيالا في عام 1921م (والتي كانت أسوأ انتفاضة شهدها ذلك القرن في السودان منذ استعادة المستعمر حكم السودان)، وكان لا يرى اختلافا بين "المهدية الجديدة" وبين انتفاضة "النبي عيسى" وغيرها من الانتفاضات والحركات رغم أن السيد عبد الرحمن كان قد أدان كل تحرك شعبي أو ديني ضد الحكومة. تواصل الخلاف في الرأي بين رجال البريطانيين في أمر قانونية "المهدية الجديدة" وخطورتها، ومدي اختلافها عن (أو تشابهها مع) الطرق الأخرى الصوفية المسالمة دوما. تمخض ذلك الخلاف عن حظر "الحج" للجزيرة أبا في عام 1922م، ومنع وكلاء السيد عبد الرحمن في المناطق المختلفة من العمل خاصة في مجال جمع "الصدقات" له. لم تجد تلك الاجراءات نفعا إذ أن السيد عبد الرحمن كان يجد دوما وسائل مختلفة ومبتكرة للالتفاف حول اجراءات الحكومة. ابتسمت الأقدار لذلك السيد بمقتل السردار استاك في الخرطوم في نوفمبر من عام 1924م إذ أحس البريطانيون (مجددا) بأهميته في مواجهة النفوذ والدعاية المصرية. كان السيد عبد الرحمن على العهد فطاف مناطق الجزيرة داعيا الناس للوقوف مع الحكومة وتجاهل الدعاية المصرية. وبعد طرد القوات المصرية من السودان عام 1925م أنشأ المستعمر البريطاني قوة دفاع السودان، وفي باله احتمالية قيام الأنصار بانتفاضة ضد الحكومة، فحرص على استبعاد أي فرد يشك في ولائه للأنصار من الالتحاق بتلك القوة.
في عام 1926م حاول السير جفري آرشر حاكم عام السودان استرضاء السيد عبد الرحمن فأوصى بمنحه لقب فارس الإمبراطورية البريطانية (سير) باعتباره رجل الإدارة البريطانية المخلص في السودان، بل وقام بزيارة رسمية للجزيرة أبا في 14/2/ 1926م حيث استقبله السيد عبد الرحمن مع نحو 1500 من أنصاره. بيد أن سياسة السيد آرشر المتساهلة والمتسامحة اصطدمت بموقف متشدد من "مجلس الحاكم العام" و فيهم السكرتيرين الثلاثة (هارولد ماكمايكل وجورج شوستر وواسي استري) وبموقف رجل المخابرات القوي ريجلاند ديفيس. عارضت هذه المجموعة موقف الحاكم العام، بل وأجبرته على الاستقالة، بينما تم نفي قائد المخبرات (المتساهل مع المهدويين) ويليس إلى أعالى النيل بجنوب السودان وعين ريجلاند ديفيس المتشدد ضد "المهدية الجديدة" مكانه.
رغم أن موجة العداء للمهدية الجديدة كانت قد انتصرت على الورق وفي مكاتب الحكومة وأروقتها، إلا ان المنتصر الحقيقي على الأرض كان هو السيد عبد الرحمن، فهو قد نجح في مواصلة دعوته وتأكيد زعامته كإمام للأنصار. ولفهم الأسباب التي أدت لنجاحه يجب معرفة طبيعة وتركيبة هؤلاء الأنصار، وهم على ثلاثة أنواع.
1. النوع الأول هم من المؤيدين للمهدية بحكم الانتماء القبلي، وتأييدهم للسيد عبد الرحمن مبعثه في الأساس إيمان راسخ لا يتزعزع (ويصل لحد التعصب) بصحة المهدية وصدق مؤسسها، وغالب هؤلاء من الغرب (ذكر المؤلف أنهم من "الفلاتة"، وهذا فيه نظر، ولعل المؤلف يطلق كلمة "فلاتة" بحسب الاصطلاح العامي السوداني على كل من هاجر من غرب أفريقيا ونيجيريا بالذات بما فيهم الهوسا والفولاني والبرنو والبرقو وغيرهم). هاجر عدد كبير من هؤلاء "الفلاتة" إلى الجزيرة أبا للحاق بالسيد عبد الرحمن، وزادت أعداد منازلهم في الجزيرة أبا من 1000 إلى 4500 منزلا في عام 1935م، وبلغ عدد الحجاج من غرب أفريقيا إلى الجزيرة أبا نحو 15000 كل عام، وعن طريق هؤلاء نجح السيد عبد الرحمن في التغلغل إلى مديريتي كردفان ودارفور (والتي كان ممنوعا من السفر إليهما) وخلق قواعد أنصار له ووكلاء فيهما، وفي استغلال هؤلاء السودانيين و"الفلاتة" كأيدي عاملة رخيصة في مزارعه الواسعة التي منحتها له الحكومة حيث انتشروا في قري في النيل الأزرق وكسلا وأرض الفونج و النيل الأبيض.
2. النوع الثاني كانوا مجموعات متقدمة (بزعم الكاتب بالطبع) من القبائل التي تعيش على ضفاف النيل ومنهم شيوخ وعمد، وهم كانوا يؤيدون السيد عبد الرحمن بسبب ثرائه ونفوذه في تلك الأيام، وربما بذات القدر أو أقل من أجل تأثيره الديني الدعوي. ونال السيد عبد الرحمن ثقة وسند هؤلاء الشيوخ والعمد من رجال الإدارة الأهلية عندما وقف بجانبهم في نزاعهم مع السلطات في أمور المكوس والضرائب، وبدعوتهم لولائم باذخة في أمدرمان وأبا! جعل السيد عبد الرحمن من نفسه وسيطا بين الطرق الصوفية المختلفة فكسب ودهم جميعا. فقد توسط مثلا لحل المشكل الذي برز عند اختيار شيخ الطريق السمانية، وقدم عونا ماليا كبيرا للطريقة الاسماعيلية في كردفان.
3. النوع الثالث كان من سكان المدن الكبيرة كالخرطوم وأمدرمان والخرطوم بحري، وكثير من هؤلاء كانوا ما يزالون يحتفظون بعلاقاتهم التقليدية مع قبائلهم الأصلية أو طرقهم الصوفية، ولا يمكن استمالتهم بذات الطرق التي استخدمها السيد عبد الرحمن في المناطق الريفية. شمل هؤلاء صفوة من المتعلمين الشماليين من ذوي الإسلام (الراقي/ المتطور sophisticated بحسب زعم المؤلف!) ومن غير المؤمنين بأمور تؤخذ في الأرياف على محمل الجد والتصديق مثل الشيوخ و الكرامات والفكي الخ. هؤلاء كانوا يؤيدون السيد عبد الرحمن لأسباب سياسية في الغالب، بينما قابلهم هو بالعون المادي المتمثل بالمساعدة في إكمال الدراسة ونيل الوظائف الحكومية عقب التخرج وغير ذلك من المغريات. ويجدر بالذكر هنا حرص السيد عبد الرحمن على أن يتلقى أبناءه وأحفاده وأقربائه تعليما دينيا متينا، وكذلك تعليما غربيا عاليا في السودان وخارجه (لعل السيد علي الميرغني زعيم طائفة الختمية قد سعى ذات المسعى، ولكن هنا تنتهي أوجه المقارنة والشبه!).
يمكن القول بأن السياسة البريطانية المترددة والمتذبذة حيال السيد عبد الرحمن ومهديته الجديدة قد مكنت له من أن يغدو من أثرى أثرياء السودان، وأن يصبح زعيما لا يمكن الاستغناء عنه في مجال الحكم والسياسة السودانية. بيد أنها (وربما عن غير قصد) كرست أيضا للطائفية، إذ أنها دفعت المنافس اللدود للمهدية وزعيم الختمية السيد علي الميرغني دفعا إلى أحضان المصريين. ومع قرب حلول الاستقلال (بين عامي 1953 – 1955م) أصبحت المنافسة الحقيقية هي بين أحزاب سياسية هي في الواقع محض غطاء لجماعات دينية، وذهب أمل الحكم البريطاني في "فصل الدين عن الدولة" أدراج الرياح.
ختم المؤلف مقاله باستعراض مطول (من 10 صفحات) لما كتبه بعض المؤرخين الغربيين والسودانيين (في أعوام سبعينات القرن الماضي وما بعدها) عن المهدية الجديدة، وعن الطائفية وتداخل الدين والسياسية في السودان. من الأسماء التي استعرض كتاباتها الخبير بالشأن السوداني بيتر وودوارد (أستاذ العلوم السياسية بجامعة ريدنق البريطانية) والذي كان يرى أن المهدية كانت ميتة بالفعل عندما غزا المصريون والبريطانيون السودان، ولكنهم أحيوها بسياساتهم. خص المؤلف بالذكر أغزر الغربيين إنتاجا عن الحكم الثنائي في السودان وهو بروفسور مارتن دالي M. Daly (والذي عمل أستاذا للتاريخ في عدد من الجامعات منها جامعة ممفيس الأميركية) وكتابه المعنون "امبراطورية على النيل" وكتابه الآخر "السودان في عهد الاستعمار الثنائي بين عامي 1934 – 1956م"، وسجل ما كتبه عن دور رجل المخابرات "سي ايه ويليس" في تثبيت السيد عبد الرحمن كمؤسس لمهدية جديدة، ونقل ما كتبه مارتن دالي ساخرا من أن أنصار السيد عبد الرحمن كانوا يعتقدون بأن طواف السيد عبد الرحمن في أرض الجزيرة في عام 1915م (بطلب من حاكم عام السودان لغرض الدعاية لبريطانيا في حربها العالمية الأولى) ووصف أنصاره له بأنه "المهدي الجديد" وبأن ظهوره كرامة من الكرمات أو معجزة إلهية، فكتب يقول: "ليس الرب، بل سي أيه ويليس هو صاحب نظرية "المهدية الجديدة" والسياسة الجديدة التي اقتضتها". بالطبع أتى من بعد ويليس من شكك في أهمية السيد عبد الرحمن، ومن قال بأن "بريطانيا غزت السودان انتقاما من المهدي الذي قتل غوردون، وليس من أجل أن تمجد ابن القاتل".
نقل المؤلف آراء متباينة عن ذات الموضوع لعلماء سودانيين هم دكتور منصور خالد وبروفيسور حسن أحمد إبراهيم وبروفيسور عوض السيد الكرسني، فأتى على ذكر بعض ما كتبه الدكتور منصور خالد في سفره الموسوم The government they deserve والذي صدر في عام 1987م، والذي شدد فيه على أن المستعمرين تبنوا سياسيات تعاون مع بعض رموز المجتمع السوداني (دون غيرهم) أحدثت انقسامات خطيرة في ذلك المجتمع. أشار الدكتور منصور خالد أيضا إلى أن أصول الطائفية في السودان سبقت ظهور المهدية، وأنها ازدهرت من بعد ذلك لأسباب ليست لها علاقة بالإيمان بالقيم الأخلاقية التي تدعو لها تلك الطوائف، أو بزعاماتها، وأن الزعامات الطائفية استغلت الدين كوسيلة للوصول إلى دست الحكم.
أشار المؤلف لكتابات بروفيسور حسن أحمد إبراهيم المؤرخ وصاحب الكتابات الكثيرة عن "المهدية الجديدة"، والذي تتبع ظهور السيد عبد الرحمن المهدي منذ أن كان شابا صغيرا خامل الذكر obscure حتى لمع نجمه وغدا واحدا من أهم رجال السودان الحديث في عالمي السياسة والمال، وتطرق إلى الصراع بين رجال المخابرات البريطانيين حول سياسة "المهدية الجديدة" المثيرة للجدل. كان الكثيرون من كبار الإداريين البريطانيين (من أمثال ماكمايكل) ينظرون نظرة ملئها الشك وعدم الرضا للسيد عبد الرحمن، وامتد هذا الشك إلى الحكام البريطانيين في نيجيريا والذين أتهموا السيد عبد الرحمن بتشجيع من ثار ضدهم من المسلمين هنالك وتعيينهم كوكلاء له في ذلك البلد من أمثال ملام سيد حياتو أحد أحفاد الشيخ عثمان بن فودي (1754 – 1817م، مؤسس خلافة سوكوتو في عام 1809م). أبرز هؤلاء رسائل زعموا أنها من السيد عبد الرحمن لوكلائه في سوكوتو وبورنو وغيرها لحثهم للجهاد والثورة المرتقبة ضد "الحكام المسيحيين". دافع رجل المخابرات "ويليس" عن السيد عبد الرحمن في مذكرة مرتبكة من عشرين صفحة وزعم أن تلك الرسائل قد زورها "أعداء السيد عبد الرحمن" للوقيعة بينه وبين الحكومة.
يصف بروفيسور حسن أحمد إبراهيم السيد عبد الرحمن بأنه زعيم يتصف بالحذر والبرغماتية (الواقعية/ الذرائعية)، وأنه أدرك أنه، وتحت سلطة الحكم البريطاني، فلا مندوحة له غير أن يبدو "معتدلا/ وسطيا"، وأن طوافه على مناطق الجزيرة (والذي كان كما ذكرنا آنفا بطلب من السير ونجت في عام 1915م) والترحاب والتأييد الذي وجده من السكان هنالك يعد دليلا (في نظر البروفيسور حسن بالطبع) على أن جذوة المهدية كانت ما تزال حية في النفوس رغم ما تقوله وتفعله السلطات الاستعمارية.
أورد المؤلف تلخيصا لبحث البروفيسور عوض السيد الكرسني المنشور في مجلة "الشؤون الأفريقية" عام 1987م عن ترسيخ "المهدية الجديدة" في غرب السودان والذي يناقض ما يزعمه رجل المخابرات "ديفيس" المتشكك في ولاء السيد عبد الرحمن وتخوفه من "مهديته الجديدة"، ويرى أنه ومن واقع ما كتبه حكام دارفور وكردفان من البريطانيين في تلك السنوات، أن السيد عبد الرحمن كان عاملا مهدئا بل كابحا لجموح المتعصبين والمتشددين المتطلعين لثورة أو انتفاضة دينية ضد الحكم الأجنبي في السنوات العصيبة بالنسبة للحكم الثنائي بين عامي 1915 – 1925م، وأن السيد عبد الرحمن قنع بالمصالحة مع الجماعات الصوفية (المسالمة؟) مثل الطريقة التجانية التي نشأت أول ما نشأت في المغرب ودخلت للسودان من دول الجوار الغربي. كان المستعمر البريطاني ينظر لتك الطريقة (ورغم أنها تعاونت مع حكومة المستعمر ضد "المهدية الجديدة") نظرة شك وريبة أيضا، ويعتقد أنها عميلة لقوى أجنبية معادية مثل الفرنسيين أو الألمان أو متآمرين إسلاميين أو حتى شيوعيين (بولشفيك)!!!! كان كثير من زعماء الطريقة التجانية يبغضون المهدية ويرغبون في عهد من الدعة والسكينة والاستقرار (millennium) فلهم تقديراتهم وتفسيراتهم ونظرتهم المختلفة عن المهدويين. كان السيد عبد الرحمن، وخلافا لغيره من المتشددين (مثل قواد انتفاضات "النبي عيسى" وغيرهم)، يدعوا للتعاون مع الحكومة، ويأمر أتباعه بتجنب العنف وانتظار "الإشارة". يعتقد البروفيسور الكرسني أن نشوء ورسوخ "المهدية الجديدة" في غرب السودان لا علاقة له بسياسات الحكومة المتذبذة، ولكنها تأتت بسبب موقف السيد عبد الرحمن المعتدل وسعيه لمهدية جديدة مسالمة ومؤيدة للحكومة، في مقابل موقف معارضيه من غلاة المتشددين المتعصبين. برأ بذلك البروفيسور الكرسني السيد عبد الرحمن من "تهمة" محاولة التآمر مع المهدويين في غرب السودان وفي نيجيريا لإشعال فتيل الانتفاضة والثورة (الدينية) ضد الحاكم المستعمر، وخلص إلى أن أمر "مهدية" السيد عبد الرحمن في القرن العشرين و"مهدية" والده في القرن التاسع عشر لمختلف جدا.
ختم البروفيسور جبريل واربورج مقاله بالقول بأنه من السذاجة تصور أن حاكما مسلما (ويشمل هذا ابن المهدي وغيره) يمكن له أن يتخلى عن رسالته الدينية أو طموحه السياسي (فهما تؤمان ايديولوجيان لا ينفصلان)، وأن محاولات صغار رجال المخابرات البريطانية في بواكير سنوات الاستعمار لفصل الاسلام عن السياسة كان خطأ عظيما في السودان وفي غيره من البلدان الاسلامية الأخرى. وكدليل على ذلك أشار المؤلف لطائفة الختمية (والتي عدها المستعمر مثالا للطائفة الدينية المسالمة التي لا ناقة ولا جمل لها في السياسة) والسيد علي الميرغني (والذي حسبه البريطانيون مثالا للقائد المسلم غير السياسي) والذي فاجأ الحكم الثنائي وقفز إلى "عربة السيرك bandwagon" في الوقت المناسب تماما!
مما يستفاد من هذا البحث التاريخي (خاصة لغير المتخصصين من أمثالنا) هو نقل المؤلف بحياد ملحوظ للوقائع التاريخية التي حدثت في الفترة التي شملها البحث، وذكره للآراء المختلفة التي نشرها بعض علماء السياسة التاريخ من السودانيين والأجانب، رغم أن الطريقة التي كتب بها هذا البحث بدت لي (كطالب علم في مجال العلوم الطبيعية) غريبة بعض الشيء، إذ أن المؤلف هنا كتب في بداية بحثه (وفي ستة صفحات فقط) ما يريد أن يقوله هو في موضوع البحث، وأعقب ذلك (وهنا الغربة) باستعراض ما كتبه متخصصون آخرون (في أكثر من عشرة صفحات) في ذات الموضوع، بينما يتوقع المرء عادة أن يبدأ المؤلف بما سجل في أدبيات الموضوع عند من سبقه من الباحثين، ثم يعقب ذلك برأيه في الموضوع.
كذلك يلاحظ المرء فرقا واضحا بين ما يكتبه بعض المؤرخين السودانيين باللغتين العربية والإنجليزية عن ذات الموضوع، فبينما تجد كتابات بعضهم بالعربية أقرب للكتابة الصحفية "الشعبية"... تنضح بمشاعر "وطنية؟" فياضة، وتسبغ على من شاركوا في صناعة الأحداث من ساسة وقادة وزعماء السودان صفات بطولية وخصال مجيدة، بل وتخفي كثيرا من الوقائع التاريخية التي قد تسبب بعض "الحرج" لبعض من هؤلاء الزعماء والقادة، تجد كتابات نفس المؤرخين باللغة الإنجليزية أكثر حيادا وأشد رصانة والتزاما بأصول الكتابة الأكاديمية. وكأني بهم يتبعون – خطأ بالطبع- الحديث الضعيف الذي يفيد بأن " نُكلِّمَ الناسَ على قدْر عقولِهم"، إذ أن هذا في نظري المتواضع أمر لا يليق، ويقدح في مهنية المؤرخ وصدقيته، ويشبه – للأسف- ما يفعله بعض الصحفيين العرب في المهجر حين يستضافون في برامج الحوار في القنوات العربية فيملئون الأثير صراخا وشتما (ولكما)، بينما يتحدثون بلهجة متزنة ونبرة خفيضة عندما تستضيفهم القنوات الغربية الناطقة بالإنجليزية... فتأمل!
أختم بما كتبته صحفية في صحيفة "الرياض" السعودية في 23 إبريل2012م من أن "التاريخ ليس دائما حكاية المنتصر فقط بل قد يكون أيضا حكاية المبرر والمسوغ والمقتطع من أجزاء، ومغفلاً أجزاء أخرى على حساب الحقيقة، قد تكون حكاية من يعتسف الأحداث ويسوقها بشكل يخدم مصالحه. التاريخ أيضا حمال أوجه، فللحكاية دوما جزء غامض متوارٍ قد تفتضحه الأيام أو قد يبتلعه الزمن ويقبره".
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]