السيد نائب الرئيس ساعدوها ب”جكة”

 


 

 




شكراً للسيد نائب رئيس الجمهورية الدكتور الحاج أدم, أخيراً وجدنا مسؤولاً حكومياً يقول الحقيقة المرة بلا تذويق, حتى وإن لم يقصد ذلك, عن الأسباب الفعلية للمأزق المالي الذي تكابده السلطة التنفيذية والأزمة الاقتصادية  الحادة التي تعيشها البلاد والخلل الخطير في الإدارة الحكومية التي قادتنا إلى هذه الحالة العصيبة في المعاش التي تعين على المواطنين أن يدفعوا ثمنها بدلاً من أن تتحمل السلطة مسؤوليتها عن قيادة البلاد والعباد إلى هذا المصير المؤسف.
حسناً لم يكشف السيد نائب الرئيس جديداً في تعليقه أمام المجلس الوطني بالأمس على بيان السيد وزير المالية والاقتصاد الوطني شيئاً لم يكن معروفاً من قبل عن الاختلالات الخطيرة في إدارة الملف الاقتصادي وهو ما ظللنا ننبه له منذ خمس سنوات على الأقل في هذه الصحيفة, وحذر من عواقبه العشرات من الخبراء والمختصين, لكن السلطة التنفيذية لم تعر اهتماماً لأية نصيحة وتجاهلت الجميع وهي تمعن في ممارسة الأخطاء حتى تراكمت وأفضت إلى هذه الورطة الحالية.
أهمية إفادات الدكتور الحاج أدم أنها تقدم اعترافات رسمية متأخرة للغاية عن الأسباب الحقيقية لأزمة الإدارة الحكومية للاقتصاد الوطني خلال السنوات الماضية, من أهمها على الإطلاق أن الموازنات المالية للحكومة التي يقدمها وزير المالية والاقتصاد الوطني لا تعكس الأرقام الحقيقية للوضع المالي للحكومة, وبدت لافتة مطالبته لوزارة المالية بتقديم أرقام حقيقية, فإذا كانت الحكومة لا تعلم فمن ذا الذي يعلم؟. وهذا يعني ببساطة أن الموازنة التي تقدمها الحكومة للبرلمان لإجازتها وتعمل بها ليست حقيقية, ولا تحيط بموارد المالية الفعلية, بمعنى آخر أنه ليست هناك موازنة أصلاً ولا يحزنون.
وأقر السيد نائب رئيس الجمهورية بأن الموازنة العامة لا تعبر عن الأداء الكلي الفعلي وأن ما يرد فيها جزء يسير من الوضع المالي للوحدات الحكومية الاتحاية ولا يتضمن إيرادات ومصروفات المؤسسات والشركات والهيئات المستقلة والولايات ومؤسسات التعليم العالي بسبب وضع ميزانياتها بواسطة مجالس إداراتها وعدم إيرادها في الموازنة التي تقدمها وزارة المالية.
وبرر ذلك بقوله "هناك مؤسسات ووحدات وعدد من الولايات رغم أنها مستقلة ولا نريد أن نتدخل في سلطاتها لكن لا ندري تفاصيل هذه الجهات, ولا ندري كم هي إيراداتها ومصروفاتها, لكن نريد معرفة حجم الموارد والحراك الاقتصادي الكلي للبلاد". والسؤال هل توجد دولة في العالم يُدار اقتصادها بهذه الطريقة لتي لا مثيل لها في أركان الدنيا الأربعة؟, تعترف الحكومة صراحة أنها تدري أنها لا تعرف على وجه التحديد كم هي حجم موارد البلاد المالية, ولا تدري كيف تُصرف, وفيم تُنفق, وأن الوزارة المعنية بهذا الشأن لا تحيط ولا هي قادرة بالقيام بوظيفتها الأساسية لأنها لا تملك ولاية لا على المال العام ولا على إدارة الاقتصاد الوطني, ثم تتحدث ببراءة أن سبب عجزها المتفاقم ما تقوله أنه "الدعم" الحكومي للسلع والخدمات, وأن الحل الوحيد بيدها في مداراة فشلها التام هو تحميل المواطنين مسؤولية ذلك الإخفاق الواضح ودفع فاتورته من جيوبهم المكدودة أصلاً.
ما كشفه السيد نائب رئيس الجمهورية خطير بلا شك, ليس لأنه لم يكن معروفاً, ولكن لإقراره بأن السلطة تعرف جيداً مكمن الخلل الذاتي في الإدارة الحكومية, ومع ذلك تصر بدلاً من معالجة جذور الأزمة التي تدري تشخصيها, تمضي بلا مبالاة في الإتجاه المعاكس معاقبة المواطنين لأنه لا حول لهم ولا قوة وتغض الطرف عن مساءلة المتسببين في هذا العجز الحكومي البائن.
والسؤال ما هو وجه الإصلاح الذي تتحدث عنه الحكومة, ووزير المالية يبشر المواطنين بالمزيد من المعاناة والرهق وهو يلوح منذراً بتطبيق ما يسميه جرعة جديدة من "الإصلاحات" العام المقبل, متفادياً تماماً الإشارة إلى العلل الحقيقية التي تتسبب في استدامة هذا الفشل الذريع في إدارة الاقتصاد الوطني.
ما تعنيه إفادات الدكتور الحاج أدم بوضوح أننا أمام حالة فريدة من "التفتت" في الدولاب الحكومي الذي اصيح يُدار باعترافه أن مؤسسات الحكم تحولت في الواقع إلى "كانتونات" مستقلة ولا علاقة لها بسلطة مركزية أوجب واجباتها الحفاظ على وحدة مقدرات وإمكانات الدولة وإداراتها وفق خطة موحدة مدروسة وحسب أولويات متفق عليها بما يخدم الصالح العام, لكن ما يحدث في أرض الواقع أن كل وزارة أو مؤسسة حكومية انتزعت لنفسها سلطة أن تسيطر على ما يليها, وما يمكن أن تصل إليها من الموارد العامة وتجييرها لصالح ما تراه مناسباً لمصالحها المباشرة وليس من أجل المصلحة العامة.
والمعنى أن السودان اليوم اصبح جمهوريات, وليس جمهورية واحدة, وتديره حكومات وليس حكومة واحدة تحت مفهوم غريب أنها مؤسسات مستقلة لا تريد السلطة التدخل في شؤونها, إذاً ماذا بقي بيد الحكومة المركزية وهي تقر أنها لا تعرف حقيقة حجم الموارد العامة ولا كيف تصرف, وكيف تتحدث عن استراتيجية, دعك من ربع قرنية أو خماسية, وهي غير قادرة على التحكم في إدارة الامور لعام واحد تتغير فيه الموازنة أكثر من مرة, لأنها لا تعرف في الواقع المعلومات الأساسية التي تمكنها من ذلك لأن مؤسساتها تتجاهل سلطتها, حتى قال أحدهم أن أكبر تجمع لحركات التمرد التي تواجه السلطة هي تلك المؤسسات الحكومية المستقلة بسلطانها في قلب الخرطوم, وليست تلك الحركات المسلحة في أطراف البلاد.
لقد بح صوت المراجع العام, السنة تلو الأخرى, وديوانه يقدم تقرير جامعاً مانعاً للمجلس الوطني يكشف فيها عن حجم الانفلات المالي في الدولة بسبب ظاهرة "التجنيب" التي تفشت بعد أن كانت حكراً على بضع مؤسسات حكومية ذات شوكة, فإذا هي تتحول إلى ممارسة عامة ولغ فيها الجميع, لأن المجلس الوطني كأن به صمم لا يفعل شيئاً من القيام بمسؤولية محاسبة الجهاز التنفيذي على هذا الانفلات في الأجهزة الحكومية التي لا توجد في أي بلد في العالم في عصرنا هذا, مكتفياً بإثارة زوبعة في أيام مناقشة تقرير المراجع العام, وتشكل اللجانوتقدم التوصيات, ولا شئ يحدث بعدها ويعود الجميع إلى الخلود إلى النوم في العسل, ليعيد المراجع العام تكرار الأمر نفسه في العام التالي بلا جدوى.
ولماذا لا ينتشر الفساد ويتخذ صفة مؤسسية, وهو ليس مجرد فساد أفراد, والجهاز التشريعي لا يحاسب أحداً, وكبار المسؤولين في السلطة يطالبون بتقديم الدليل, وبين أيديهم تقرير المراجع العام لا يكفيهم توثيقه لوقائع الفساد, فساد يتجاوز قصص الاختلاس والتجاوزات المالية الفردية, إلى رفض مؤسسات حكومية معتبرة حتى الخضوع للمراجعة القانونية, وإلى الفساد المؤسسي المعلن لرفض الخضوع  لما استقرت عليه النظم والأعراف والتقاليد لولاية وزارة المالية على المال العام, وعلى الاقتصاد الوطني.
ودعك من الفساد الذي تعددت مظاهره مما لا يحتاج حتى للسؤال عن من أين لك هكذا وقد أبت الدنانير إلا ان تطل برأسها, فالمفسدة الأعظم هي إدارة دولاب الدولة من خارج مؤسسات الحكم ومن خارج نظمها المعلومة المستقرة لأية دولة مما يكشفه هذا التغول غير المبرر على الإطلاق المال العام خارج الولاية الحصرية للوزارة المعنية, وبعيداً عن أية محاسبة أو مساءلة, قفزاً على الأولويات المدروسة وليس مما تقتضيه حكمة التخطيط, ولذلك سادت وتفشت ظاهرة القصور المشيدة والآبار المعطلة.
وقد رافق انفلات سيطرة الحكومة عن الإحاطة بإدارة الموارد العامة, إيراداً وصرفاً, مما أورث سلطتها المركزية العوز ومؤسساتها غنية تحاكي حالة الإبل في البيداء عطشى والماء على ظهورها محمول, الفقر المدقع في الخطط والبرامج وحالها على كثرة ما تعلنه السلطة من برامج استراتيجية مجرد أوان فارغة كثيرة الصخب منعدمة المردود.
ومن ذلك ما ظل يردده المسؤولون أخيراً من أسباب لتبرير الورطة الاقتصادية الراهنة مثل ما ورد في خطاب وزير المالية أمام المجلس الوطني من أنها نتيجة للإفرازات السالبة للأزمة المالية العالمية, يااااااه تذكرونها تلك الأزمة التي مضت عليها خمس سنوات, يتحدثون عنها وكأنها اكتشاف جديد, متناسين ببراءة أن معظم الذين يديرون الملف الاقتصادي كانوا أنكروا حينها تماماً أن يكون لها أي تأثير سلبي على الاقتصاد السوداني, مع كل المداد الذي أهقرناه لنببه لخطورته, وعزا بعضهم ضعف تأثيرها بسبب العقوبات الأمريكية المفروضة على البلاد معتقدين أنها أزمة تخص الولايات المتحدة, والمفاجأة أن التبرير الآخر الذي سيق في خطاب السيد الوزير أن استمرار العقوبات والمقاطعات الاقتصادية هي سبب آخر, ولا يزال الناس يذكرون تقليل هؤلاء المسؤولين من شأن العقوبات الأمريكية زاعمين أن لا تأثير لها وقد وجدت البلاد في الصين بديلاً, ولكن ها هم اليوم يعودون ليعترفوا بعد أن وقع الفأس على الرأس بعمق تأثيرها, والمثير أنهم هم الأشخاص أنفسهم الذين لا يزالون يتحكمون في إدارة الملف الاقتصادي بعد هذا كله لا يتزحزحون عن مقاعدهم قيد أنملة.
وتحدث البيان عن تدني صادرات النفط  كمبرر آخر, وكأن تقسيم البلاد وانفصال الجنوب حدث فجأة بالأمس, وكان في باب العلم العام منذ سنين عدداً أنه حادث لا محالة, ولكن السادة مديرو الملف الاقتصادي كالمعتاد كانونا مشغولين بعقلية الإنكار بنفي أن يكون لاستقلال الجنوب تأثير اقتصادي سالب على ما تبقى من البلاد بدلاً من الانصراف للتحسب لوقوعه, وكان الأولى بهم لو كان هناك تخطيط استراتيجي حقاً في أدنى درجاته أن يبدأ الاستعداد لتلافي تبعات وعواقب التقسيم من أول يوم في الفترة الانتقالية بعد تنفيذ اتفاقية السلام وقد أصبح الانفصال خياراً دستورياً باحتمال يناصف بقاء البلاد موحدة, ولكن استمرت إدارة الأمور بأسلوب "رزق اليوم باليوم", وجاء البرنامج الثلاثي الإسعافي متأخراً سبع سنوات بعد أن جف ضرع الموارد النفطية السهلة, وما كان الأمر محتاجاً لخبراء افذاذ, إذ كانت يكفيهم الأخذ بنصيحة يوسف عليه السلام وهي متلوةً في القرأن.
يصيب الناس الجزع ليس بسبب أن هناك أزمة اقتصادية تطحنهم كل يوم وهم يدفعون ثمن أخطاء كارثية لم يكونوا السبب فيها, ولكن فقدانهم الأمل في رؤية مخرج وإن طال انتظارهم, مع استمرار ذهنية التعاطي مع هذه الأوضاع المنذرة بالعقلية ذاتها التي أنتجت الأزمة, وبهذه المبررات التي تتغابى بوعي عن التعامل مع جذور المشكلة, وتسنتكف عن دفع استحقاقات الجراحة المؤلمة التي يتوجب على السلطة أن تجريها على جسدها لاجثتاث هذا المرض الدفين.وإن كان هناك ثمة إصلاح اقتصادي حقيقي فمكانه في خزائن الحكومة وليس في جيوب المواطنين الخاوية.
ولكن السيد نائب الرئيس حاول تقديم حلاً غيبياً بقوله إن أرزاق الله لا يحيطها وزير المالية بأرقامه لأننا نعتمد على نعمة الله وبركاته, حسناً ونعم بالله لكن فضلاً "ساعدوها بجكة"!!!
Khalid Tigani [tigani60@hotmail.com]

 

آراء