السي إن إن وذهب السودان: جيت اتفرج فرجو بي

 


 

 

وقعت السي إن إن بتقريرها عن روسيا وذهب السودان (29 يوليو) في محظور إعلامي وهو أن تكون أنت الخبر في حين أنك لم ترد سوى أن تكون الراوي للخبر. فعكّر الخبر، التقرير، أجواء الخرطوم الملبدة بالخصومة أصلاً تعكيراً صارت به السي إن إن نفسها في قفص المحاكمة خبراً تتناقله الأقلام والأفواه.
تذرع أنصار حكومة انقلاب 25 أكتوبر 2022 بالوطنية والمهنية معاً للهجوم على التقرير. فصرفوه وطنياً على أنه مطاعن في روسيا اتخذت السودان سبيلا. وصرفوه مهنياً لأن مصادره عندهم عوراء وفي أرقامه مغالاة. وتجدهم كما سنبين أدناه أنهم ركزوا على التقرير التلفزيوني الذي هو خلاصة تقرير أوسع للسي إن إن .
صح هنا التفريق بين تقريرين للسي إن إن. فاتهامات من اعترضوا عليها أخذوا بالتقرير التلفزيوني الذي أعدته نعمة الباقر وقدمته. وهو تقرير مستمد من تقرير موسع منشور على صفحة القناة حررته نعمة الباقر ضمن آخرين. ومصادر القناة في هذا التقرير الموسع مهنية وكثيرة. فطلبت إفادات من وزارة الدفاع السودانية عن صلتها بالشركة الروسية ولم تتلق رداً. ولم تتلق رداً كذلك من وزارتي الدفاع والخارجية الروسيتين ومن إدارة الشركة الروسية الأم. ورجعت القناة لسجل الشركات في السودان لتكشف عن كيف غيرت الشركة الروسية، مروي قولدن، اسمها إلى صولاج بعد العقوبات الأمريكية التي طالتها. واستعانت القناة بمركز الدوسير المتخصص في ملاحقة حركة أموال الأوليغارك الروس الذي يرعاه ميخائيل خودوركسكي. وهو نفسه أوليغاركي روسي تمرد على الرئيس بوتين. كما استعرضت القناة جداول الطيران على حساب قوروجان على تويتر كشفت به حركة طيران روسي نشط بين الخرطوم واللاذقية في سوريا وأفريقيا الوسطى. فالتقرير التلفزيوني مستمد من التقرير المنشور حسن الخدمة المهنية.
ولم يخل المعترضون على تقرير السي إن إن من سوء نقل. فجاءت في التقرير التلفزيوني إحصائيتين عن إنتاج الذهب في السودان. قال في الأولى إنه 60 طناً ناظراً لسجل رسمي من تلك التي قالت القناة إنها اطلعت عليها كما تقدم. وزاد التقرير بقوله إن بعض من تحدثوا إليه من الباطن قالوا إن الإنتاج كان 223 طناً. وتغاضى نقدة القناة بإجماع غريب الرواية الأولى بالمرة وروجوا للثانية وهجموا عليها كمبالغة ليس بوسع مواعين صناعة الذهب استخراجها. ومن المفارقة أن رواية القناة الأولى (60 طناً) أقل من تقدير مجلس الذهب العالمي للإنتاج السوداني وهو 85 مليون طناً كما تقدم. فلو لم تحمل شعواء الخصومة عائبي القناة لتوخوا القسط في النقد.
من جهة أخرى، فوجئت الأوساط الصحفية بضعف حجة بيان وزارة المعادن في دحض تقرير السي إن إن الذي وصفته بانه "فقير وضعيف وغير دقيق في بعضه وأرقامه مضخمة، بل خيالية". وأخذت وزارة المعادن كغيرها بقول التقرير الثاني عن انتاج السودان من الذهب (223 طن) بينما أضربت بالكلية عما جاء في الرواية الأولى من أنه 60 طناً. فنهت الوزارة عن شيء وفعلته: نهت عن سوء النقل عنها وساء نقلها عن تقرير السي إن إن.
الذهب هو سلعة الصادر الرئيسة منذ نضوب النفط بانفصال جنوب السودان في 2011. وكان ما صدّرنا منه 46 طناً بعائد تجاوز 2 مليار دولار في 2012. ولم نبلغ ذلك الحجم من الإنتاج في السنوات العاقبة إلى يومنا. وآفته النقص بالتهريب الذي لم تنكره لا الوزارة ولا النقاد في الوسائط الإعلامية. فذهب السودان باختصار حياة السودان.
وبناء عليه ود المرء لو كان تقرير السي إن إن جرس إنذار لحراسة مواردنا بنباهة أكثر لا سبباً للفرح به لأنه قطع لمعارضي الحكومة قول كل خطيب، أو للتخلص منه جدلاً حول الأرقام، أو التجريم بسوء النية وكفى. فلو انتجنا طناً أو ألف وجب أن نعرف من ينجم عن الذهب في وسطنا، وما شروطنا لإنتاجه، وما العائد منه. فللموارد حرمة. ولذا اقترح أحدهم قيام مركز لمعلومات الذهب والمعادن لسد الفرج على التنابذ بالأرقام. بل بلغ السقم ببعضهم ليدعو لإيقاف تعدين الذهب بالكلية حتى نحيط ببيئة إنتاجه كما لا نفعل الآن. فنقف على آثاره السلبية على محيطه من البشر والطبيعة، وكفالة حقوق الجماعات التي ينبثق الذهب في مناطقها. وتصادف أن جاء تقرير السي إن إن والتظلم من آثاره الضارة على هذه المناطق قد استفحل. فأغلقت جماعة من سكان أهم مواقع التعدين في ولاية نهر النيل شارعاً، هو شريان الحركة بتلك الجهة، تطالب بالتعويض العادل عن آثار التعدين عليهم.
في سوالف السودانيين حكاية عمن جاء يتفرج على أمر فصار هو موضوع الفرجة. قال "جيت اتفرج فرجوبي". وبدا لي أن السي إن جاءت تخبر بتقريرها عن ذهب السودان فصارت، في بلد في سكرات الاستقطاب السياسي، هي نفسها خبراً.

IbrahimA@missouri.edu

 

آراء