الشاعر حسن أبوكدوك.. رجلٌ إنتظرَ الموتَ طويلا

 


 

 

كان يضع كرسيه على ناصية منزل والده الذي يشرِف على ثلاثة شوارع. في ذلك الحي الذي يحمل إسم جده (حي أبوكدوك العريق بأمدرمان) يرقُبُ المارة بحذر خوف أن يختلط به أحد. فقد اعتزل الناس بعد أن أدرك جوهر الحياة بحس شاعر قادر على أن ينفذ ببصيرته لماوراء الواقع. بعد أن تداعت في داخله - بحكم خيبات الساسة والسياسة - عوالمٌ شادها من الشعر المنثور... والنثر الشعري .. وبأقاصيص قِصار هُنّ درر في هذا الضرب العصي من الفن، حشد فيها كل عبقريته الفذة التي وهبها الله له... فنشر قصائده طوال عقد السبعينات في صحف الخرطوم السيارة مزاحماً بتلك الشوارد عمالقة أهل الشعر والإبداع.. فقد كان يقول:(إنه لا يُقرِض الشعر، وإنما "يُصعلكُ" الشعر).. والحق أنه كان يصور بناصع نظمه كل مستطرف مستظرف لا يخطر على البال، مناحي الحياة الأمدرمانية الثرة من (شحاذين و سكارى و حمالين ومتصوفة وبائعات خمر وبائعات هوى وحسناوات عذارى وتجار، وفقراء، وطلاب وأثرياء... إلخ ثم ينداح بأمانيه العراض نحو عالم تسوده العدالة والحرية والسلام) ثم إنكفأ على نفسه تلك الإنكفاءة المفاجأة معتزلاً الناس والأدب والسياسة وكل ما يتعلق بالحياة الإجتماعية من مقتضيات المجاملات والإختلاط.
لم تساوره منذ انعزالته تلك المجيدة مغريات الحياة، فعاش على هامشها طائعاً مختاراً يتحين أوان الرحيل الذي كان يستعجله بلهفةٍ لا تَني تنظر للحياة تلك النظرة الغامضة التي تحمل في طياتها الأبعاد اللانهائية لإستواء الوجود والعدم.
فقد عاش أبوكدوك الحياة كميت، ومات كأروع ما تكون الحياة عندما يمضي الإنسان وليس في قلبه مضغة سوداء تجاه أحد.
ولا في كفيه بقعة دم من شرايين أحد.
ولم تثقل ما بين جنبيه مظلمة بحق أحد.
فكان موته شاعرياً بقدر ما كانت حياته شاعرية، ملؤها النكتة اللمّاحة التي عادة ما يبدأها بقوله:(واحد صاحبنا شيوعي .... ) ثم يفضح الواقع بطرفة تبرز فيها المفارقة ما بين الكائن والمأمول..
خرج أبوكدوك ملوحاً بيده المعروقة بأن غاية ما كان يرتجيه قد تحقق، وأن جلسته على الناصية قد كفته بأن يرى بعينه التلسكوبية كل تلك المخازي التي دعته للعزلة وهو بَعْد وافرُ الدفق الشعري، مترعٌ بالإبداع قادر على العطاء لعله يجد في عالمه الآخر، عالماً آخراً أروع مما أبدعه خياله المَثَّال.
د. محمد عبد الحميد

wadrajab222@gmail.com

 

 

آراء